٨.٢.٠٩

المال يُعوّض أمّا الوطن فلا

حميد عواد*

السلطة و الثروة و القدرة و المعرفة و التلقين الجذاب هي أرصدة مزدوجة النتائج:
إذا إمتلكها الأخيار و وظفوها في خدمة الإنسانية، رفعوا المجتمعات إلى أعلى المراتب.
أما إذا إقتنصها الأشرار و المهووسون، في غفلة من القيّمين على تأمين سلامة توجهها، و سخّروها لإستعباد البشر و إستغلال طاقاتهم و إعاقة نموّهم و تشويه طباعهم، لأورثوهم تحجّراً في العقل و تقلّصاً في الوعي و بروزاً للغرائز البهيمية التي يثير إضطرابها "جزراً" تقهقرياً تلاطم أمواجه دفق "مدّ" تيارات التطور.
لسنوات عدة تركت الاسواق المالية العالمية شبه مستباحة لنهش الصقور الشرهة.
إذ غضّ طرف الرقيب عن العمليات المشبوهة و التقارير المضللة و البيانات المغشوشة و التوقعات المضخمة و الإختلاسات المموهة و التوظيفات الخطرة والقروض العشوائية الهائلة التي قصمت ظهور المستدينين العاجزين عن إيفائها.
فأتانا زرع الريح بحصاد العاصفة و تفجرت الأوهام زلازل أطاحت بصروح مالية عريقة و شركات عملاقة تساقطت معها مؤسسات لا تحصى معممة البطالة و الإفلاس.
و الطامة الكبرى هي أن الحكومات وعت ضرورة التدخل متأخرة فرتبت على كاهل المكلفين، ضحايا الكارثة الذين تبخرت مدخراتهم، مزيداً من الديون لتقرض المصارف و المؤسسات التي تعتبرها عصب الإقتصاد و توظف في مجالات تحفز، حسب تقديرها، النشاط الإقتصادي، لإنقاذ العالم من الركود.
رغم ضخّ الدول الكبرى مبالغ طائلة من الأموال لكبح التدهور و إنعاش مقومات الحياة، يسود التوجس و الهلع من إتساع مدى إكتساح هذا الإعصار الذي هو في طور بدايته.
أما السؤال المحيّر الذي يرتسم في الأذهان فهو: أية خزائن تسرب إليها كل هذا المال؟
في الجو الحالك و المدلهمّ الذي ينذر بالفاقة و العوز و الجوع، يستذكر المرء التهور و الإسراف و التبذير الذين طبعوا سلوك العديد من "أباطرة" المال، أفراداً و جماعات و حكاماً، حيث هدروا الأموال الخاصة و العامة دون حساب.
و إذا كان شنيعاً إستغلال مال الغير لإشباع نهم "الغيلان"، فأشنع منه هو حرقه لإشعال حروب و إيقاد نزاعات تلهبها دون هوادة حميّة العقائد المتصلّبة المشرئبّة لإنتزاع حقوق من حيّز النقاش السلمي و زجّها في أتون النزاعات المسلحة.
لإدراك مدى أذية وهول و عبثية الحروب، تكفي الإشارة إلى فداحة حروب الشرق الأوسط التي زهقت نيرانها مئات الآلاف من الأرواح و نشرت الدمار و البؤس و التخلّف مستهلكة إثنا عشرة تريليون دولاراً.
فلو إعتمدت الحلول السلمية لسلمت نفوس الضحايا و صرفت الأموال على تحسين أوضاع الشعوب، و إجتثّ الجوع و مُحيت الأمية و إستؤصل المرض و نشر الأمان و الطمانينة و السلام و الرفاهية في أرجاء العالم.
رغم المعاكسة الشرسة لأنظمة التأله و الإستبداد المستقوية بالسلاح و البطش و المنتصبة على جثث رعاياها و جثامين حلفائها، لا بدّ من المثابرة على تضافر جهود كل الدول الحرة المؤمنة بالحوار و التفاهم و الوئام و السلام، ضمن إطار تحرك شامل منسّق و حثيث، يكبح جماح عشاق سفك الدماء، و يجمع و يؤازر قوى الإعتدال.
فيواكبها خلال إستكشاف آفاق معالجة سلمية عادلة و حاسمة و حازمة لجذور الصراعات القائمة، حتى تتكلل المساعي بإبرام إتفاقات حلول دائمة، تدعم التدابير المتخذة لتخفيف أعباء الأزمة الإقتصادية و تسهّل الإرتقاء إلى الإنعاش تحفزاً لبلوغ البحبوحة.
إن "الفروع" المنبثقة من الأنظمة "المصدّرة للثورات" و القلاقل، على صورة "أصولها"، تحسب مواطنيها و "المتخرجين" من دورات تدريبها بيادق تحشدها في معاركها و تسدّ "فراغات" ما تستهلكه الحرب بمخزون متجدد لا ينضب، و تستدرّ بكثافة الضحايا عطف الرأي العام في المجتمعات الحرة و تصوّر كل "موقعة" خاضتها إنتصاراً لها.
لا تكفّ هذه الأنظمة المشاكسة و المتمردة عن تعزيز قدراتها العسكرية و اللوجستية و المادية و البشرية المحدودة بالحصار و الحظر العالمين اللذين يطوّقان "طموحاتها".
و كلما حاول المجتمع العالمي فتح سبل لحوار مشروط معها لإقناعها بالتخلي عن شبق التطاول و الهيمنة على دول جوارها و ب"ترويض" نشاطات التخصيب النووي و الإقلاع عن عرقلة الحلول السلمية، كلما سجّلت إنتصاراً لتعنتها.
ثم تنطلق من بعض الكبوات و النكسات التي تصيب الدول الديمقراطية لتعلن سقوط الحضارات و نجاح أنماط الحكم المتخلفة و القمعية و الهجينة التي تمارسها.
إن أنظمة التقهقر هذه تثابر على "تصدير" خلاياها المبرمجة لغزو تدريجي للمجتمعات المنفتحة مستغلة بيئتها المضيافة لتكثير أعدادها و ترجيح كفة قلب المعايير لملاء مة عقائدها.
إن مراحل التغلغل العقائدي و التمدد البشري في لبنان بلغت مراحل حرجة تحتم تراص أبنائه الحريصين على صيانة طابعه الديمقراطي الحضاري ليشكلوا سداً منيعاً في وجه خطة الهيمنة المنهجية التوسعية التي تستهدفه. تحت شعار الممانعة و التصدي بويع الولاء للخارج و ضيّقت على اللبنانيين سبل العيش و زعزع إستقرارهم و إنتزعت الإمتيازات لحملة راية "ولاية الفقيه" حصصاً في الأرض و في مواقع السلطات و القرار تجاوزت نطاق الشراكة إلى إلزامية الفرض.
هذا الإستقطاب للنفوذ المدعوم بقوة السلاح سبب إنشطاراً حاداً ضمن صفوف الشعب اللبناني: شطر حريص على ولاية الجمهورية اللبنانية بدستورها وقوانينها ومؤسساتها و شطر يفذلك ولاية الفقيه ليغزلها و يحبكها في نسيج الدولة ليجعلها "جماهيرية" ثيوقراطية منجذبة و هائمة في فلك إيران و قمرها السوري.
مهما تفاقم ذرّ الرماد في العيون لتعييب مشروع ترسيخ سيادة الدولة و "تظهير" "فضائل" ركوب البساط الأعجمي السحري، لا بد أن يكتشف اللبنانيون حيل إشاحة الأنظار عن خطورة المشروع المموه و أن يثبتوا إعتراضهم على محاولات تمسيخ وطنهم فيحشدوا تأييدهم لحرية و سيادة و إستقلال و فرادة لبنان. فحذار في الإنتخابات المقبلة سلوك طريق المقصلة.
مستعيناً و معدلاً ببيت من شعر المتنبي أقول:
"الرأي" أصدق إنباءً من "الخطب" في حدّه الحدّ بين "العزّ" و "الجدب"

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية