١٨.٤.١٢

حماية الوطن عناية إلهيّة وعيون بشريّة وهداية ذكيّة

المهندس حميد عواد* توافقاً مع تنوّع نسيجه البشري صاغ اللبنانيّون لوطنهم نظاماً ديمقراطياً يتميّز عن محيطه بحماية الحريّات العامّة والحقوق المدنيّة وتأمين إنسياب سلس لتداول السلطة ورعاية حريّة ممارسة الطقوس الدينيّة ضمن أطرها الخاصة دون تجاوزها نحو هيمنة أو إكراه أو غدر أو تعدٍ، وقد إرتئي توزيع المناصب الرفيعة وفق عرف إعتمد وأُقرّت المناصفة في التمثيل النيابي والحكومة ووظائف الدرجة الأولى.

ثمانية عشر طائفة توشّح قيم اللبنانيّين لكنّ فروقاتها تبهُت وتذوب في بوتقة المواطنيّة الصالحة عند تألّق وتجلّي صفاء شخصيّة المواطن الشغوف والفخور بعزّة وطنه.

صوناً لهذه الشخصيّة نستجير بالحماية الإلهيّة ورقابة السلطات الدنيويّة حكوميّة وإجتماعيّة لكفّ أذى سحرة الشعوذة السياسيّة المتمرّغة بالربح المادي والسلطوي ومعاقبة فاقدي الضمير الذين يجنون الأموال من ضفّتي تجارتهم القائمة على الغشّ: أوّلها المصدر حيث يخلّصون الدول من نفايات أطعمتها وأدويتها والفاسدة وثانيها سوق التصريف المستوردة إليه-لبنان-حيث يدفع المواطن قروشه الشحيحة والمستدانة ليشتري ويستهلك هذه السموم بأغلى الأثمان.

كما نتضرّع للعناية الإلهيّة ونحثّ السلطات الحكومية والروحيّة لحماية المجتمعات من مدّعي "القتال في سبيل الله" معتقدين أنّه "أسمى طقوس عبادتهم" وكأنّهم "فُوّضوا" من صميم إرادته سلطة تصنيف خلائقه و"تأديبها وإدانتها" حسب ما شبّه لهم أنّها مشيئته.

ما زال ضلالهم يورّطهم في شنّ الحروب على "أعدائهم" ممن يستهجن جموحهم وتهوّرهم ويستنطقهم بقذف ألسنة التحريض واللهب توسّلاً ل"شقّ دربهم" إلى إغتصاب السلطة ليقيموا "ملكهم الفاضل"!

الزمن في أذهانهم محجور في العصور الغابرة أمّا جغرافيا "طموحهم" فلا حدود لها.

تزمّتهم معضلة وجوديّة وشهوة التوسّع المتأجّجة في صدورهم تشرئبّ لإبتلاع كيان الوطن وتتوّه أهله المفطورين على إغناء المعرفة وإنماء التواصل الحضاريّ مع العالم.

هل بالتوتّر الدائم وشحن النفوس والتهويل والترهيب تُببتهل العزّة الإلهيّة؟ وهل بسفك الدماء تُستدرّ بركاتها؟

النزعة الغريزية لدى كلّ مستبدّ لممارسة القمع والجور والتنكيل بالأحرار وإستباحة الكرامات والحقوق والأرواح هو ردّة جاهليّة تتحدّى أصالة القيم الروحيّة والأخلاقيّة والعصريّة.

التنكّر للوفاء والولاء الوطنيّين والمشاركة في قطع "حبل السُّرَّة" الممتدّ من أعماق التاريخ والمساهمة في تشويه صورة لبنان الحضارية وخنق الرأي الحر الرشيد وهدر تضحيات اللبنانيين-منتصرين على مداهمات الموت أم مستشهدين على رجاء القيامة-وإجهاض جهودهم الخيّرة المحفّزة لنهوض الوطن والداعمة لصموده في وجه حملات أمواج وأفواج التخلّف والتعصّب هو جريمة لا تُغتفر.

حماية البشر من طاعون الإرهاب الناشئ عن التلقين الملوّث بالجهل والخبث والإستغلال والضلال، يقتضي معالجة جذريّة وشجاعة من قبل القيّمين على صيانة الشؤون الروحيّة والتربية المدنيّة لمنع الإنحراف وإستئصال زارعيه.

تخريب النفوس و العقول هو تفخيخ يستهدف نسف الإنجازات الحضاريّة أمّا التثقيف السليم والرحب الآفاق فهو ضمانة الإلفة والتعاون والنموّ والإرتقاء والرفاه.

واجب الوجود والصمود هو رصّ صفوف المخلصين وصبّ جهودهم لوقف الأذى ومنع الإنقراض.

مساعٍ جبّارة كُرّست لبناء الوطن وتعزيز مؤسّسات الدولة مهدّدة بالإنتكاس والإحباط تحت وطأة ضغوط مسلّحين مرعيين من الخارج لا تأتلف أهدافهم مع طبيعة النظام اللبناني ولا مع تطلّعات غالبيّة أهله المتنوّرين.

مهما تضخّمت ضغوط الطغاة فهي لا تبرّر "القفز" خارج كنف الأصالة والسقوط فى الهاوية.

الرضوخ للبطش هو ذلّ وتسعير لعنفه وإغتيال للعدالة تحت ذريعة التوجّس من الظلم.

الإستبداد تأليه لذات مطبوعة بالجشع والغرور والنزق والشراسة والتطيّر وإحتقار الغير تتحكّم بعامّة الشعب كعبيد ملزمين بواجب تبجيلها وخدمتها وطاعتها مجرّدين من حقوق أساسيّة.

التاريخ حافل بفظائع حكّام رهيبين يتناسخون في بعض الحكّام المعاصرين الغاشمين الذين إبتليت بهم دول زادوها تخلّفاً فيما غالبية القادة الملهمين رؤيويّن يسابقون الزمن ويلهبون مواهب وطاقات شعوبهم ويتيحون لهم سبل النجاح ووسائل التنفيذ والموارد الضروريّة لدفع نموّهم وتطوّرهم قدماً.

نقابة تكتّل الدكتاتوريين المتعاطفين والمتحالفين قلقة لفقدانها تباعاً شلّة من أعضائها تهاوت وأخرى تترنّح أمام يقظة وشجاعة وإقدام وإنتفاضات الشعوب المسحوقة ببطشهم.

بالنسبة للطغاة، السياسة نخاسة تسخّر أو تستكري سواعد أصحاب الأدمغة "المغسولة" والمشحونة بتحريضهم والمتشنّجة بحموضة شعوذة خطبهم، ليشنّوا هجماتهم على مناوئيهم ويؤمّنوا لأنفسهم الحماية وديمومة تسلّطهم.

وبما أنّ وجودهم تحدٍّ لمفاهيم الحداثة والتطوّر فَهُم يختلسون الثروات المنهوبة من شعوبهم ويتوسّلون العنف والرشى والإعتقال التعسّفيّ ليفرضوا مشيئتهم كما لايتورّعون عن طرح أنماط إستبدادهم "مثالاً وقدوة ليحتذي" بهما الآخرون.

فالثورة الإسلاميّة في إيران تعتبر نفسها "قنبلة ذرّيّة" ترامت أشعّتها في الدول العربيّة التي شهدت الإنتفاضات الربيعيّة أمّا النظام السوري بعد تباه مزمن "بمنجزاته" وزرع الرعب والتخلّف عن الإصلاح بدأ بحصاد العاصفة.

و"بمصادفة غريبة" نشهد سقوط بند غير صريح يُقرأ بين سطور بنود ما سُميّ "إتّفاق الدوحة" المخترقة "جمّد" الإغتيالات التي إستهدفت قيادات من قوى 14 آذار وعاود الفريق الممتهن لأسلوب التصفيات نشاطه الإجرامي بعد جملة "إشارات" تنذر بذلك دفعت بعض القيادات المستهدفة إلى إتخاذ تدابير إحتياطيّة قاسية.

أتوجّه بالشكر للعناية الإلهيّة العجائبية التي أنقذت الدكتور سمير جعجع والأستاذ مصطفى جحا من محاولتي الإغتيال وأهنئهما على نجاتهما من العملين الإجراميَّين آملا كشف مرتكبيهما ودعم جهود الرصد الأمني تقنيّا (دون تلكؤ) وعينيّاً فيصبح كل مواطن رقيب.

إنّ عظمة النضال لإنهاض لبنان أبرزها رصيد التضحيات الجليلة المبذولة لصيانة السيادة والإستقلال بتفانٍ وهداية ضمير.

محكّ الأصالة هو الوفاء لوصايا الشهداء وإغناء ذخائر الوطن تراثاً وحرّياتٍ منشّطة للمواهبَ ومحفّزة على الإنجاز ومثيرة لشهوة إمتصاص رحيق الحضارات لضخّها لقاحاً في القرائح المبدعة.

التغيير هو هندسة المستقبل لا يؤتمن على تصميمها إلاّ خبراء نبلاء يهتدون بصدق توقهم لخدمة وتنوير الإنسان ويكرّسون سعة معارفهم وعلومهم وتنوّع مهاراتهم ومواهبهم وتوهّج ضمائرهم وذكائهم وتنسيق تعاونهم لقيادة مسيرة النمو والإرتقاء والإزدهار.

التغيير السليم لا يستبطن خبثاً ولا يُرفع ذريعة لخنق الحريّات وقمع الرأي وإجهاض العدالة وزهق السيادة والإستقلال وشلّ النظام الديمقراطي ولا هو حجْرٌ للفكر في دهاليز التعصّب والإنحطاط ولا إنفلاتٌ للغرائز ولا تفجيرٌ لحروب ديموغرافيّة طاحنة تؤدّي إلى كوارث الجوع والمرض والجهل والتناحر وإغتصاب القيم والحقوق الإنسانيّة.

جوهر التغيير هو تثقيف العقل وشحذ المنطق وترصيع شبكة التعاون بالمواهب المتنوّعة لإجتراح الحلول وتهذيب النفس وتشذيب الأدران وإحترام مهابة الحياة.

مرحباً بكلّ تغيير يستولده الفكر النيّر والخلاّق والخفّاق الذي يجوب مروج وجدان البشر فيرتشف النكهات الطيّبة من رحيق زهورها و يلقّحها لينتج عسلاً لذيذاً ومغذّياً و منعشاً يقدّم على مائدة الشراكة البشريّة.

ولأنّ التغيير على صورة منتجه، يبلغ التوجّس ذروته عندما يقدم عليه فكر مغرور ومتزمّت ومتعصّب، منبعث من "ضباب الغيب" "حجّته" الترهيب والعنف والحصار، وشريعته إدمان على الحرب وهدر لحقوق الإنسان.

معالجة الإنحراف الفكري تبدأ من جذوره لكن ما العمل إن تجمّد الزمن و تكلّست الكلمات في العقول فتحجّرت و"تدحرجت كجلمود صخر حطّه السيل من علِ"؟

هل من رجاء في يقظة تنير الأذهان وتكشف أنّ لبنان موطن كلّ أبنائه وليس زريبة أو مزرعة لتناسل خصيب يغلّب ذُريّة مبرمجة "لإفتراس سواها" أو مضارب قبائل يغزو قويّها ضعيفها ويسبيها ويغنمها ويغتصب حقوقها وممتلكاتها؟

القائد الأصيل والصادق والملهم يثبت على مبادئه القويمة ويعمل بهدي سموّها فلا يتنصّل منها أو ينشرخ عنها، إذ إن فعل تجوّف وتكلّس أو إضمحلّ.

نصرة المظلوم فضيلة، أمّا الإنتصار لظالم أو مفترٍ أو متجبّر والتعبّد للقوّة المستبدّة فخطيئة فادحة.

لا حجّة تبرّر الإنخراط في ورشة دكّ أسس الوطن وهدمه لصالح مشروع يغيّب بهاءه وتنوّعه وغناه.

بكركي المتجذّرة في سكب تاريخ الوطن والمساهمة في تخصيب كنوزه وإغناء جبلة حضاراته وتصليب مناعته وتألّق منجزاته، عهدناها نصيرة للمظلوم وحارسة لرسالة لبنان النموذجيّة تنتفض كأمّ ملهوفة على إبنها كلّما إستشعرت خطراً داهماً يهدّد كيانه.

ومتى أطلقت الصوت بوضوح لايشوبه إلتباس يستوجب الإجتهاد تستجيب الضمائر الحيّة للنداء دون إرتباك.

عندما تتناسق مواهب المواطنين المتنوّعة وتتناغم كموسيقييّ أوركسترا يعزفون نشيداً وطنيّاً واحداً بقيادة مايسترو الولاء الوطني، عندها ينمو الوطن و يزدهر.

لكن متى تضرب البلبلة وتتنازع "الأهواء" والفرز والشقاق صفوف أبنائه ويُستدرجوا إلى مكائد نُصبت لهم، عندها يصبحون مادة سهلة للمساومة ولقمة سائغة للطامعين الذين زرعوا الأفخاخ وتلاعبوا بمشاعرهم.

تكرار الوقوع في الخطأ مهين ومكلف، والنهوض يبدأ بتفتّح الذهن والتبصّر وإستيعاب الدروس.

أكاديمي وباحث في الشؤون اللبنانيّة*

ليست هناك تعليقات: