١٠.٩.٠٥

كل الشعاب تفضي إلى عنجر فدمشق

حميد عواد*

قلّما إنصبّ الإهتمام الدولي على قضيّة و انكبّ على معالجتها بوتيرة حثيثة، مثل إنهماكه الشغوف في انتشال لبنان من خاطفيه، و مثل انخراطه الجدّي في التنقيب عن الأدلة و كشف المتورطين في مؤامرة إغتيال الرئيس رفيق الحريري العالمي الرصيد.

إن الإهتمام الذي تستأثر به تحريات المحقق الألماني ديتليف ميليس و فريقه المتعدد الجنسيات المولجين بفكّ ألغاز هذه الجريمة الإرهابية، فاق بأشواط الإستقطاب الذي حظيت به قصص من مخيلة أغاتا كريستي و إيان فليمنغ و أخرى من الواقع كقصة "الثعلب" و عمليات "كارلوس" الإرهابي و الذين "طوروا" أساليبه من السلفيين.

اليوم، غداة إنحسار إعصار "كاترينا" الكاسح عن "نيو أورليانز"، يتحسب النظام السوري لهبوب إعصار "ديتلف" المقبل عليه بدفع دولي قوي الزخم.

إذ يتوجس من تحقيقاته و يتخوّف من معلوماته لئلا تطيح بأركان حزب البعث و تجرف معها كل معالمه من مواقع الحكم في سوريا.

"قطاف" ديتلف ميليس أرسى شبهات في لبنان على رؤساء سابقين لأجهزة أمنية، "متورطين إلى حدّ ما" (حسب ميليس) في المؤامرة، و حثه على الذهاب إلى دمشق "لإكمال الصورة".

فهذا الإستقصاء هو"شيء أساسي في إرساء الحقيقة"، من خلال استنطاق مديري الشبكات الأمنية التي كانت مطبقة على لبنان، و التي انكفأت عنه "رسمياً" في 26 نيسان المنصرم، بناءً على مقتضيات قرار مجلس الأمن 1559.

اللبنانيون مرتاحون إلى تطابق مكتشفات ميليس مع ما خبروه في معاناتهم من تعسف "منظومة" " جهاز الأمن و الإستطلاع".

فهم يتذكرون موقف الرئيس الحريري الرافض بإصرار التجديد للرئيس لحود.

و يعرفون أن الإذعان لهذا المطلب السوري لم يكن مجرد استجابة "لتمنٍ" أخوي.

فقد رشح أنّ وقائعه مسجلة بالصوت في "قلم حبر" أهداه الرئيس شيراك إلى صديقه ليستخدمه في آخر لقاء "خاطف" عقده مع الرئيس بشار الأسد و فيما تلاه خلال "استضافة" اللواء رستم غزالي له في عنجر.

و المضمون كان أسرّ به الفقيد إلى المقربين منه و تسرب إلى وسائل الإعلام، كما ذكره بيتر فيتزجيرالد في تقريره الأولي.

و اللبنانيون يعلمون أن الرابطة الوثقى بين رؤساء الأجهزة الأمنية "اللبنانية" و لواء عنجر لا تسمح لهم بالمبادرة المنفردة.

سبق أن روى الشهيد الواقعة "الطريفة" التي كشف فيها كيف كان "المسؤول" عن أمنه الشخصي "يبلّغ" أدق التفاصيل عن أخباره إلى "مرجعيته" في عنجر.

و بعدما بدد اليقين الشك "أعفى" الفقيد رئيس حرسه من مهمته.

و هو الآن موقوف للإشتباه بتورطه في ارتكاب الجريمة.

اللبنانيون يدركون أنّ انسحاب عسكر النظام السوري من لبنان يشكل بداية أفول القيادة السورية لأن لبنان كان مصدراً حيوياً لإمدادها بمقومات البقاء.

لذلك كان صدور قرار مجلس الأمن الدولي 1559 بمثابة صدمة عنيفة هزّت فرائص أركان هذا النظام.

و بالتالي فإنّ إغتيال الرئيس الحريري يمكن إدراجه في سياق الإنتقام منه بعد أتهامه بالإضطلاع في بلورة هذا القرار من قبل "أنصار" النظام السوري.

و هذا ما وصفه فيتزجيرالد باجواء التحريض على ارتكاب الجريمة.

لقد خرجت إلى دائرة الضوء و قبل الإغتيال الآثم مسألة "اختفاء" طن من المتفجرات من أحد مخازن الجيش السوري من البقاع و عادت لتبرز من جديد بعد هذه المجزرة الشنيعة.

و كشفت تقارير عن صفقة شراء مواد شديدة الإنفجار من شركة سلوفاكية فتحركت مخابرات هذا البلد للتدقيق في صحة الخبر و عُلم أن هكذا صفقات لا تعقد إلا مع دول.

كما نشرت صحيفة "النهار" منذ أيام خبراً مفاده أنّ رئيس شركة نفطية خلال نزوله إلى مطار بيروت ( قبيل ارتكاب الجريمة النكراء ) استُوقِف في المطار ليُسأل عن محتويات كيمائية كان
ينقلها في قنان داخل حقائبه.

فسارع إلى الإتصال بقريب له ( مسؤول أمني) و خلال دقائق حضر هذا المسؤول برفقة مسؤول أمني سوري مزّق المحضر المتعلق بإحضار هذه المواد و غادر الثلاثة المطار مع الحقائب دون أفساح المجال لأحد بالتدخل.

ما يطفو أمام الناظرين و ما يستخلصه المتبصرون هو غيض من فيض ما يعرفه المحقق ديتليف ميليس.

لكن الخبر اليقين عن دقائق هذه المؤامرة الشائكة سيبقى في عهدته حتى يحين موعد الجهر به.

فبفضل التفويض المطلق الذي محضه إياه مجلس الأمن في نص القرار 1595 تمكّن من الإستماع إلى مئات الشهود و استنطاق المشبوهين و الحصول على وثائق و تسجيلات صوتية من مصادر و دول مختلفة.

و بفضل حنكته و حذاقته و احتراف طاقمه و تطور التقنيات الموضوعة في تصرفهم جمع و حلل و ربط مكونات اللغز.

لعل أهم المصادر هي من الضباط السوريين الذين شغلوا مناصب حساسة في اجهزة المخابرات السورية ثم "اعتزلوا" و غادروا سوريا.

رغم أن جعبة ميليس مليئة بالوثائق الدامغة التى قد تكفي لبناء مقتضيات الإدعاء فمن الطبيعي أن يصرّ على مقابلة أركان المخابرات السورية.

لسان حاله قول أبي النوّاس ( مع استبدال "خمر" ب "خبر") :

أسقني خمراً و قل لي هي الخمر
و لا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهر


لقد سرّع استشهاد الرئيس الحريري في جلاء الجيش السوري عن لبنان، أما نتائج التحقيق فيبدو أنها آيلة إلى إنهاء عهد حكم حزب البعث في سوريا!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية