٢٤.١٢.٠٦

أملاً في الإنعتاق من الضيق

حميد عواد*
سِجلُّ الحياة الوطنية في لبنان يحفل بالعزّ و الفرح كلما شاع الوئام و توثقت المحبة بين بنيه. لكنّه يتشح بالحزن و يكتوي بالألم و يُنكب بالخراب و العوز كلما هبّت الفتن و دُبّرت المكائد للإنقلاب على مواثيق و عهود الولاء الوطني. كانت الكوارث تُلمّ بنا كلما تعرّض الوطن لعدوان و إحتلال، و كلما تورّط في التألّب عليه "ضيوفه" و جماعات جاحدة بأفضال وطنها، تأخذ و لا تبذل، جرفها هوج الأهواء و ضلّلها إنحراف التطيّف. منها من تململ و إلتبست عليه هويته حتى مقاربة الإنفصام، و منها من طغى عليه نزعة هجينة ضللته و زيّنت له فكرة الإنسلاخ عن بوتقة نسيج "قوس قزح" الوطني، بل راقت له فكرة الطغيان على بقية مكوناته و طمس فرادته و إلحاقه بمن حرّض على زعزعته من الطامعين بلبنان. و الطامة الكبرى أن لبنان، بوداعته و انفتاحه و تنوّعه البشري و صيغته الديمقراطية الحضارية و موقعه في عين زوابع الصراعات المتجددة من حوله، غدا بؤرة تلاطم لأمواجها العاتية. و بتنا في دوّامة: ما إن ينحسر جزر صراع، يستعيد إثره خائضوه وعيهم الوطني، حتى يكتسحنا مدّ صراع آخر يُفتن بخوضه ربابنة جدد، أغرار أو متمرسين، لحساب "مرشدين" و " رعاة" "منّوا" عليهم بالسلاح و المال و التدريب و الدعم اللوجستي، بعد تنظيم دورات "تلقين و تدجين و تعبئة".
لنقف و نستعد بعض المحطات المصيرية في حياة الوطن، فنتذكر أن إخراج محتلّ ما من أرض الوطن "لإهدائه" برمّته كغنيمة لعسكر محتلّ آخر كان تواطؤاً خبيثاً و عبودية شنيعة فرضها النظام السوري على اللبنانيين تكريساً لتفكيك أوصال الوطن و شلّ نظامه الديمقراطي، تمهيداً لتصفيته و ضمّه. لذا استباح حقوق اللبنانيين و كراماتهم و أرواحهم، و تصرّف بمصائرهم كسلطان جائر يستبدّ بجواريه و غلمانه. و لم يخطر على بال أسياده و نخاسيه أنه سيخلي لبنان ( طبقاً لأحكام قرار مجلس الأمن 1559 و تحت وطأة إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ) و سيُحاسب على سجله الأمني الحافل ( بناء على جملة قرارات لاحقة ). و من هنا تصاعد وتيرة ارتعاده ذعراً من تشكيل المحكمة ذات الطابع الدولي المختصة بمحاكمة المتهمين بإرتكاب الجريمة المذكورة أعلاه و "ملحقاتها". و بالتالي، اندفع مستنفراً "عرّابه" الإيراني، المتشعّع أصلاً من كثرة تخصيب اليورانيوم، لحضّ المدينين للإثنين "بالرعاية" و التنشئة و التمويل و "التموين" على قلب الموازين في لبنان. و هكذا هبّ "حزب إستفتاء الفقيه" لنجدة حليفه ،الذي أطلّ بإعتزاز الواثق من "مشروعه" إثر الحرب التموزية ليحثّ المنفذين على "قطف ثمار النصر" سياسياً داخل لبنان. و ها هو التوقيت "الحرج" لإبرام نظام المحكمة و صلاحياتها "يحتّم" إطلاق "الإ نتفاضة الإنقلابية" "لإغتيال" سلطة التقرير "بِكاتم الصوت" "الضامن" لإجهاضها. إنّ افتعال الأزمات الحادة، كلما همَّ اللبنانيون للنهوض بعزيمة و تفاؤل و أمل، هو إغتيال لطموح و رجاء و أحلام كل لبناني، و إجهاز آثم على مقومات الوطن. إنّ حشد الجماهير "المدجّنة" في الساحات العامة و "تطويق" السرايا الحكومي و شلّ الحركة الإقتصادية في قلب العاصمة، هو عملية تلحيس المواطنين المبرد و إطالة تجويعهم حتى التأكد من لفظهم الرمق الأخير. إنّه تجفيل لمن رجع إلى الوطن و لمن يفكر بالعودة إليه و لمن صمد فيه رغم قساوة القهر و العذاب و سمو التضحيات، و نكران لوصايا الشهداء التي جددنا وفاءنا لها بالأمس القريب في وقفات وجدانية مهيبة مع بيار و جبران و سمير. كما إنه للأسف تنفير لكل مستثمر. و الأخطر من ذلك أنه استقطاب حاد للقواعد بين تيّار يندفع بزخم للإلتحاق بالركب الحضاري و آخر يجرف الوطن نحو التخلّف و الإحتضار. إنه إدمان على افتعال المعارك المدبّرة لتفريغ الوطن من أبنائه و جعله كبش محرقة في مناورات إقليمية تأسره رهينة في خضمّ صراع يديره "بأمان" و "عن بُعد" لاعبوه. إنه انقضاض على السلطة للتنصل من موجبات القرارات الدولية بدءاً بقرار مجلس الأمن 1559 وصولاً إلى القرار 1701، أملاً بإخلاء الجنوب من القوات الدولية و إعادة "افتتاح" حلبة الصراع. إنه تنفيذ لخطة "سورانية" خبيثة لنسف فرص النهوض الإقتصادي، من موسم الإصطياف إلى موسم الأعياد و إجهاض لمؤتمر الدول المانحة باريس-3 المزمع عقده في 25 كانون الثاني المقبل. إنه إمعان في اجتراح شروخ تتشقق على حدود إفرازات معينة و تتسع لتفصل بين أبناء الوطن الواحد لتمنع التفاهم بينهم و "توكل" أمر "ترويضهم" ل"متعهّدي القلاقل": أركان المحور "السوراني". بدل "أيقاظ الفتنة النائمة" في "قرارة" البعض، أيقظ الله ضمائر من شكّل "قبيلة" من أبناء ملّته مكتملة أوصاف الدويلة، و سلخ شيبها و أولادها و شبابها عن بقية أخوتهم في المواطنية فحجرهم في "معاقل" إعداد منغلق الأفق يجافي حقوق الإنسان و يعادي قيم الحداثة و الديمقراطية، فأوصد كل أبواب التفاهم و الشراكة. أمّا حصيلة هذه التنشئة فالتخوين "الوقائي" للآخرين و سلوك غريزي لا يليق بإنسان هذا العصر. و لا عجب كيف تحولت بعض مؤسسات التعليم إلى بخّاخ سموم و مغسل أدمغة لمحو معالم المعرفة و العلم و الثقافة و التمييز و الحسّ النقدي و المحاسبة، فيما أصبحت بعض كليات الجامعة اللبنانية أشبه بثكنات تسيطر عليها فصائل مسلحة "تسهر" على إقصاء مناوئيها و لو اقتضى الأمر تلقينهم "دروساً" دامية. إنّ قيام دولة العناية الرفيقة بأبنائها و العادلة و القادرة و القوية و الآمنة و المزدهرة، يرتكز على الإنخراط الصادق و الفعّال لكل أبنائها في بنائها. لكن يبدو أنّ أشبال النظام السوري و أتباع النظام الإيراني "متضررون" من قيام الدولة المنيعة، فهم يمعنون في إضعافها و هم يريدون الإستئثار بكل المقدرات لإقامة "جماهيرية" متفلتة من القرارات الدولية، مرتهنة للأمبراطورية الفارسية الجديدة و "محظيها" النظام السوري اللذين يرغبان في جعل "جماهيرية لبنان" جبهة دائمة الإشتعال ل"محاربة أمريكا" و "إزالة إسرائيل". إعتصامات اليوم هي استكمال لهدف لم ينجح تحقيقه إثر حرب تموز و هو إسقاط الحكومة لأستبدالها بما يشبه "مجلس ثوري" يجرّ عربة نار. في غمرة هذا اللهيب و إنقاذاً لرؤوس "نقابة المجرمين"، هان العبث باستقرار الوطن و جرّه إلى شفير هاوية، عندما صدر الأمر بإحباط تشكيل المحكمة المختصة بإدانة الضالعين في إغتيال الرئيس الحريري و الإغتيالات المرتبطة به. فمن درج على خرق حرمة القضاء في ظلّ عهد الهيمنة المشؤوم يطمح ربما إلى زرع "عضّوم ما" في المحكمة العتيدة أو تجريدها من صلاحيات إدانة الرؤوس "المحصّنة". أخيراً "صح النوم" لمن استفاق من السياسيين بعد استيعاب أهمية الدعوة الموجهة إليهم عبر ثوابت الكنيسة المارونية و مجلس المطارنة ليجتمعوا في بكركي و يتجاوزوا الموافقة اللفظية بصياغة ميثاق شرف يلتزمونه في المرحلة المقبلة و يلعبوا دوراً وطنياً توفيقياً مستوحىً من خلاصة البنود التي أجمعوا عليه. و هنيئاً "التشريف" لمن طُولب بالتنحي عن كرسي استُغِلّت صلاحيات شاغلها لإحباط نهوض الوطن من كبوته، ولشريك "أدار" اللعبة البرلمانية ب"هَدْيٍ" من تحالفاته الإقليمية و أوصد باب مجلس الأمة في وجه نوابها!!!
نتوجه إلى أهل الخير و الحكمة، وهم كثر، لنحضّهم على التلاقي و القيام بالدور الذي يليق بإخلاصهم و كفاءاتهم و قدراتهم، فيساهموا بفعالية في إنتشال الوطن من الأنواء الإقليمية و دفعه قدماً لإحلال السلام و الوئام و الرفاهية. أعياد مباركة مفعمة بالرجاء و سنة طيبة مقرونة ب"فسحة الأمل" و التفاؤل!
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٨.١١.٠٦

شلح من الأرز هوى

*حميد عواد


لن يطمئنّ اللبنانيون و لن يستقرّ لبنان طالما بقي "مفخخاً" بفطر "دويلات" و
بؤر فصائل مسلحة، تبايع الولاء لأنظمة تعتبر لبنان "متراساً" متقدماً "لحروبها" و مختبر "تناسخ" ل"أوليائها" و مكمناً أو حقل رماية مزروعاً بالألغام مستباحاً لتصفية مناهضي هيمنتها. بورك هؤلاء الأبطال لأنهم حماة العزّة و الحرية و الإستقلال و قيم حقوق الإنسان، و بنّائو الوطن الحضاري المحصّن بمؤسسات ديمقراطية رائدة و عريقة.
بالأمس أطلق المذعورون من تشكيل المحكمة الدولية، المطعمة بالقضاء اللبناني و الوشيكة الإبرام، مجرميهم، على وقع ترقب "مفاجآت" موعودة و توجس من "بوادر" تحضير لإغتيالات جديدة، فترصدوا وزير الصناعة الشيخ بيار الجميل و طاردوا السيارة التي كان يقودها و افتعلوا حادثاً لإستصدامها تمهيداً لرميه برصاص مكتوم الصوت، فقتلوه مع مرافقه سمير الشرتوني و هربوا.
صبيحة يوم استشهاد الوزير الشاب، كُلّف رسمياً في اليوم السابق لذكرى عيد الإستقلال بوضع إكليل من الزهر على ضريح جدّه، القائد المميز بمناقبه الوطنية النبيلة و حامل مشعل الإستقلال التأسيسي و الشريك في صياغة الميثاق الوطني سنة 1943، الشيخ بيار جميل الذي أسس حزب الكتائب اللبنانية كصنو لمعاني الإستقلال و كمدرسة للتربية الوطنية، ترتكز عقيدتها على ثالوث (الله، الوطن، العائلة). لقد استقطب الحزب قادة أفذاذاً و قاعدة واسعة عميقة الإيمان بلبنان و راسخة الولاء له، و خرّج كوكبة من النواب و الوزراء و رئيسين للجمهورية اللبنانية: أولهما الرؤيوي الطموح و المقدام بعزم و حزم الشيخ بشير الذي اغتيل قبل تسلم مقاليد الحكم، و ثانيهما شقيقه الرئيس الأسبق الشيخ امين المفجوع اليوم باستشهاد إبنه. لم يخطر على بال وزير الصناعة، سليل هذه العائلة المتجذرة في صناعة السياسة الوطنية، و النابض بزخم هذا التراث العريق أنّ محترفي الإجرام سينقضّون عليه في هذه الذكرى الحافلة بالمآثر و العبر، و إلا لما تخلّى عن مواكبته الأمنية الرسمية أو أنّه لم يستهب الموت فواجه القتلة أعزل. إذ تعوّد المحامي البارع المواجهات بسلاح الكلمة و الموقف، فكان يمتشق لسانه بجرأة و معرفة و كفاءة، و يستلّ نشاطه و حسن تدبيره و طموحه، و يشحذ نصل شغفه بخدمة وطنه و تفانيه في النضال لتحصين استقلاله و ترسيخ ديمقراطيته و حماية طابعه الحضاري الفريد. لقد اعترض طريقه المجرمون و قطعوا عليه مسار حياة زاخرة بالنجاح في السنة الرابعة و الثلاثين من عمره، العمر الذي استشهد فيه عمّه الرئيس الشيخ بشير الجميل. شارك مليون من المشيعين و ملايين من المغتربين و حكام دول، أسى و حزن عائلته، و تجلّت صورة الفقيد كعملاق بحجم الوطن. قتل الشيخ بيار حفيد المؤسس لكن الإستهداف طال ثورة الأرز و الحكومة و المحكمة الدولية و استقرار الوطن.
إنه عمل إجرامي إرهابي يندرج في مسار إعصار يستقلع عصب السيادة و الحرية و الإستقلال و الحداثة، و دورة "منقّحة" لدوّامة حرب إبادة منهجية "مموّهة" تستهدف استهلاك و استنزاف و ترويع و تبديد و تهجير أبناء بلاد الأرز الأحرار الأباة الذين يسري في عروقهم بعض من نسْغُه المُخلّد. ما وفر الضالعون في سلسلة الإغتيالات الخمسة عشر الأخيرة ( و"باعهم" طال أكثر من ذلك بكثير )، التي استهدفت قادة فكر و سياسة بارزين وجّهوا مسيرة الإستقلال، أسلوباً إرهابياً إلا و جرّبوه تمهيداً للسيطرة من جديد على مقومات الحكم في لبنان و نسفاً لآلية تشكيل المحكمة المختصّة بمحاكمتهم في شقّها اللبناني، متناسين أنّ مجلس الأمن يمكنه استصدارها دولية خالصة مشمولة بالبند السابع. و اليوم "ارتأوا" "تقليم" مجلس الوزراء في لعبة تصفية إجرامية متسلسلة تبتغي فرط عقد الحكومة اللبنانية. للأسف الشديد إنّ الذين هبّوا لحشد طاقاتهم و استنفار محازبيهم، ليستكملوا إلتفافهم على مفاتيح الحكم بإمساك الثلث "المُحبِط"، شكّلوا تغطية مفضوحة للحلقة الجديدة من مسلسل القتل، أذهلت اللبنانيين. و إذا شاءوا إثبات شيء من حسن النية فبإمكانهم العودة عن الإستقالة ل"يصدّقوا" ما أقروه سابقاً و يبرموا قانون تنظيم و هيكلية المحكمة المختلطة و يعتكفوا إن أرادوا بعدها. هل خضّ الأوضاع السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية يصبّ في مصلحة اللبنانيين و هم لم يتعافوا بعد من إصاباتهم البالغة بحمم الحرب الصيفية؟ و ما سر تزامن التحركات المطلبية في لبنان مع إدعاء روسيا في مجلس الأمن ان قيام المحكمة يزعزع استقراره؟ فمن زوّدها بهذه المعلومات؟ و لماذا إعترض النظام السوري على استعجال تشكيل محكمة دولية-لبنانية مشتركة و أعتبر أنه غير معني بمقتضياتها و أحكامها؟ و لماذا يتوعد مسؤول إيراني ب"إسقاط" دولة كبرى في لبنان و تكرر "رعيته" هذا التهديد؟ و حتى متى يستمر التحالف الإيراني-السوري في "تموين" و"تغذية" و "تنمية" "دويلات" في أحشاء الوطن خارج و داخل "رحم" الدولة اللبنانية؟ لا بد من الإحتكام إلى العقل و الضمير لتعميق الحوار بين مختلف الفرقاء اللبنانيين والكشف بصراحة و نزاهة عن خطط المستقبل التي لا بد أن تتكامل متى صفت النيّات. و يجب وضع التفاصيل في خدمة الأهداف الوطنية السامية، لا الإنزلاق في مماحكات تفصيلية حامية يحجب ضبابها المبادىء الكبرى. اللبنانيون بأمس الحاجة إلى الإستقرار بسلام و الطمأنينة لمستقبلهم و كل من يعاكس هذه الغاية و يعكّر عيشهم يصبح منبوذاً. فرفقاً بهذا الشعب و تقديراً لتضحياته و إجلالاً لشهدائه دعوه يعيش بأمان و سلام و وئام. لتكن فترة الحداد هذه فرصة تفكير و تأمل و صلاة و هدوء، كما أوصى في ذروة تألمه الوالد المفجوع باستشهاد ابنه، الرئيس الأسبق الشيخ أمين جميل، علّ المسار، المفضي إلى الخير العميم، ينقشع أمام البصائر، فتتبدد الهموم و يحل الصفاء و يحلو العيش و يُكرم الشهداء بالوفاء لأمانيهم.
تغمّد الله روحي الشهيدين الشيخ بيار جميل و مرافقه سمير شرتوني بواسع رحمته و ألهم عائلتيهما و محبيهما الصبر و السلوان.

*مهندس و اكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٤.١١.٠٦

إحتراماً لنباهة العقل و إحباطاً لتضليل الإستتباع

حميد عواد*


يستعر السجال السياسي في لبنان من إستثارته ب"إشعاعات" التخصيب النووي الإيراني، المستولِد تصدٍّ دولي مضطرم، و من شحنه ب"توهّج" توتّر النظام السوري من جرّاء "مراودة أشباح الضحايا"، كوكبة الشهداء المستصرخة و المستحقّة عدالة دولية المحراب و المعايير.
يزداد القلق مع إستشعار حراجة الظرف و يُستشفّ حياكة مؤامرة بزيّ المطالبة ب"حكومة وحدة وطنية" (و قانون إنتخابي راقد في إنتظار بحثه) يحمل ألويتها "الممسوسون بالتشعع" على "صهوات جيادهم" ملوّحين بإستعراض فصائلهم "لإستحداث" التغيير.
ب"تواضع" "المتألّهين" يطلّون على "المسحورين" ب"تنبُئِهم" إستمطار الخيرات بعد استمطار "حمم النار" و إستجلاب الخراب، مبّشرين بإعادة إحياء "مملكة النخاسة" التي ساهموا في ترسيخها سابقاً.
بوقاحة الفاجرين يشرئبّون لإجهاض إستعادة الحرية و السيادة و الإستقلال، ثمرة صمودنا الوطيد و نضالنا العنيد و تضحياتنا الجليلة. ولولا إستنفارنا الحثيث لتحفيز الدعم الدولي و استجابة الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا و حلفائهما، لما أمكننا البدء بتثبيت قرارنا بعد طول إغتصاب، و ترسيخ إستقلالنا بعد حقبة مريعة من الإستلاب. لنتذكر كيف تبلسمت جراحنا لمّا إنضمت إلى موكبنا الأستقلالي جماعات طالما انتظرناها، خرجت من غياهب الضلال و إهتدت إلى دربنا المضيء فإزداد تألّقاً و إشراقاً. لكن و خلال السعي لإستمالة المزيد من القابعين في العتمة، مدّ لهم فريق سيادي أصيل أذرعته للعبور من الظلمة إلى النور، فوجد نفسه عالقاً في منزلة ما بين المنزلتين. لا يغيبنّ عن بال أحد أنه لولا إصرار المجتمع الدولي على استنهاض لبنان من كبوته، و مثابرته على تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي بدءاً من القرار 1559 وصولاً إلى القرار 1701 لما سحب النظام السوري جيشه من لبنان (في 26 نيسان 2005) و لما أوقفت إسرائيل قصفها، رداً على عملية "الوعد الصادق"، (من 12 تموز إلى 14 آب 2006) و سحبت جيشها من مواقع احتلّها داخل الأراضي اللبنانية. لقد رُفع الإلتزام الدولي من مرتبة إحاطة لبنان بمظلّة دبلوماسية إلى دعم ميداني لجيشه بقوّات أممية بحرية و برية و جوية. هذه الدرع كفيلة بردع أي مغامرة عسكرية تستهدف إختراق لبنان. رغم ذلك و رغم "تطمينات" و "كفالات" حلفاء المحور السوري-الإيراني، التي لا يركن إليها، ما زال "طيف" النظام السوري ماثلاً في لبنان عبر المرتبطين به و "حنينه" إلى "المُلك" لم يذوِ. لقد بلغ الذروة قلق هذا النظام من أُزوف موعد تشكيل محكمة دولية مختصّة بالنظر في التهم التي سيوجهها القاضي سرج برامرتس، المحقق الدولي المكلف بإستقصاء حيثيات مؤامرة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، و التي استشهد فيها إلى جانبه الوزير باسل فليحان و لفيف من صحبه و حراسه. هذا القلق تعكسه تصريحات أركانه و توقهم الدائم إلى إستحضار محمد زهير الصديق و استشفاعهم بتدخل روسي للحدّ من صلاحيات المحكمة و لنقل عروض "تأدية خدمات"، كما تظهره الإستعانة بخبرات رجال قانون من جنسيات متعددة لدراسة تقارير المحققين الدوليين ديتلف ميليس و سرج برامرتس و استقراء مفاعيلها. علماً أن الأخير اتسم بالتكتم و لم يكشف أكثر من عناوين لحصيلة تحرّياته بعد. هاجس النظام السوري هذا، دفعه إلى الإلحاح في تحريض حلفائه اللبنانيين على تصعيد ضغطهم ضد الحكومة اللبنانية و التهديد بتسيير الأنصار في الشوارع لإسقاطها إن لم يُستجب المطلبان الذريعتان لإفتعال القلاقل في ظروف إستثنائية "ملبّدة" بمخزون متجدد من شحنات(المساعدات) صواريخ تشتريها إيران(آخر صفقة من روسيا) لتسريبها إلى لبنان. في ظلّ "محاصرة" إيران بطلب مجلس الأمن وقف التخصيب النووي و التلويح بفرض عقوبات عليها، ثم تخبّط النظام السوري في هاجسه، لم يكتفِ الثنائي ب"المونة" على "منتدى" عين التينة و "معتكف" بعبدا، بل "يطمحان" إلى "إختراق" أو "كبح" الحكومة لتعطيل قرارات مفصلية مستحقة. منها تنفيذ أحكام القرار 1701 و إبرام صلاحيات المحكمة الدولية التي نخرت مسودّة قوانين إنشائها ملاحظات "العين الساهرة" في بعبدا. و ظاهر للعيان هذا السباق المحموم بين الضغط نحو التغيير "الضابط" و بلورة صيغة المحكمة الدولية التي تقضّ مضاجع "الأبرياء". و لافت جداً حصر "عيدية التشاور"، المغلّفة بالتهديد، ببندين "ملحّين" لا ثالث لهما، و كأن "ترياقهما" يشفي المريض "المحتضر" بومضة عين متى "جرّعه" أيّاه "خبراء" العقاقير. و الفاضح أيضاً هو قُصر فترة "صلاحية" هذه "الوصفة" و البدء بالعدّ العكسي حالما تأجل موعد الشروع بجلسات التشاور فترة أسبوع. يوم تشكيل الحكومة أعربتُ عن انتقادي فشل اشراك التيار الوطني الحرّ بحقائب أساسية فيها، لكن فورة اليوم لا تُبرَر "بفجائيتها و إلحاحها" بل تلتصق إلتصاقاً وثيقاً بمحاولة إحباط تشكيل المحكمة الدولية و إجهاض استكمال تنفيذ متطلبات القرار 1701 و إجهاد لبنان إقتصادياً بتجفيل المستثمرين و تيئيس اللبنانيين و نسف مؤتمر الدول المانحة باريس-3 . في أحرج ظرف ضمّن مجلس الأمن القرار 1701 النقاط السبع التي أقرتها الحكومة اللبنانية بالإجماع و أغدقت الدول العربية و كوكبة من الدول المانحة مساعداتها للبنان و ذلك كعربون ثقة و دعم لأسلوب الرئيس السنيورة في تحمل أعباء مهامه و تضامناً مع لبنان لإنهاضه من محنته و مواكبته في مسيرة تعافيه. واضح لمن يسمع و يعي تصريحات المسؤولين الدوليين مدى التقدير الذي يكنّونه للرئيس السنيورة و الحرص على سلامة و سيادة و ديمقراطية و استقلال لبنان. لذا فإن الداعين إلى فصل لبنان عن "الوصاية" الدولية "الحرام"، يستهدفون استفراده من جديد لسوقه إلى "حظيرة الوصاية الثنائية الإيرانية-السورية" "الحلال". و شتّان ما بين العزّ في رعاية "الحرام" الدولي و الذلّ في قهر "الحلال" السوراني.
لقد حان الوقت لتتنادى النخب اللبنانية الأصيلة فيجتمع شمل حكمائها ليولّدوا طاقة فكرية راجحة تهدي الضالين إلى الرشد، و يكوّنوا قوة قيادية مرموقة تردع المتطاولين على الحريات و السيادة و الإستقلال و تستقطب حولها حشود الأبرار و الأحرار الضنينين بعزّتهم و رفعة وطنهم، و الحريصين على انتشاله من منال الطامعين الإقليميين و سحبه إلى الفلك الدولي الرحب خارج حقل التجاذب الإقليمي الخانق.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١٢.١٠.٠٦

الأمر للشباب الراشد

حميد عواد*


محرّك الرقي و رصيد النجاح في المجتمع البشري هوالفكر المتشبّع بالقيم الإنسانية النبيلة و المتجذّر في رحاب المعرفة و المتخصّب بالتلاقح الثقافي و المتحفّز إلى الإستقصاء و التحرّي و التحليل بحثاً عن الطاقات الخلاّقة و غوصاً في آفاق مستقبل مطّرد الإزدهار.
تتضافر غالبية الجهود البشرية البنّاءة لترفع مداميك الصرح الحضاري و تدفع بزخمها مراكب الموكب الإنساني شقّاً لعباب فجر جديد جزيل الخيرات.
لكن في ظلّ مواجهة تحديات الحداثة و في لجج النزاعات المتفاقمة التي حرص على تأجيجها و إحباط حلولها متزمتّون من مختلف أطرافها، فرّخت بدع الإنحراف و التعصب و استحوذت غرائز العداء و الكراهية على أذهان الأغرار.
فتخدّر الفكر و أدمن على جرعات الحقد المنشّطة لشتّى سبل "الإنتقام".
هناك سباق محموم بين شاحذي الذهن على محكّ إستيعاب الثقافات و تنمية المهارات و بين مشعوذين ينتحلون صفات القيادة و الإجتهاد و الهداية ليضللوا البسطاء الساذجين فيسوقونهم إلى كهوف الجهل ليمعنوا في تفخيخ ضمائرهم. إن صلاح إعداد و تثقيف العقول اليافعة يتوقف على كفاءة و أهلية المعلم.
لذا فإن أي جهد مجدٍ للإصلاح في المجتمع يبدأ بتوفير سبل تحصيل المعرفة و اكتساب الخبرة و الحنكة لأبنائه و ترويج النقاش المثمر و الصريح المرتكز على فكر نقدي مرن يقارع بالحجّة و يبرم الأدلة الدامغة ليثبت اليقين.
هكذا إعداد هو الأساس الصلب الذي تبنى عليه الديمقراطية الحقّة و من دونه تتقوّض لتنقلب مسخاً يحكّم مستبداً برقاب رعية مدجّنة.
إننا ندعو شباب لبنان إلى التيقظ و رفض الإنقياد العفوي إلى محاور الإستقطاب التي يغزلها بعض السياسيين لجذبهم و إلحاقهم بحاشية المصفقين لإرتباطاتهم الملتبسة.
فليثبت شباب لبنان ثقتهم بأنفسهم و ليكونوا على مستوى إعجاب العالم بنضجهم و إنجازاتهم، و هو ما حرص على إبدائه السفيران جايمس واط و باتريك رينو في مقابلتين وداعيتين مع جريدتنا الرائدة "النهار"، حيث أشادا بدورهم الحاسم في خوض مسيرة الإستقلال فيما غمزا من قناة نرجسية و ضيق أفق أرباب السياسة.
ليعلن شباب لبنان أنهم ليسوا بيادق يحركها لاعبو السياسة على رقعة شطرنجهم ليحشدوهم في مواجهة بعضهم البعض، و لا صدى يردد سجالاتهم العقيمة بل من حقهم إبداء الرأي و من الواجب الأخذ بآرائهم، علماً أن خيارات التلاقي خارج أطر "التدجين" الضيّقة متاحة.
شباب لبنان مؤتمنون على دعم و تحصين مؤسسات الدولة و إرشاد السياسيين إلى سبل ترسيخ مقومات السيادة و الإستقلال منعاً للكبوة و ضماناً لتجاوز هذه الأنواء التي يثيرها التائقون إلى إعادة بسط سيطرتهم على مقدرات الوطن.
إن استنفار هؤلاء لحلفائهم البلديين بصيغ و مناسبات متعددة و إلحاحهم على الإمساك بالثلث المعطل في الحكومة يبرر التخوف من "المقاصد الخفية" التي تؤكدها "هواجس" و "توجس" المستهدفين.
لذا لن يثنيهم تطيّرهم عن قذف الحكم في غياهب الفراغ.
إن الإلتفات إلى المخاضات العسيرة و الطويلة التي تتخبط فيها "المراجع المختصّة" بالتشكيلات الدبلوماسية مثلاً، ظاهرها و "خفيّها"، تعطي عينة عن "الشلل الرعّاش" الذي سيصيب أي تعديل وزاري "يُخطّط له" دون أن نغفل مخرج إيكال وزارة الداخلية.
و هنا نتساءل عن الحكمة الكامنة في انتقاد بيان مجلس المطارنة الموارنة الذين دأبوا على إطلاق النداءات الحازمة و الحاسمة كلّما تحسّسوا خطراً عند منعطف مصيري.
خاصّة و أن رعيلاً منهم بتكليف من غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير كان منكبّاً على إجراء مشاورات بين قيادات مارونية، أثار تشتتها الإحباط و الخيبة، لجمع شملها على أسس شراكة وثيقة و فاعلة في خدمة الوطن و تعزيز سيادته و ترسيخ استقلاله.
إن الدعوات إلى عدم الإستئثار بالسلطة تكتسب صدقية متى صدرت عن جهة لم تسجل سوابق في الإستفراد بالقرار.
و مطالبتنا باسترجاع أراض نملكها يكون لها وقع أبلغ متى امتنعنا عن السطو على أملاك الغير و أملاك الدولة، بحرية كانت أم برية، ساحلية أم جبلية.
و المناداة بمكافحة الفساد لا تطال فقط الأموال التي رصدت للمهجرين و هدرت على إخلاءات رمزية لتنفيع الأزلام بل تشمل أيضاً تعويضات إخلاء أبنية أنشئت على أملاك الغير و الدولة، كما تطال اختلاسات و رشوات و صفقات مشبوهة وتبييض أموال و توظيفات عشوائية يحين فتح ملفاتها متى استتبت الأوضاع.
شباب لبنان المتنوّرون و السامو المناقب، لا "حكواتية" السياسة الإستهلاكية، هم المؤهلون لإستئصال الفساد و إطلاق ورشة إصلاح جذرية و شاملة تعكس فرادة طموحاتهم و نقاوة ذواتهم و رفعة شهامتهم و جودة أفكارهم و صدق إلتزامهم.
أيها الشباب استلهموا شعلة جبران ( شفيعكم و نصيركم ) المتوقدة في أفئدتكم و افضحوا النشاز و الشواذ بتناغم صداحكم المدوزن على "مقام لبناني" أصيل.
قدرنا، نحن اللبنانيين، شيباً و شباباً أن نتغلّب على المحن مهما قست و أن نبدد نوبات اليأس بمعانقة الرجاء و بترسيخ الإيمان بطاقاتنا و قدراتنا و بتنشيط الهمم لبناء مستقبل زاهر، تشوّقنا دوماً إلى بلوغه على مدى مشقّات السير على دروب جلجلة طويلة مجلّلة بالتضحيات و مضمّخة بدماء الشهداء.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٥.٨.٠٦

كي نحيا من جديد

حميد عواد*


بعد بلورة إجماع لبناني على النقاط السبع و مخاض تطعيم قرار مجلس الأمن الدولي 1701 بها، صدر القرار ليلزم الجيش الإسرائيلي بانسحاب شامل من لبنان و ليوقف إعصار القتل و الدمار الذي نكب اللبنانيين بقدر هائل. و مع صدور هذا القرار استعاد اللبنانيون شيئاً من روعهم و انعتق المجتمع الدولي من دوّار المراوحة في حلقة "استكمال" وابل القصف الإسرائيلي "إصابة أهدافه". حصيلة كل قصف نقلته وسائل الإعلام بالصوت و الصورة، و وقائع القتال شهد لها طرفاه. لكن كما في كل حرب تضمحلّ حسابات الربح أمام جلل الخسارة البشرية. لقد انتزع القصف مئات الأرواح من حرمة مآويها و اقتنصها في مركباتها منتهكاً نداءات الضمير و حصانة القوانين و الإتفاقات الدولية. بعد زوال هيجان نشوة الإنتصارات و تبدد سراب الإنجازات يتفتح البصر على هول المآسي و بشاعة الخسارة و تنقشع أمام البصيرة عبثية الحرب و جدوى التفاوض لنشر الأمان و إرساء السلام. و يبدأ نقد الذات لإستخلاص العبر بدل التركيز على مراجعة أساليب و مهارات القتال إستعداداً لجولات لاحقة. لقد إتخذ مجلس الوزراء اللبناني قراراً حكيماً كان محظوراً بنشر الجيش جنوب نهر الليطاني إلتزاماً ببسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية. أقيمت ستون نقطة مراقبة للحدود اللبنانية-السورية و تمدد الإنتشار جنوباً وسط فرحة شعبية عامرة. و هناك مزيد من ألوية الجيش تنتظر جلاء الجيش الإسرائيلي من بقية المواقع الحدودية و قدوم قوات دولية سيتم تشكيلها على ضوء استيضاح مهامّها و استجلاء قواعد عملها و استحصال ضمان من القوى الإقليمية لعدم الغدر بها. تلحق هذه الفرق بقوات الطوارئ الدولية لتساند الجيش اللبناني في الإضطلاع بمهام حماية شعبه و رصد حدوده و منع حمل السلاح غير النظامي.
و يبدو أن انضمام كتائب دولية مزودة بمعدات متطورة، لا يمتلكها الجيش اللبناني تؤمن مراقبة فعّالة للحدود، لا تروق للنظام السوري. فها هي أفواه مسؤوليه تهدد بإقفال الحدود و لم تبرأ الآذان بعد من طنين ترّهات أطلقتها بالأمس. يستغرب اللبنانيون هذا الإعتراض لأنه يتناقض مع شكاوى سابقة إدعى فيها الجانب السوري أن سلاحاً يهرّب من لبنان إلى سوريا و عناصر متطرفة تتسلل عبر الحدود. تفسير واحد لهذا الإعتراض هو إبقاء الحدود سائبة لعبور السلاح و الذخيرة و تسلل مثيري القلاقل "المنتدبين لمهمات خاصة" إلى لبنان دون رقيب.
يتوق اللبنانيون إلى إستكمال تنفيذ بنود القرار 1701 و توصياته و يرجون أن تكون قد ترسخت قناعة دامغة لدى مكوّنات المجتمع اللبناني أن الدولة القوية السيدة الضابطة لإيقاع الحياة الوطنية، الحاضنة لكل مواطنيها و الحامية لحقوقهم هي المرجعية الأساسية لكل فرد و جماعة ضمن كنف الوطن. أن محك جدية أي مساهمة إيجابية تدعي تعزيز منعة الوطن و تزخير قدراته، هو مدى توافقها مع تطلعات كافة أبناء الوطن و مقدار نفعها و شمول مردودها و وثاقة إلتحامها بمؤسسات الدولة و انتظام أهدافها و أعمالها في سياق المصلحة الوطنية العليا. يزداد وضوحاً تجربة تلو أخرى أن الإصرار على زعزعة الإستقرار في لبنان هو خطة خبيثة متسلسلة المراحل تهدف إلى استنفاد طاقة اللبنانيين على الصبر و الصمود و إلى استنزاف مواردهم و قروضهم و تجريدهم من أملاكهم، و صولاً إلى تفريغ الوطن من أبنائه الذين لا "حظ" لهم و لا "نصيب" من المال "النظيف" أو "المنظّف". و آخر مثال ما زال حياً في خواطر اللبنانيون حيث شهدوا بداية "موسم الإصطياف" تناقضاً صاعقاً بين تدفق سيل أخوانهم الوافدين من بلاد المهجر، و كثيرون منهم قدموا ليستقروا في لبنان، و بين "انحسارهم" مصدومين عن حجيم القصف الإسرائيلي إلى سفن الإجلاء تاركين وراءهم إخوة إهتزّ إيمانهم بالوطن و تخلخل تشبثهم بالبقاء فيه. للأسف الشديد، مشاريع سياحية مهمة و توظيفات مالية باهظة الكلفة نُسفت على حين غرة و دون سابق إنذار. و طالما أن الوطن بأمسّ الحاجة لجرعات منشطة من رأس المال، المرهف التطير، لضخّه في شرايين الدورة الإقتصادية و إحياء أسواق التجارة و الإنتاج و توفير مجالات عمل، فلماذا الإنقياد بجموح تحفّز "وجداني" (رومانسي) وثاب إلى تمثيل " ملحمة أسطورية" في القتال؟
هل اكتفينا من فتح جبهات قتال في لبنان على "نيّة" فلسطين و سوريا و إيران أم علينا "استحداث" جبهة جديدة على "نيّة" كوريا الشمالية مثلاً؟
عندها نتحسب ببناء مساكن و جسور "مطاطة" فوق الأرض و نحفر مزيداً من شبكات الأنفاق تحتها.
مثلما لا نرضى بإغتصاب الحقوق و نحضّ المجتمع الدولي على تقويم ميزان العدالة، كذلك لا نتمنى أن يتفاقم الصراع في الشرق الأوسط و أن يتدهور إلى مزيد من الشحن الديني و المذهبي و العرقي مستنفراً المشاعر و الغرائز، و مغذياً بؤر الإرهاب، و فارزاً شعوب العالم قبائل متأهبة للتناحر.
العالم الحر يتوجس من شر الفكر المنغلق و المتزمت أينما كان منشؤه .
و لأن التنوع غنى، ما الحكمة من طمس ميزة التنوع الفكري و الديموغرافي، و تقويض اسس الديمقراطية بأطلاق العنان لإنجاب مسرف كارثي النتائج يهدف إلى ترجيح "غلبة عددية" تقلب المعادلات؟ لنلتفت إلى الصين و الهند و نتعظ.
لا يمكن معالجة تحديات القضايا المعاصرة البالغة التعقيد بفكر بدائي محدود المعرفة و ضعيف الطاقة و ضيّق الأفق.
الفكر يجفّ و يشحّ عطاؤه متى كُبح و حُرم الإستقاء من مناهل المعرفة الغنية التنوع ومنع من الإختلاط و التلاقح مع كل التيارات الفكرية.
لذا يتلاشى كل من ينساق على درب العزلة عن بقية أبناء مجتمعه لينطوي مع أقرانه في "سرب" إنفصالي منسلخ عن حبكة أضلاع الوطن.
إن أي شراكة سطحية متباينة الرؤى و الأهداف، يعتريها كثير من "التحفظ" لا تبني وطناً.
المطلوب هو صفاء النوايا و الإنسجام في التنوع كالموجات التي، رغم تمايز خصائصها و ألوانها منفردة، تتضافر متماهية في حزمة ضوء ناصع يشعّ من شمس الوطن.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٣.٧.٠٦

من الصيف الواعد إلى "الوعد الصادق"

*حميد عواد

ليت ازدحام مرافىء الوطن بالبواخر كان لإفراغ السياح المتحفّزين و الأحبّة الملهوفين على شواطىء نعيم جنّة، لا لإجلائهم من جحيم نار.
فَتَوق اللبنانيين إلى رؤية ضيوفهم انقلب كمينا ً اختطفوا فيه رهائن، و استحال كابوسا ً غدر بتوقعاتهم، و انفتح جحيما ً من القصف اودى بأرواح وديعة و عزيزة، و دكّ بنىً و منشآت حيوية شلتّ دورة الحياة.
في 12 تموز جرفت "مقتضيات الإلتزام الإقليمي" أولوية المصلحة الوطنية، فجاءت عملية "الوعد الصادق" لتبدد آمال الصيف الواعد و لتختطف مع الجنديين الإسرائيليين شعب لبنان بكامله و تجعله أسيرا ً لحمم القذائف الإسرائيلية الهابطة من الجو و المنطلقة من البحر و البر.
قد يتبادر إلى البال أنّ الرهان عُقد على ضبط دولي لحجم ردة الفعل، لكن بعد تصاعد حدة إنذارات إسرائيلية سابقة تحذّر من الإقدام على "مغامرات" عسكرية ضدّها و بعد رؤية ردة الفعل على خطف جندي إسرائيلي على الحدود مع غزة، رجحت كفّة جموح عسكري ثأري متفلّت من لجام القيود الدولية تحت شعار "الدفاع عن النفس".
لذا ترتسم وراء هدف المبادلة المعلن علامات استفهام حول غايات أخر مثل:

1) تخفيف وطأة ضغط الحملة العسكرية على غزة
2) إستنهاض مشاعر جهادية قومية و دينية، اكتسابا ً لتأييد جماهيرها
3) إستقطاب هذه الجماهير و تأليبها على حكامها
4) تحويل إهتمام لقاء الدول الصناعية في بطرسبورغ عن البحث في الملف النووي الإيراني و حصره بالأزمة المستجدة
5) تقويض إنجازات لبنانيّ "ثورة الأرز" و زعزعة ركائز الحكم و الإستقرار في لبنان
6) تمهيد السبل لعودة "مظفّرة" للتدخل السوري و تعزيز النفوذ الإيراني من باب "المونة" على الحزب و المفاوضة باسمه
7) تغييب ملف تشكيل المحكمة الدولية التي سيحال عليها المتهمون بالضلوع في ارتكاب جريمة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري الذي استشهد معه الوزير باسل فليحان و عشرون من المرافقين إضافة إلى مجهول
8) تأجيج الصراع مع إسرائيل و جعل لبنان كبش محرقة يتلطى وراء تضحياته "أبطال" النظام السوري فيما هم يتحيّنون فرصة "طهوه و إنضاجه" ك "وجبة" جاهزة للأكل من جديد "تُغني" عن الجولان المغفل من قاموس خطبهم
9) إرباك المساعي الدولية لنشر الديمقراطية في المنطقة و إضعافها لحساب استقواء الحلف الإيراني-السوري
10) "إعلان حربي مسبق" عن "حيوية" و جهوزية "خط دفاعي أول" قابل للإشتعال في حال "التعرّض" لإيران
لقد سيق اللبنانيون سوق الشاة إلى الذبح، و زُجّوا في أتّون حارق بخّر غليانه التطمينات الطيبة بالتزام الهدوء لإنعاش موسم الإصطياف و كأنها "أضغاث سكرة" ألمّت ب"دردشات" الحوار.
هذا الحوار الذي "علق" فيه (و كأنه ورطة!) اللبنانيون، حسب "المفهوم" السوري، و "لم يتفقوا" رغم إجماعهم على ما يتجاهله أركان النظام السوري من ترسيم للحدود ( يسحب من أياديهم "مصيدة" هوية شبعا) و إقامة علاقات دبلوماسية سوية عبر سفارتين لا عبر ضباب "أروقة" "المجلس الأعلى". إضافة إلى الإتفاق على تشكيل محكمة دولية-لبنانية مختلطة لمقاضاة المتورطين في جريمة إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
يغور لبنان و شعبه في لجّة مأساة القصف الإسرائيلي الضاري و يخال البعض
المواجهة غير المتكافئة و كأنها مباراة كرة قدم يصفق فيها المناصرون لإصابة بعض الأهداف و يتحرّقون لإحراز المزيد.
أكثر "المتفرجين" حماسة هم "المشاركون" عن بعد و خاصة فريق من "رعاة" هذه المواجهة ( من حيث الإعداد و التدريب و التموين الصاروخي)، فهاك واحد من "متعهدي" "محو" معْلم ما "عن الخريطة"، يهلل لل"تقاذف" معتبرا أن اليوم "يوم تحرير فلسطين".
و هكذا تصريح يثبت الشراكة الإقليمية و الأبعاد "المرجوة" لهذه "المعركة". أما إسرائيل فتجد في هذا اليوم فرصة لتصفية الحساب مع غريم تمادى بإزعاجها فاندفعت لسحقه.
ولأن "أشبال" النظام السوري "صُرفوا" منعا ً للإسترسال في " تحطيم لبنان على رؤوس قياداته" راحوا يتوسلون استفزاز و تحريض الأسطول الحربي الإسرائيلي عليه ب"الواسطة"، فأشفى غليلهم، وإلتقى "الأعداء" المفترضون مرة جديدة في تواطؤ موضوعي.
إيران حذرت من التعرض لسوريا و إسرائيل طمأنت أنها لن تتعرض لها و حليفا "الحزب" "ينبسان" بتمتمات دعم له.
فيما يتشوّقان ل"مشاهدة" "مبارزات التلاحم" البرّية التي تتوخى منها إسرائيل "تفريغ" حزام "عازل" يُعهد فيه الأمن إلى قوة دولية رادعة يؤازرها الجيش اللبناني. لقد سدد "لاعبو" "كرة النار" ضربات بالغة الألم للبنان في عزّ مرحلة تعافيه فأنهكوا صحّته و زعزعوا بنيته.
و كلما قيّض لهؤلاء "التقاذف" كلما أثخنت الجراح جسد الوطن و أحشاءه.
إن الأضرار التي أصابت اللبنانيين من القصف المنهجي الأسرائيلي بلغت آفاق الكارثة الإنسانية بسقوط مئات الضحايا الغالية و بنزوح مئات آلاف المواطنين من منازلهم و تهديم بنى حيوية يشكل الحرمان من خدماتها حصارا ً خانقا ً و تجويعا ً ظالما ً لجميع المواطنين.
فيما يتلهّف اللبنانيون إلى الخروج من مرمى النار ناشدين الأمان، ينغّص أملهم توجّس، إذ يشعرون أنه إثر الصحوة من دوامة جنون الحرب سينقشع هول مأساة إنسانية رهيبة يصعب التكهن بأعبائها و تشعباتها مهما خفّف أثقالها و بلسم جراحها مساعدات مشكورة من الدول الصديقة.
لكنهم واثقون بتعافيهم رغم عمق الجراح و شدة الآلام و عازمون على النهوض بثبات رغم كثرة العقبات.
فطوبى لمن يبلسم الجراح و يعضد أبناء الوطن لتجاوز المحنة.
و لأنّ الخير قادر دائما ً على تجاوز الشرّ، لم يحل "قطع" جسور العمران في لبنان دون مدّ جسور الصداقة لتعبر عليها المساعدات و تُبذل التزاما ً بعهودها جهود حثيثة لإرساء أمن راسخ و سلام وطيد في ربوعه.
لقد واكب و دعم أصدقاء وطن الأرز مسيرة تحرره و نهوضه و استعادة سيادته، و ما زالوا حريصين على حماية استقلاله و منجرات بنيه.
و لم يغفل العالم الحر القيمة الحضارية الغنية لوطننا، لذا سيثابر على إكمال "تجهيزه" ليتألق من جديد موئلا ً حضاريا ً نموذجيا ً محصنا ً بحماية دولية ضرورية تردع كيد المتربصين به شرا ً و تؤمن له مظلة أمان يقوى و يزدهر في فيء رعايتها.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١٢.٧.٠٦

تصويبا ً للولاء و تثميرا ً لأرصدة الوطن

حميد عواد*

حال الصراعات بين خلايا المجتمعات كحال الإلتهاب في خلايا الأنسجة داخل الكائنات الحيّة.
ففي الحالين أثبتت التجارب أنّ المعالجة الناجعة لأي معضلة تبدأ بفرز دقيق لِمكوّناتها بأطرافها و تشعباتها.
يليه تقصٍّ عميق لأسبابها و جذورها.
و يُستتبع بالتركيز على اختبار نسب ترابط عناصرها، و كيفية تفاعلها و تجاوبها مع علاجات مفترضة.
و يُتابع البحث الحثيث حتى يُفضي إلى ابتكار حلّ حاسم أو إنتاج دواء شافٍ.
لكنّ الجهد لا يُؤتى ثماره إلاّ إذا تقبّل العلاج من يحتاجه.
و كلّما بدأت مكافحة العلل باكرة زادت حظوظ نجاحها و كلّما تأخرت زاد التأزّم و التعقيد في مسار التعافي.
فطالما أُهمِل الإلتهاب بلا علاج فعّال، قُيّض له أن يتفاقم و يستعر و يتمدّد ليهيّج بؤرا ً جديدة يستوعب جيوبها فتزيد من تأججه.
المقصود من هذا التذكير تحذير أطراف النزاعات الناشبة حاليا ً من خطورة نهج التهور و الجموح و حضّهم على التعقّل و الإنضباط لتلمّس طريق الإنعتاق من سورة الجنون و النزف و الإستهلاك ليصلوا إلى مرحلة الوئام و السلام.
نظرة خاطفة نحو المآسي و الخسائر الفادحة التي سببتها النزاعات و الحروب، و التي تجاوزت حدود ميادينها الجغرافية لتطال كل شعوب الأرض، تنبّهنا إلى وجود ترابط عضوي بين مختلف الكتل البشرية يجعل منها جسدا ً إنسانيا ً واحدا ً يستمدّ عافيته من سلامة كل عضو فيه و يعتلّ متى أصاب مكروه أي جزء منه.
يتبلور هذا التجسد في كيان منظمة الأمم المتحدة.
عبر مؤسساتها المتعددة الإختصاصات تبادر الدول الأعضاء، بقدر مساهماتها المتفاوتة، إلى مساعدة الدول الفقيرة بشكل دائم و تبادر لأسعاف الشعوب المنكوبة كلما ألمّت بها النوائب .
و بموازاة إسهامها في التمويل الأساسي للمنظمة الأممية ترصد الدول الغنية في موازناتها مخصّصات للمساعدات الخارجية تقتطع من وارداتها و ثرواتها و الضرائب المجباة.
و طبيعي أن يضطلع مجلس الأمن بصلب مهامه في فضّ النزاعات التي تهدد الأمن و السلام في العالم و أن تلعب الدول الدائمة العضوية فيه دورا ً محوريا ً في اتخاذ و تنفيذ قراراته.
و كيلا يضّطر هذا المجلس ل"قنطار علاج" يبذل أكثر من "درهم وقاية" خلال جهود الوساطات لتسوية الخلافات و يرسل قوات حفظ السلام إلى مناطق التوتر تلافيا ً لنشوء الصراعات أو منعا ً لتفاقمها.
لكن مجرد قراءة "مزامير" القيم الإنسانية لا تلقى مسامع صاغية إن تُليت على مخلوقات شوّه طبيعتها الإنسانية ميل جامح نحو التسلّط أو تنشئة منحرفة مشحونة بسموم التضليل و الكراهية تؤدّي إلى استعداء كل من لم يتمسّخ مثلها.
و هنا تكمن أهمية عزل الطغاة و فضح مصادر "تلويث الأدمغة"، و تفكيك عصب التزمّت.
فيما تُبلسَم النفوس بترويج فوائد الإنفتاح و إتاحة التواصل و اكتساب المعرفة و تثقيف الفكر و إيقاظ الضمير و الإنخراط في المجتمع الإنساني بشراكة خيّرة.
رغم الإفرازات السلبية للصراعات العاتية التي نفّست احتقانها في لبنان، عاد نجم نخب اللبنانيين يسطع كَرُوّاد حضارة اختمرت في قلوبهم خلاصات المحبة و ترافدت في عقولهم سيول المعرفة و تفتّقت في قرائحهم براعم الإبداع و نضجت في وجدانهم ثمار الحكمة فأعطوا بسخاء و خدموا بإخلاص مجتمعاتهم داخل الوطن و في ديار الإنتشار. لبنان خميرة نشيطة لإستنهاض الذات الإنسانية النبيلة و لتحفيز قيم العدالة الشاملة و الحرية المتنوّرة و صون حقوق الإنسان و التزام المبادئ الديمقراطية. تغلّب شعبه على محاولات شرسة لسحقه و رسّخ قناعة عالمية بأهمية دوره فمحضه العالم دعما ً مطلقا ً.
كُرّس لبنان شريكا ً مدللا ً لأوروبا في سياسة الجوار بسرعة قياسية لأن مؤسساته و نظمه في غالبيتها متلائمة مع المعايير المعتمدة في أوروبا و الجهود منطلقة لتعديل ما يتناقض مع هذه المقاييس لجعلها مؤتلفة.
كما أن الولايات المتحدة الأميركية تزخّم نشاط المساعدات المتنوعة و تخصّب تلاقح الخبرات كاستضافة وفود صحافية ضمن دورات إعداد مهنية في أميركا، و مشاركة وفد من الكونغرس الأميريكي زملاء لهم في البرلمان اللبناني في ندوات عقدت بالأمس و تناولت وجوه ممارسة الديمقراطية و الرقابة و العمل البرلماني في البلدين، و إرسال السفارة الأميركية عشرات الطلاب إلى الولايات المتحدة ليمضوا سنة في ضيافة عائلات أميركية و يدرسوا مع الطلاب الأميركيين فيخوضوا تجربة فريدة أشاد بفائدتها الطلاب العائدون.
يبدي العالم إهتماما ً بالغا ً بلبنان و تقديرا ً عظيما ً لمنزلته و حرصا ً عليه تفوق إهتمام بعض اللبنانيين بوطنهم و تقديرهم له و حرصهم عليه.
ذلك أنّ أمثال هؤلاء "تعوزهم المناعة المكتسبة" من إدراك غنى الرصيد الوطني و الشعور بفخر الإنتماء لوطن الأرز المتفرّخ في رحاب العالم، و الموئل المحتضن حضارات عريقة و متحف للآثار متجذّر في أعماق تاريخ مجيد.
أصالة صفوة اللبنانيين تتجلّى في خدمة الوطن بإخلاص و تفان ٍ، مقرونة بعزّة الولاء لكيانه الوطيد المنبثق من رحم التاريخ و المصقول بسواعد بنيه التي فتّتت الصخور و أحالتها تربة خصبة، جبلها عرق تضحياتهم و ضمّخها دم شهدائهم.
هذا الكيان الذي بلورته إرادة أهله في العيش الحر الكريم فصاغت دستوره بنفس ميثاقي كجمهورية ديمقراطية برلمانية، سيّدة قرارها، مستقلّة، و عضو مؤسس في منظمة الأمم المتحدة و جامعة الدول العربية.
و ميثاق الشراكة الوطنية لا يجيز التفرد في القرارات المصيرية بل يشترط التوافق و الإجماع حيالها.
و قيام الدولة القوية يحتّم التعاضد لإنجاز تنقية المؤسسات من "زؤان" و مخلفات و رواسب حقبة الترويع و العسف و الفساد و الهدر و التصفية و الإنحلال و الإنحطاط التي تخلّص منها اللبنانيون بعد نضال مرير و تضحيات جليلة و باهظة الكلفة. لذلك يتبرّم اللبنانيون ممن لم يبرأ من ذهنية التبعية الذليلة، و يشمئزون من "مذيعي" الرسائل المرمّزة أو الصريحة التي "يلتقطها" هؤلاء من آمري مرحلة الهيمنة الآفلة ليعيدوا بثّها محليا ً.
كما يمجّ اللبنانيون السجالات العقيمة و مناورات عرقلة النهوض و التلكؤ في استكمال تجهيز المؤسسات و الإدارات بشريا ً و ماديا ً.
و الرهان معقود على آلية نزيهة و شفافة و منصفة في إختيار الأكفأ و الأخلص و الأقدر لملء المراكز الشاغرة.
ليس سرّا ً أنّ طغيان ولاءات هجينة في أوساط لبنانية، سلختهم عن بقية مواطنيهم و خلخلت بنية الوطن و هيّأت أجواء الفتن و فتحت فجوات تسللت عبرها طوابير الغزاة و "فرق" الإغتيالات و خلايا المدمنين على "أفيون" التخدير الفكري.
لذا فإن أقصر السبل و أسهلها و أأمنها لتمتين المناعة الوطنية من التأثير السلبي للأوضاع المحيطة بلبنان هي "تشريع نوافذ" العقول "المنطوية" ل"نسائم" الثقافة الوطنية و "تسريب" الإيمان بجدوى و أولوية الشراكة الوطنية إلى النفوس "الشاردة" حتى الإرتقاء بالولاء الوطني إلى أعلى المراتب.
إذن الخروج من البيئات القبلية المتنوعة النعوت و الأوصاف إلى كنف الوطن الرحب، هو عربون وفاء و دعم يعززان ثقة المواطنين و استقرار الوطن المرتكز على مناكب كل أبنائه.
هيبة الدولة لا تُستعار و أمنها لا يُستجدى و سيادتها لا تُوكل، فسلطاتها القوية و القادرة و العادلة المنبثقة من الإرادة الحرّة لبنيها و الحائزة على ثقتهم هي مظلّة الأمان لضمان الحقوق و حماية مسيرة الإزدهار.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١٩.٦.٠٦

عقم الإرهاب و خصب الوئام

حميد عواد*


رغم تواصل حقبات التنكيل الفظيع الذي نكب اللبنانيين، المحبّين و المخلصين لوطنهم، عقوداً من الزمن، حافظ هؤلاء على رسوخ إيمانهم بحقوقهم و منعة كيانهم و توقهم إلى الخلاص، فأبقوا جذوة الحرية و العزة و العنفوان و الرجاء متّقدة في وجدانهم.
مواكب الأحرار هبّت لصون السيادة و الإستقلال من الإنتهاكات، و لم تسكت على الضيم فبذلت خلال نضالها أجَلَّ التضحيات.
صمود اللبنانيين أذهل العالم و حضّه على الأخذ بيدهم و رفع عبء الهيمنة العسكرية السورية عنهم، فصدر قرار مجلس الأمن 1559 و اقترن بالسعي الدؤوب لتنفيذ بنوده.
و على وقع سقوط شهداء عمالقة في اغتيالات غادرة، نُفّذ جزء مهمّ من القرار المذكور بانسحاب الجيش السوري و طواقم من مخابراته من وطن الأرز إلى سوريا يوم 26 نيسان 2005.
و أصبح ممكناً التلاقي و الحوار بين شرائح الوطن و إحياء مؤسسات الدولة الديمقراطية و انتشالها من غيبوبة احتضارها، لتمسك بناصية قرارها االحرّ سيّدة مستقلّة.
لكنّ النظامين الوثيقي التحالف السوري و الإيراني ما زالا يستنفران "محبّذي" نفوذهما في لبنان و يرعيان رصّ صفوفهم لإقتطاع حصّة مهمة من القرار اللبناني أو للجمه و إرباكه.
لبنان دخل مرحلة الإنعتاق من الجلادين و واجب كل لبناني مخلص المساهمة في تنقية الإرادة السياسية و الحياة الوطنية من قيوح و قيود و ذيول مرحلة تحوّل فيهاالوطن إلى سوق نخاسة و مسلخ لنحر الأحرار.
و حيث أنّ معظم اللبنانيين لم يصابوا بالخَرَف فإنّ "الضمانات" بإرتداع الذئاب عن مراودة كرومهم، التي "يتبرّع" بمنحها إليهم "رسل" "المعلّمين" الإقليميين لا "تثلج" قلوبهم.
الأجدر، إثباتاً لصدق النوايا، البدء بغسل نفوس "الرعايا" من رواسب الإنقياد الغريزي وراء "الزعامة المؤلّهة"، و الشروع بتنشئة وطنية سليمة تجمع المواطنين في بوتقة الأخوّة في الولاء الوطني و التعاضد في سبل خدمة الوطن.
و لتوسيع المدارك لا بدّ من إغنائها بالمعرفة و التمحيص الدقيق في التفاصيل و الأبعاد و تنمية الحس النقدي لإكتساب القدرة على بناء الأحكام و إعطاء كل شأن استحقاقه.
للأسف الشديد تطالعنا "جماهير" "مرهفة" الإحساس بردود فعل عشوائية و غوغائية على شؤون "تخدش" مشاعرها، فتثبت أنّها بحاجة إلى تأهيل و إكتساب ثقافة وطنية صافية.
بين الحرية المسؤولة و التعبير الحرّ عن الرأي، ليس معصوماً عن متناول البحث أي موضوع أو إنسان شرط أن يكون الكلام موضوعياً و متّزناً و لائقاً. و في مطلق الأحوال، لِيقارع النقد ردّ بقول الحق، يفنّد الأخطاء و يدحض الإدعاءات و يسفّه الإفتراءات بدل لغة الغوغاء و قذف الحجارة و التخريب. لأنّ وقع كلمة هيمنة على مسامع اللبنانيين يثير في خواطرهم ذكريات مريرة، يحاول البعض استعارة هذا التعبير لإلصاقه بالمساعي الدولية الجادة و الحثيثة الآيلة إلى نقاهة و تعافي لبنان.
و ما هذه التورية إلاّ ذرّ للرماد في العيون و ضرب من ضروب الشعوذة. فاللبنانيون يدركون حق المعرفة أنّه لولا تبنّي المجتمع الدولي، بقيادة الولايات المتحدة و فرنسا، لكفاحه من أجل استعادة حريته و سيادته و استقلاله و تقديره لتضحياته و إجلاله لشهدائه ، لطال استرهانهم و معاناتهم إلى أمد غير معروف.
و الدول الحرة لا توفر جهداً لمساعدة لبنان على إحياء مؤسساته و إنعاش التواصل الديمقراطي بينها لتحسين الأداء و تزخيم حركة التوثب نحو مستقبل أفضل.
و إلى جانب إعادة بناء أجهزته الأمنية لتشكل الدرع الحامي للوطن لا بدّ من توسيع المجتمع الدولي لإطار شبكة الأمان التي يسيّج بها لبنان لتردع أي مصدر لإختراق أمنه و زعزعة استقراره خارجياً كان أم داخلياً.
لا يرضى اللبنانيون و معهم العالم الحر بوجود قوى خارجة على القانون تستبيح أرضه و سيادته لإرهاب أهله أو جعله منصّة لإطلاق صواريخ هدفها استدراج إعتداء عليه.
كما يرفضون تحويله حقل كمائن ملغّمة تُنصب لإرتكاب الإغتيالات و تصفية الحسابات.
حذار الإغراق في استنفاد صبر و صمود اللبنانيين.
كفاهم الصدمات المروّعة التي تحملوها بشجاعة فائقة.
أما جراحهم الطرّية فتحتاج إلى بلسمة لا نكء.
و كي تتبدد هواجس قلقهم و تترسخ الطمأنينة في خواطرهم يجب إزالة مصادر التهديد و الخطر و الإجرام، و تسييد و تحصين العدالة الأصيلة.
و ما قرارات مجلس الأمن 1595 (الخاص بتشكيل لجنة التحقيق في الإغتيال الآثم الذي غيّب الرئيس رفيق الحريري و الوزير باسل فليحان و عشرين آخرين من مرافقيهما إضافة إلى شخص مجهول) و 1644 ( الإيعاز بإنشاء محكمة ذات طابع دولي لمحاكمة من يشتبه بضلوعهم في الجريمة المذكورة) و 1686( تمديد مهمة لجنة التحقيق سنة و توسيع صلاحياتها لمدّ السلطات اللبنانية بالمساعدة التقنية في التحقيقات المختصة بالتعديات الإرهابية المرتكبة منذ 1 تشرين الأول 2004)، إلاّ وجه بارز من وجوه الدعم الدولي لتزويد القضاء اللبناني بحصيلة تسخير أحدث الوسائل و الإمكانات و الخبرات العالمية المتوفرة في العلم الجنائي لتحليل مكونات الجريمة.
فيما يكمل القاضي سرج براميرتس تنقيبه في أدقّ أدلتها و يتقصّى بصمت أبعادها و يربط بحنكة عناصرها، يُطمئن الجميع، و إن متكتّماً، بأن تحريّاته تسير بثبات نحو كشف شبكة المتورطين في الجريمة الإرهابية الفظيعة.
مقابل الإرتياح العام لنهج براميرتس و الثناء الشامل على كفاءاته و مهاراته، يرتفع بإنتظام منسوب التوتر و التوجّس و الأرق في نفوس المتآمرين خلال ترقّب موعد إصدار مذكرات الظنّ و الإحالة على المحاكمة.
إنها لمفارقة صارخة أن يجعل العالم الحر لبنان موضع عناية فائقة لإنعاشه، أهله بأمس الحاجة إليها لإستعادة أنفاسهم و الإنطلاق في استثمار خيراتهم، فيما يعاكس البعض المصلحة الوطنية بوضع العوائق الكابحة لإنسياب دورة الحياة حتى الشلل و الإختناق.
و مفارقة أيضاً أن تعلن الأمم المتحدة و حتى إسرائيل ( خلال زيارة رئيس وزرائها إلى فرنسا) أنّ استرجاع مزارع شبعا ممكن متى أثبت لبنانيتها ترسيم للحدود بين لبنان و سوريا، فيما تقف المراوغة حائلاً دون تحقيق هذا الهدف.
صحيح أنّ إغتصاب الحقوق هو انتزاع بالقوة أما استرجاعها سلمياً فممكن بحشد تأييد ضاغت من العالم ثمّ استنهاضه لإحقاق العدل.
و كي يسود السلام و يتخصّب الوئام لا مناص من تثقيف العقل و ترويض الغريزة و تهذيب السلوك و تنقية الضمير و صقل المشاعر، فلا يجد عندها العنف و الإرهاب إلى النفس سبيلاً.
هناك مبادىء منطقية و قواعد ضابطة تعتمدها الأمم الحرة لرعاية العيش الهانىء بين كل الجماعات البشرية و شعوب الأرض، قوامها الإحترام المتبادل و التعاون المخلص و التعامل بإنصاف.
و من جنح عن هذه الأصول و هدد الإستقرار و السلام، و انتهك حقوق الآخرين عُوقب و نُبذ.
فمرحباً بمن انخرط في موكب التآخي الحضاري، و اعتنق الإنفتاح و الأمان و السلام، و الويل لمن انحرف و تقوقع، وانزلق نحو مهاوي الإرهاب و العنف و الإجرام!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٧.٥.٠٦

لنتَنبّه ونتّعظ فنرتقي

حميد عواد*


نشكر الدكتورة سلوى الخليل الأمين، رئيسة "ديوان أهل القلم"، على مبادرتها الطيّبة إلى دعوة الدكتور شارل العشّي، مدير مختبر الدفع النفّاث في الNASA، إلى الحضور إلى وطنه الأم لبنان لتكريمه. فأمثاله "ذخر لبنان و عظمته" كما قالت.
و هو بدوره أعلن أنه "ممتنّ للبنان و اللبنانيين" و أضاف: "أنا أفكر بلبنان دائماً"، "لن أنسى أني تركت لبنان بمنحة حصلت عليها عام 1964 من الرئيس شارل حلو، فهذه كانت منحة من الحكومة اللبنانية و أنا أقدّر ذلك." ثم أكمل: "أنا أحب لبنان كثيراً" و "أفخر بأصلي" و " أنا أتحدث دائماً عن لبنان و الصداقة بين لبنان و الولايات المتحدة. و نحن نعمل من أجل السلام في لبنان و الشرق الأوسط."
و قد ذكر زملاء يعملون معه كالعالم مصطفى شاهين و كلاً من البروفسورين جورج حلو و جوزف عون، ليؤكد أنه يتداول و أياهم "سبل مساعدة لبنان عبر إقامة مراكز أبحاث."
كما لم يغفل الإشارة إلى أن كثيرين من أبناء لبنان أثبتوا مواهبهم الفذّة وبرزوا في شتى المجالات و هم "يتولون مناصب مهمة جداً في العالم." "فهذا يعطي انطباعاً ممتازاً عما يمثله لبنان" و يثبت أن "اللبنانيين ناجحون".
ألإحتفال التكريمي سيقام في قصر اليونسكو و من المتوقع أن يلقي الدكتور العشي سلسلة محاضرات في كبريات الجامعات اللبنانية.
تنشّط هذه المقتطفات الذاكرات الخاملة و المتلاشية، علّها تصّحي من ربقة العبودية و الإدمان أولئك المتخدرين بأفيون الإنقياد الفئوي الأعمى، المعطّل للفكر و المجهض للعطاء و المذلّ للكرامة و المحبط للفهم و التواصل.
إذ تبرز نموذجاً ريادياً متألقاً من إنجاب لبنان، منشأ القادة الفرادى.
و تثبت أن هذا الوطن ليس دهليزاً ضيّقاً يأوي حصراً مخلوقات محنّطة، بل هو شلال غزير من الخيرات يغذي مدىً إنسانياً خصباً و رحباً لا حدود له.
و تظهر أن رصيده الأساسي ليس ذخيرة البارود بل مخزونه الفكري و ثروته الثقافية.
لذا يصيبنا الذهول أمام مشهد سياسي مرتبك يشوّش علينا هذه الصورة البهيّة. فهو يتأرجح بين المرونة و التصلّب، يظهر فيه فريق يحاول الإقلاع بقطار الدولة، و فريق آخر يبدي بعض التعاون حيناً و يوفر قسطاً من المؤازرة الأولية، ثم لا يلبث أن ينقلب ليجهض هذا الإقلاع.
و في حمّى المناورات و المناكفات المتشعّبة، تنشلّ حركة التبديل و التداول في مناصب محورية، فيطبق الجمود على المؤسسات الحيوية التابعة لها.
و تتعقّد الحلول و تتعثر مبادرات الإصلاح و البناء، و تتجمّد القروض و المساعدات و تتبخّر المشاريع، فيتصحّر الوطن و يحتضر المواطن.
و بفعل قوى اللؤم الخبثية يجنح "مَنبت الرجال" نحو اليباس، و تُطمس الكفاءات بحُجُب العاجزين، و تُحبس الطاقات رهينة لمشيئة العاقرين، و يُنهش الصمود و يُجهض الإنبعاث و يُنهك المواطن لحساب الطامعين.
إننا نلوم بشدة طاقم الإحباط السياسي على محاولته الإرتدادية لعكس مسيرة التعافي عبر إعادة ربط مسار الحياة الوطنية بمصالح حلفائه الإقليميين.
كما نستهجن إنزلاق التيارات السيادية إلى مهاوي الإنشطار المخيّب للآمال و ندين اشتباكها المعيب في سجالات إعلامية حامية و مؤذية، يعتريها الإفتراء و التضليل و التبرير العقيم.
حرام تبديد قيم الإستشهاد في سبيل الإستقلال و ممنوع التفريط بثمار نضال جيل التحرير الذي استقطب الدعم الدولي و تعملق ففكك بقوة عزيمته معسكرات القمع والإستبداد والإستتباع.
لا يغيبنّ عن البال أنّ هذا التخبّط المستهجن يوفر مناخاً مثالياً لإلهاب شهوة المحور الإيراني-السوري للإطباق من جديد على لبنان.
و هو الذي نسج تحالفات مع فرقاء عراقيين و لبنانيين و فلسطينيين ليرجّح قوتهم على منافسيهم و يؤجج الصراعات فيعزز نفوذه الإقليمي آملاً في إحباط المساعي الدولية لنشر الديمقراطية في دول المنطقة لأنها صيغة تناقض طروحاته و ممارساته.
و هو ينقّب عن مكامن الضعف في مجتمعات هذه الدول ليتسرب منها و يستغلّها لإستكمال إحكام الطوق المنكبّ على نصبه.
و يبدو من تصريحات المسؤولين الأردنيين عن الشبكات المسلحة التي كشفوها داخل الأردن أنها تابعة للمحور المذكور.
و فيما ينشط هذا المكوك في غزل شلّة أعوانه حول طموحاته في لبنان تتردد، على إيقاع "ضربني وبكى ، سبقني و اشتكى"، إدعاءات تجنّ سخيفة "يرتكبها" سياسيون لبنانييون بحق أركان النظام السوري! و "تنصّلا"ً من تنفيذ "الأحكام الميدانية الحادة" و بما أنّ هيمنتهم انحسرت عن القضاء اللبناني، نشطوا في تحريك القضاء العسكري السوري لملاحقة القطبين السياسيين وليد جنبلاط و مروان حمادة إضافة إلى الصحافي فارس خشان. و أول الغيث تسطير استنابة، أُحيلت على الإنتربول، لملاحقة رئيس كتلة التجمع الديمقراطي الأستاذ وليد جنبلاط.
إستفزازات النظام السوري ما توقفت و لو أن "فظائعه" استكانت. و هي ترافقت مع تقريعات يطلقها أسياده و توبيخات ينشرها كتّابه. و خلال نوبات التوتر أُقفلت الحدود من الجانب السوري إقتصاصاً، و تعدتها اليوم إثر قيام جرفاته ب"بروفة" "ترسيم" للحدود بسواتر، مرة ترابية و أخرى صخرية، كيلومترات داخل الأراضي اللبنانية في منطقة عرسال.
و أخطر من ذلك بدأ اللعب بالنارمجدداً: إذ إنتخت "للجهاد"، منذ أيام،
( و ربما أضاعت بوصلتها و ضلّت طريقها ) عناصر من منظمة فتح-الإنتفاضة ( على مين) حمَلتها إلى منطقة ينطا، عبر حدود "مبهمة المعالم"، رياح "الولاء" لأسياد النظام السوري، فتحرشت بدورية للجيش ( تبيّن أنه لبناني ) و أردت شهيداً باراً إلتحق بقافلة شهداء الإستقلال هو العريف المجنّد مصطفى مثلج.
إننا نشارك قيادة الجيش الأسف لخسارته، و نتضرع إلى الله أن يتغمّده بفيض رحمته و يلهم أهله الصبر و العزاء.
تتعدد البراهين على تحكّم غريزة الإستفراد بلبنان بسلوك أرباب النظام السوري. فهي التي حفّزتهم على الإعتراض على القرار 1680 لمجلس الأمن الدولي الذي قرن فيه القرار 1559 بالقضايا التي أُقرت بالإجماع في جلسات الحوار الوطني.
و ما هذه المبادرة إلا توكيد الإرادة الدولية على ضرورة تنفيذ الحكم السوري المطالب البديهية للحكومة اللبنانية من ترسيم الحدود إلى تبادل التمثيل الدبلوماسي إلى الكف عن التدخل في شؤون لبنان الداخلية و زعزعة أمنه، إضافة إلى الإلتزام بمقتضيات التعاون مع القرارات الدولية و الإحجام عن عرقلة و إعاقة تنفيذ كامل بنود القرار 1559.
إن تبرّم و استياء أركان النظام السوري من المطالب التي أجمع عليها اللبنانيون و دعمها المجتمع الدولي، دفعاهم إلى الإنقضاض على المفكرين السوريين، أمثال ميشال كيلو، أنور البني، كمال اللبواني و صفوان طيفور، و سجنهم لأنهم في عرف أهل النظام " أساؤوا إلى هيبة الدولة و أضعفوا الشعور القومي إلخ..." بتوقّيعهم مع أقرانهم اللبنانيين ميثاق بيروت-دمشق الداعم لمطالب إصلاح العلاقات هذه!
إن مدد السجن التي تنطوي عليها التهم المساقة ضد هؤلاء المفكرين، و منها المؤبد، تصعق كل راشد و تظهر مدى تطَيُّرالنظام السوري من "خطورة" إقامة علاقات طبيعية مع لبنان!
و هكذا يثبت مرة جديدة أنه يعيش خارج عصر التحضّر و أنه غير قادر على إصلاح نفسه و الإقلاع عن الشغب و حصر إهتمامه في رعاية شؤون شعبه.
هل تدوم نِعَمُ المنشّطات الإيرانية لمدّه أبداً بالحياة؟
و متى تعطى الأفضلية لتوظيف ثروة كل شعب في تنمية طاقاته بدل هدرها في تصدير القلاقل و الثورات؟
و متى يكتمل نضج الفكر و الحرية و القيم السامية في وجدان الشعوب المقهورة، فتُفتّتَ الكلس العالق في مفاصلها و ثنايا أدمغتها، و تنفض عنها غبار العبودية و تطلّق عبادة الأصنام و تشفى من الأحقاد، و تشرّع عقولها و قلوبها على مدى آفاق الإنسانية الواسعة، مشيّدة صروحاً للمعرفة و التواصل و العمران؟
لا بد أن يحين هذا الإستحقاق فتنصبّ كل الجهود على بلوغ هدف الخلاص.
و كل من سار على درب الحق وصل!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٤.٤.٠٦

لا تضيّعوا الفرص!

*حميد عواد

سئم اللبنانيون مرارة الصراعات التي جُرّعوها لأكثر من جيل، و قالوا كفى لمن يحاول استدراج المزيد.
فقد أنهكتهم ضراوة الحروب البديلة و المعارك الموكولة و استنزفتهم و استنفدت طاقاتهم.
قاوموا الإعتداءات بالسلاح يوم عجزت الدولة المتفككة عن حمايتهم و تخلى عنه معظمهم يوم أبرم اتفاق الطائف التزاماً بقيام الدولة المرجوة و إطلاقاً لجهود الترميم و النهوض و التنمية.
لكن حساب "حقل" الطائف ما انطبق على حساب "بيدر" النظام السوري الذي اجتهد أربابه بلا هوادة للإيقاع بلبنان فريسة بين أشداقهم.
فتصدّى سلمياً، لكن بصلابة و عناد خارقين، لأطماع هيمنتهم الكلّية على لبنان، الحراس الأشاوس لوطن الأرز، معقل العزة و الحرية و الكرامة و محضن المعرفة و الثقافة و الفرادة، إحباطاً لخنقه و منعاً لإبتلاعه.
و في ذروة مجون النظام السوري الثمل من امتصاص رحيق عافية اللبنانيين و المتلذذ برشف دماء شهدائهم، استفاق العالم الحرّ من غفلته و أدرك خطورة هذا الجموح.
و زاده تيقظاً مرافعات عميقة و شاملة تحثّ على تخليص لبنان، دبّجها لبنانيون مغتربون نافذون لدى إدارات دول القرار في المهاجر.
فتوافقت فرنسا و الولايات المتحدة على ضرورة إغاثة لبنان و إلحاح مؤازرة كفاح أبنائه المتوثّب لإستعادة حريته و سيادته و استقلاله.
و صِيْغَ قرار مجلس الأمن الدولي 1559 (2 أيلول 2004) الذي قضى بخروج الجيش السوري من لبنان.
لكن غداة اتخاذ القرار طُبّقت "رغبة" الرئيس السوري بتعديل الدستور اللبناني و التمديد للرئيس لحود ثلاث سنوات (تجنباً ل "تكسير لبنان على بعض الرؤوس") بتمهيد و تنسيق من جانب "ضابط" إيقاع الأمن في لبنان آنذاك اللواء رستم غزالة (غزالة أكّد "ترتيب" مشروع التمديد في حديث لجريدة "الرأي العام" منذ بضعة أسابيع).
و في دلالة على الأهمية "الستراتيجية" التي تكمن في هذه "الرغبة" شبّه الرئيس السوري إقصاء الرئيس لحود عن سدة الرئاسة بمثابة "فصل لبنان عن سوريا".
رغم تمرير التمديد لم يهدأ غضب القيادة السورية من إصدار القرار 1559 و لم يُشفَ غليلها.
و علا التهديد و الوعيد و ما لبثت أن انطلقت مكائد اغتيال بدأت بالنائب و الوزير مروان حمادة (و قد نجا من الموت بأعجوبة) و انتقلت إلى استهداف موكب الرئيس رفيق الحريري بتفجير هائل قضي عليه و على اثنين و عشرين من مرافقيه.
ثمّ كرّت السبحة على تقّطع لتطال شخصيات إعلامية و سياسية بارزة مناهضة لسلوك النظام السوري كان آخرها النائب جبران التويني شهيد الحرية و شفيع الأحرار.
إذ كان متجذراً في كل محافل الدفاع عن الكرامة الوطنية و القيم الديمقراطية و حقوق الإنسان و منغرساً في شرفة معقل نضاله، صحيفة "النهار"، يقارع الحصار و يحفّز الهمم و يحصّن منبراً للراي الحرّ المضطهد في زمن القمع و التنكيل.
مقتل الرئيس الحريري (14 شباط 2005)، الذي بنى أرصدة ثمينة تحظى بالتقدير و الإعجاب محلياً و عالمياً، فجّر بركاناً من الغضب الشعبي و أطلق إنتفاضة الأرز.
و زخم تدفق حمم هذه الثورة، المتأججة في مرجل من الإتهامات، سرّع خروج الجيش السوري في 26 نيسان 2005.
لا مفرّ من استعراض هذه المراحل لأنها تبرز في واجهة الذاكرة كلما خطر الوطن في البال.
و ما هذا الحضور الدائم لمحطات من مسيرة الإستقلال إلا برهان دامغ على أهميتها و على جلالة التضحيات المبذولة خلال شقّ دربها و على ضرورة اعتقال الرؤوس المدبرة و الأيادي الآثمة المتورطة في سفك دماء الشهداء. يلازم هذا الإنطباع الراسخ في الأذهان هاجس التوجس من إعادة تحريك أوكار الإجرام و التخريب و تحذير من عواقب إعاقة خلع ذيول الحقبة الآفلة و تفكيك شبكاتها.
و مثلما سبق إغتيال الشهيد جبران التويني محاولة إغتيال مزعومة بدت و كأنها تمهيد لإرتكاب الجريمة، نتخوّف اليوم من أن يكون الطرح المشابه نذيراً لإرتكاب إغتيال يحتمل الكثير من التأويل!
رغم ارتياحنا لإنحسار "غارات" أوكار الإجرام نتساءل عن سرّ ركونها فيما يشير حدسنا إلى الإنذارات و المداخلات الصادرة عن مسؤولي دول صديقة للبنان وُجّهت إلى عنوان واحد.
إذن في غمرة غبطة الإنفتاح لا يغيبنّ عن البال أنّ النبيه من الإشارة يفهم فلا يُلدغ من الجحر مرتين.
و يحضرنا في هذا المقام بيت شعر للمتنبي قال فيه:

إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظننّ أن الليث يبتسم (يُؤتمن)

لقد أجمع الفرقاء اللبنانيين خلال مداولاتهم حول طاولة الحوار في المجلس النيابي على ضرورة ترسيم الحدود مع سوريا الذي يشمل شبعا ضمناً، و جعل العلاقات معها كعلاقاتها مع بقية الدول تمر عرفاً و قانوناً عبر سفارتين بمنأى عن ضباب "التمييز" الذي يطوي تحت حجبه نهم ابتلاع لبنان.
إضافة إلى إقرار المبادرة إلى تأمين سحب السلاح الفلسطيني من خارج المخيمات (السوري الولاء) إلى داخلها، توطئة إلى إناطة حمايتها لاحقاً بالدولة.
رغم ذلك يتهرّب مسؤولو النظام السوري من الإستجابة للمطالب اللبنانية فيتذرعون بإستحالة رسم حدود شبعا طالما هي محتلة و يردفون قائلين إنها جزء من الأراضي العربية المحتلة فلا يجوز التحرير الجزئي و إنما الكلي!
و في معرض التملص من التمثيل الدبلوماسي بتبادل السفراء يقولون أن هذا الشأن غير مهم مقارنة مع الإتفاقات المعقودة مع لبنان!
و يبدو واضحاً أن الطرف السوري يربط شبعا بالجولان لتبقى منفذاً "وحيداً" مفتوحاً لمناوشات مع إسرائيل ينتدب المحور الإيراني-السوري حلفاء محليين للقيام بها.
كما أنه لا يريد التقيد بضوابط التمثيل الدبلوماسي لنكرانه إستقلال لبنان (طوبى لحلفائه) رغم أنّ ضرورة التمثيل ليست ضمانة مطلقة لإقامة علاقات سوية.
فإيران مثلاً أسهمت بالمال و السلاح و التدريب على القتال و التوجيه الديني في فرز شريحة من المجتمع اللبناني منفصلة عن الدولة و منفصمة عن بقية الشرائح الوطنية.
و هي جادة في تسليط الأنظار إليها و "تخصيب" نفوذها بتخصيب ترسانة السلاح و تخصيب العقيدة الجهادية و تخصيب التحالفات و تخصيب الموارد و تخصيب الإنجاب إضافة إلى تخصيب اليورانيوم.
و بإقتطاعها نصيباً مهماً من النفوذ لدى الفصائل الفلسطينية عبر مختلف وسائط الدعم أكملت جزءاً مهماً من فسيفساء تبعث في الذاكرة صورة الأمبراطورية الفارسية (فكرة أوردتها في مقالة كتبتها تحت عنوان "بين المطرقة و السندان" و ترجمتها إلى الإنكليزية في بداية سنة 2005).
ما يهمنا في الحقيقة حل كل الخلافات بالوسائل السلمية و تحييد لبنان عن مجرى الصراعات الدامية.
لن نكون جائزة ترضية بعد الآن لأحد و لا نريد أن نكون قاذفة لهب في يد مختلّ يبهجه إشعال الحرائق.
ننشد الوئام و التماسك في "كيانيّة" وطنية فريدة و منيعة لا يفتّتها التزمّت الديني ولا يشتّتها الولاء الهجين لرافعي الشعارات الفضفاضة.
إنّ التفنّن في عرقلة قيام الدولة الديمقراطية الحديثة مهما أُتقن يعجز عن ستر سوء النوايا المضمرة.
وحدهما التعاون الصادق و الإجتهاد في العمل البنّاء مزوّدين بالولاء الوطني هما معيار صفاء النوايا و نقاء الضمائر.
فرنسا و الولايات المتحدة الأمريكية، رغم إنهماكهما في شؤون بالغة الأهمية، يتصدّران طليعة المجتمع الدولي ليثابرا على احتضان لبنان و رعاية مسيرة نهوضه، يقيانها العثرات و يحميانها من الإنتهاكات.
و هما يوجّهان إلى سوريا و إيران رسائل متتابعة للتعاون في تطبيق القرار الدولي 1559 و يحذّرانهما من مغبة محاولات إحباطه ممهلين اللبنانيين فرصة لإيجاد الصيغة الفضلى لتنفيذه.
لذا لم يغفل لارسن في تقريره إلى الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة ذكر سوريا و إيران لتحميلهما مسؤولية أي محاولة إجهاض لهذا القرار.
إن ربط لبنان بتحرير الجولان و حلّ مشاكل القضية الفلسطينية هو مشروع نزاع و خطة منهجية لتفريغ الوطن من غالبية أهله.
و اللبنانيون مدركون لمرامي هذه الخطة و يعرفون أنّ توقيعاً سورياً على محاضر خرائط ترسيم الحدود مع لبنان كفيل بإثبات لبنانية شبعا و استعادتها بأحكام القرار الدولي 425، كما يعون أنّ حقً الفلسطينيين بالعودة هو أضمن متى انتقلوا من لبنان إلى كنف السلطة الفلسطينية.
شكراً لمؤازرة أمريكا و فرنسا و الدول العربية الصديقة.
و حبّذا لو يترفع الفرقاء اللبنانييون عن المهاترات و يوحّدوا الجهود المخلصة لإنجاز مراحل تثبيت الإستقلال و دوزنة التوازن و تأهيل المؤسسات و تصحيح القوانين و إنعاش الإقتصاد.
لآ تضيّعوا الفرص السانحة!
و حذار الإنقلاب على الدعم الدولي و تبديد رصيد المناضلين و تهميش تضحيات الشهداء!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١٨.٣.٠٦

تفاؤل حذر

حميد عواد*

فيما كان الإعتصام ب"فضائل" الخرس و الطرش و العمى السبيل "الآمن" للعيش بسلام في ظلّ الأنظمة المستبدّة، كانت الألسن طليقة و الأصوات صدّاحة والآذان مشنّفة و العيون شاخصة خلال "ثورة ثقافية" صاخبة و جذابة، ازدهرت في لبنان حتى بداية زجّه و انزلاقه في مهاوي المكائد و الفتن.
لكن، بمثابرة أحراره على النضال والصمود و بذل التضحيات، و بنهوض المجتمع الدولي لمؤازرة اللبنانيين بشكل جاد و حثيث، أمكن انتشال لبنان من حقبة الترويع و القتل و التنكيل و التشويه و الخنق.
بدأ اللبنانيون الأباة يستعيدون أنفاس الحرية مع خروجهم إلى الضوء بعد محاولة وأدهم أحياء.
استجمعوا شتاتاً من قواهم و صهروا تطلعاتهم في بوتقة العزة الوطنية على وهج نيران المآسي التي أحالت أجساد شهداء جبابرة، مشاعل نور.
و هكذا بدأ انبعاث لبنان السيد الحر المستقل من رحم ثورة الأرز بعد مرحلة إنهاك و استنزاف و تهشيم طالت ثلاثة عقود.
المرارة و الأسى يعتصراننا كلما لاحت في البال أطيافنا يوم وقعنا فرائس أطماع حامت حولنا و صراعات التفّت علينا، فضيّعت علينا جيلاً من التقدم سجّل إختراقاً في كل برهة.
و كأنّ الزمن المهدور، خلال دفع الوطن قهقرى، ليس بكافٍ في حساب فرقاء لبنانيين ارتضوا و أيّدوا استرهان لبنان لمشيئة النظامين السوري و الإيراني نظراً لإرتباطهم الوثيق بهما، و استقووا بالدعم والسلاح على قوم ملّتهم و سائر أبناء وطنهم .
فها هم، إلحاقاً بتعديل للدستور تمّ عبره تمديد ولاية رئيس الجمهورية ثلاث سنوات في ظلّ الهيمنة السورية القاهرة، قبل أفولها ( أو ربما خسوفها أو خفوتها)، يسعون إلى عكس دورة الزمن و تعديل مفهوم سيادة الجمهورية، بتشريع استقلالية فصائلهم المسلّحة عن سلطة الدولة.
و لا تُفسّر هذه النزعة إلا إستئثاراً بالتحكم بميزان أوضاع الحدود الجنوبية و جذبها إلى مدار حلفائهم.
لا يخفى على أحد ما يبيّت هذا "الخيار" من تهميش و استهانة بدور مؤسسات الدولة و قواها الأمنية أولا، ثم بشركاء أصلاء لا يتبنونه، خاصة و أنّه ينطوي على محاذير يدفع ثمنها كل أبناء الوطن.
مزارع شبعا أمانة في عهدة الحكومة اللبنانية تعالجها بحكمة و دقة و مسؤولية، ملتزمة القوانين و المواثيق الدولية.
و بموازاة ذلك تتخاطر مع ضمير كل لبناني أصيل حريص على حفظ ذرى الوطن و حقوق أبنائه في كنف السيادة الوطنية الناجزة.
لذا لما نغّص تحريرالجنوب "احتواء" الجيش "الشقيق" لكامل الوطن و استباحته، ليُسخّر معتقلاً و سوق نخاسة، ثابر ربيبو الحرية و العزّة و السيادة و الإستقلال و العنفوان على كفاحهم السلمي حتى تحققت معجزة الجلاء بعد تجذّر الإحتلال و استفحاله و استشرائه ردحاً من الزمن.
و أصبح تلاقي مختلف الفرقاء اللبنانيين ممكناً بعد أن حال دونه من فرّق و ساد.
و غدت محرّمات الأمس قابلة للنقاش اليوم.
فبعد هبوب إعصارات و زلازل حملة إجرامية إرهابية زهقت أرواحاً وضّاءة هدت مسيرة الإستقلال، احتدمت السجالات بين الغازلين في فلك المحور السوري-الإيراني و الناهضين بالمدّ السيادي الإستقلالي لتضع أوزارها على طاولة حوار في المجلس النيابي.
هدأ روع اللبنانيين لما علّقوه من آمال على نتائج الحوار و حظي المتحاورون بتشجيع و تأييد الدول الصديقة و مسؤولي الأمم المتحدة، إذ وُصف اجتماعهم بمبادرة ذاتية ب"اليوم التاريخي".
أعطى فرقاء الحوار أهمية اللقاءات استحقاقها فناقشوا بصراحة و جدية و عمق و شمول القضايا المطروحة.
إثر اثنتي عشر مداولة خلص الملتئمون إلى نتائج مُرضية شملت قسطاً وافياً من الشؤون المعالجة، علماً أن معظمها في ظروف طبيعية، يُعتبر من البديهيات. لكن العنكبوت السوري ما زال يمسك بخيوط سبق أن نسجها في أوكاره اللبنانية، و كلما جذبها سبّب تعثّراً في مسيرة التعافي. خلاصة نتائج جولات الحوار هذه نوردها كما يلي:
1) الموافقة على إنشاء محكمة لبنانية-دولية مختلطة، هي قيد الإعداد، لإحالة المتهمين في جريمة اغتيال الرئيس الحريري عليها. و توسيع مهام لجنة التحقيق الدولية المولجة سبر و استقصاء أغوار هذه الفاجعة لتشمل مسلسل الإجرام الفظيع الذي بدأ باستهداف النائب مروان حمادة (04|10|01) و زرع كمائن الرعب و القتل على مدى العام 2005 بلوغاً إلى الغدر ب"ديك" "النهار" المقدام، الذي تحدى خطر الترويع السائد و قاوم المخرز بعينه و لسانه و قلبه و دافع عن القيم الديمقراطية حتى الإستشهاد، النائب جبران تويني (05|12|12).

2) الإجماع على تكليف الحكومة مهمة سحب السلاح الفلسطيني ( المُسَورَن ) من خارج المخيمات خلال ستة أشهر، تعمل فيها أيضاً على تحسين أوضاع الفلسطينيين الإقتصادية و المعيشية و الإجتماعية و تمهّد للأخذ على عاتقها حماية أمن المخيمات.

3) التوافق على وجوب معالجة أزمة مفهوم العلاقات و نسقها بين النظام السوري و لبنان، و قد استوجب جنوحها الخطر أطلاق تحذيرات متواترة وجّهها المجتمع الدولي للجانب السوري منبّهاً من مغبّة الإغتيال و التحريض و التسليح. و بالتالي انتداب الحكومة للقيام بمساع لتقويمها و تنقيتها و "ضبط مسارها" ضمن الأصول و الحقوق القانونية و "ترسيم" الحدود "المبهمة" ميثاقياً و جغرافياً. إضافة إلى إستقصاء حاسم يبدّد الغموض الكثيف المنصوب حول مصائر اللبنانيين المغيّبين في غياهب السجون السورية. عندها يمكن الإرتقاء بالعلاقات إلى مصاف تلك السويّة و الطيّبة السائدة بين الدول الصديقة التي تتمثل ببعثات دبلوماسية (و ليس (بحملات) عسكرية) ترعى المصالح و حرمة السيادة من خلال السفارات (وليس "أبراج" و "أقبية" أجهزة المخابرات) دون إضمار نوايا خبيثة أو تحيّن الفرص من المستقوي للإنقضاض على المستضعف.

4) ترسيخ قناعة مشتركة بلبنانية مزارع شبعا كمنطقة مورست عليها السيادة اللبنانية حتى منتصف الستينات ( حين طرد جيش السلطة السورية قوى الأمن اللبنانية من مخافرها هناك ليسيطر عليها حتى إحتلال إسرائيل للجولان عام 1967 ) و كملكية عقارية لسكان لبنانيين ( استحصلوا على سنداتهم من أمانة السجل العقاري على مدى العهد العثماني حتى قيام لبنان الكبير) احتكموا إلى القضاء اللبناني ( بروز أحكام صادرة عامي 1927 و 1936) و دفعوا الضرائب في الدوائر اللبنانية سنة 1933 إضافة إلى توفر خرائط (فرنسية 1932 و 1943 و ألمانية) مشفوعة بقرار (318) للجنرال غورو أعتبرها بموجبه جزءاً من قضاء حاصبيا. ناهيك بتفنيد و تعليل مستندات ومواثيق أخرى أثارها في دراسة مشتركة، قُدّمت لرئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة، الدكتور عصام خليفة و الدكتور شفيق المصري و المحامي في القانون الدولي ميشال تويني، الذين خلصوا إلى توصيات و تدابير و سندات قانونية تؤول، في رأيهم، إلى إثبات الهوية اللبنانية للمزارع لدى الأمم المتحدة فتستعاد سلمياً إرتكازاً على الحق و القانون دون المساس بإتفاق الهدنة الساري المفعول منذ عقده مع إسرائيل سنة 1949.

5) استكمال البحث في شأن تناقض سلاح "حزب الله" مع القرار الدولي 1559 و اتفاق الطائف، و النقاش حول جدواه و تلاؤمه و ائتلافه مع سيادة الدولة و توطيد الأمن و ترسيخ الإستقرار و كسر الطوق عن الفئات العلمانية المكبوتة، لإعتماد الحلول الناجعة التي تضمن حرية التعبير و المبادرة و تكفل الإنصاف و التكافؤ و تنعش الإطمئنان إلى الغد. و متى استتبّ النجاح، يتنشّط الإستثمار و يحيا الإقتصاد و ينحسر شبح الفقر و يتبدّد هاجس الهجرة.

6) متابعة درس الخيارات الفضلى لحل أزمة تداول الحكم الناشئة عن الضغوط الهائلة التي مارسها النظام السوري على أعضاء المجلس النيابي السابق لتعديل الدستور ( تكراراً لسابقة مشؤومة) و تمديد ولاية رئيس الجمهورية ثلاث سنوات، غداة إصدار قرار مجلس الأمن الدولي 1559 الذي نصّ على التقيّد بأحكام الدستور صوناً لسياق التغيير الديمقراطي و حفظاً لمقام الرئاسة.
و فيما كان الإنتباه مسلّطاً على أقطاب الحوار إلتمع تأزّم مصدره مجلس نقاش الهيئة الوطنية الخاصة بقانون الإنتخابات النيابية. إذ انسحب المحاميان ميشال ثابت و زياد بارود للتعبير عن إحباطهما و رفضهما المراوحة بين صيغ للقانون متناقضة، فصرّحا بما يلي:
"منعا لأي تأويل، وبعد انقضاء المهلة – الممددة – التي حددها مجلس الوزراء للهيئة الوطنية الخاصة بقانون الانتخابات النيابية.
ولما كنا قد قبلنا المهمة الموكولة الينا، اعتقادا منا بأن هذه اللجنة برئيسها واعضائها مؤهلة لتحقيق المهمة على دقتها وصعوبتها وتعقيداتها.
ولما كنــــــا قد شـــاركنا مدى ستة اشهر ونصف شهر في مداولات الهيئة، وقــــدمنا ما امكن من مساهمات في النظام الانتخابي وتطوير آليات الاقتراع، وانشاء هيئة مستـــــقلة للانتخابات، واشراك اللبنانيين غير المقيمين في التصويت وتفعيل تمثيل المرأة والشباب، وتنظيم الاعلام الانتخابي وضبط النفقات الانتخابية.
وبما ان الهيئة الوطنية رغم النيات الحسنة لرئيسها واعضائها كافة، لم تتمكن من التوصل الى رؤية مشتركة جامعة لتقسيم الدوائر الانتخابية بما يضمن فاعلية التمثيل وصحته لمختلف فئات الشعب اللبناني.
وبما ان التحفظ والمخالفة والاعتراض لم تعد تجدي، في ظل تعدد المشاريع المتناقضة موضوع التداول، ورغبة منا في عدم عرقلة عمل الهيئة، نعلن انسحابنا من عضوية هذه الهيئة، متمنين لها التوفيق في مهمتها وعدم الاكتفاء بتسويات لا تلبي طموحات المواطنين، ولا تفضي الى الغاية التي من اجلها انشئت هذه الهيئة".

و تسرًبت معلومات عن صيغة اعتمد فيها مبدأ نسبية احتساب عدد الأصوات و تأهيل المرشح على مستوى القضاء في ظل تقسيم لبنان إلى 9 دوائر إنتخابية، تزمع اللجنة على عرضه على الحكومة كخيار مفضّل على مثيل لا يختلف في المضمون عنه إلا من ناحية عدد الدوائر و هو 13 دون الحاجة إلى تعقيدات التأهيل على مستوى القضاء.
و يظهر جلياً أن القانون الذي يصغّر الدوائر يحسّن دقّة و أمانة التمثيل. و من يشرئبّ لمعاكسة هذا المنحى يسعى بوقاحة إلى اختزال تمثيل جماعات أصيلة هي من صلب تكوين الوطن.
أما طلب اللجنة من الحكومة تعيين بديلين فلا يليق بموقع رئيسها و أعضائها لأنه ينمّ عن إهمال وعدم اكتراث لرأي خبير و حكيم و منزّه حظي بتأييد شامل من فرقاء لا يستهان بدورهم.
تترافد عوامل التشنّج و التأزّم لتلقي بأحمالها على الهمّ المعيشي الذي يسحق كافة المواطنين. إنّه و إن تُشكر الحكومة على إعداد الكثير من المشاريع الإصلاحية تمهيداً لعرضها على الدول الداعمة للبنان لترصد المبالغ الكافية لتمويلها خلال مؤتمر بيروت-1 الموعود، لا يغفل المراقب بطءأ و تقصيراً في تأهيل و ترشيد مؤسساتها لجعلها مربحة. هل يا ترى تكرّس الحكومة جهداً كافياً "للتنقيّب" عن مصادر دخل مجزية تغني المواطن عن لحس مبرد الضرائب، فتضخّه في عروق الدورة الإقتصادية مشاريع منتجة تؤمن لكل فرد عملاً مناسباً و عيشاً كريماً؟ لا شكّ أنّ باستطاعتها بذل المزيد. واجب عليها إيلاء التربية و الصحة عناية فائقة. فالعقل السليم في الجسم السليم و الغذاء السليم و الإعداد السليم. ألمطلوب تحصيل معرفة و ثقافة و مهارات منفتحة الآفاق تلبّي طموحات طلابها و حاجات سوق العمل. أما صمّام الأمان لتفعيل هذه الطاقات بشكل منتج و بنّاء، فهو التربية الوطنية الصافية التي تطهّر العائلات و العشائر و الملل و الأحزاب من أدرانها و تذيب فواصلها لصالح حزب واحد هو حزب الوطن. و لأجل تأمين الغذاء يجدر بالحكومة دعم قطاعات الزراعة و الصناعة و الخدمات على صعيد استحضار الخبرات و توفير المهارات و الوسائل اللازمة لتجويد الإنتاج و تخفيض الكلفة، و على صعيد تأمين اسواق لتصريف الإنتاج. كذلك يقع على عاتقها إتاحة الفرصة لصغار المدخرين كي يشتروا بمبالغهم المتواضعة سندات الخزينة و أسهماً في المؤسسات الرسمية الحيوية المنْوي بيعها. و لا يغيب عن البال أن السياحة هي بترول لبنان بانتظار تدفّق السائل الأسود المخزون تحت قعر مياهه الإقليمية. و في أي حال، لا يجوز أن يُترك اللبناني فريسة ينهشها العوز، فيضطر إلى بيع أملاكه بأبخث الأثمان و ييأس ثم يهجر وطنه. فيما لو ساد الإستقرار و توطّد الأمان توافدت الإستثمارات متزاحمة و تنشّط الإقتصاد و غزر الإنتاج و لفاض مدخول السياحة وحدها عن متطلبات حياة باذخة ينعم بها كل اللبنانيين.
يأنس اللبنانيون متى تلاقوا في محافل الأفراح و الأتراح كما في مجالس الحوار الشيّقة و المفيدة. لكن كي نجدّد استحقاقنا ميدالية النموذج الفذّ للتواصل الإنساني و الحضاري، يجب أن نخصّص الوطن بحيّز كبيرفي وجداننا و ضميرنا. بالصحوة الوطنية نستفيق من خدر التقوقع في الشرانق و نخلع أغلفتها لننضم إلى موكب الخدمة الوطنية. فلِيسْعَ كل منا في إعلاء شأن الوطن و ِليسْهم في زيادة رصيده، و لنُخْسِئ من يحطّ من قدْره و نكفّ يد من يغرف و يبذّر من حسابه. دعونا نتفاءل بالخير و نعمل له، و على درب كفاحنا لا بدّ أن نجده.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١٤.٢.٠٦

لِنَحْمِ الوطن من الأنواء

حميد عواد*


صحيح أن حركة التطور البشري قد تقسو على الإنسانية إذا ما كَبَتْ خلال إندفاعها الآلي المجرد من الإحساس و العاطفة.

لكن هذا لا يبرر النأي عنها و الإعتكاف في عزلة متوحشة تُحقن فيها العقول، حتى الجنون، بمشاعرالعداء و الكره و التشفي الجامحة ضد من لم يلتحق بسرب الإرتداد الرجعي إلى عصور البداوة الجاهلية.

في عصر الإنفتاح على كل الآفاق و التواصل الدائم، يُصدم المرء ل" اكتشاف" جماعات تخلّفت عن الركب الحضاري لتنحجر في كهوف تمارس فيها طقوساً هجينة، تغادرها بهدف "الإغارة" على "العالم الخارجي" لتعود بعد "إتمام المهمة" فتنكفئ إلى مغاورها.

نموذج جديد عن هكذا "غارة" تمّ على القنصلية الدانماركية الواقعة في منطقة الأشرفية، استكمالاً لما جرى في دمشق اليوم السابق حيث حُرقت سفارتا الدانمارك و النروج والسفارة التشيلية الواقعة بينهما.

لكن حلفاء النظام السوري و "رسله"، من "المعتزلة" "المفخخي العقول" الذين "خاضوا غمار" تظاهرة الأشرفية، تمادوا في لبنان و وسّعوا نطاق تخريبهم و استفزازهم.

فشملوا رجال الأمن و مركباتهم و أهل المحلة و أملاكهم إضافة إلى دور للعبادة.

بلغ هذا الإنحراف حداً معيباً و محرجاً دفع معه فرقاء أساسيين للتنصل من مسؤولية تحول مجرى التظاهرة.

تحمّل أبناء الأشرفية الأبرار الأذية بصبر و أبوا الإنجرار إلى مواجهة مع الرعاع ففوّتوا عليهم فرصة افتعال فتنة و استحقوا إعجاب الجميع بحكمتهم و تقديرهم لترفعهم.

و لوضع بعض النقاط على الحروف نشير إلى أن عدم استساغة تعدي حرية التعبير ضوابط الموضوعية و الإتزان و اللياقة و التهذيب و حصر الذنب بمرتكبه دون تعميمه، لا تجيز الرد على الرأي، مهما كان خبيثاً، بالغوغاء و التخريب و الإعتداء.

إلا إذا شاء الفوضويون تبرير التهم الموصوم بها قوم ظلموا بجريرتهم.

فالرأي العائب يسيئ إلى صاحبه أدبياً قبل النيل من غيره حتى و لو لم يطله القانون، أما العمل المؤذي فيدين فاعله معنوياً و مادياً بقوة القانون.

تبدو هذه الجولة من التعكير الأمني و خضّ المزاج العام و استدراج الصدامات كحلقة جديدة مرتبطة بسلسلة التعديات و الإغتيالات الشنيعة السابقة.

فالهدف واحد و هو الإنتقام من طلائع المدّ الإستقلالي و بثّ الذعر و الفوضى وترويع المواطنين و زعزعة استقرار لبنان لإظهاره هشاً و ضعيفاً بنأيه عن هيمنة محور التحالف السوري – الإيراني و توابعه.

في غمرة تصدي هذا المحور للعزلة الدولية ينتصر له حلفاؤه في لبنان و في المنطقة.

لذلك يطالب المؤمنون بلبنان وطناً حراً، سيداً، عزيزاً، مستقلاً و مستقراً، بصوت واحد مع المجتمع الدولي، أقطاب المحور و أطرافه بالكفّ عن تكرار محاولاتهم إغتصاب إرادتهم و إحباط عزيمتهم و العبث بأمنهم.

و يحذرونهم من مغبة الإصرار على اختراق لبنان لإبقائه ميداناً لصراع مستديم مع إسرائيل و منطلقاً لممارسة الضغوط لإبتزاز مآرب غريبة و لو غُلّفت أحياناً بمطلب وطني.

إن التجاذب الذي يتنازع لبنان يحتّم على أحراره، الناشطين في حماية سيادته و صون استقلاله و الحريصين على تقدم مسيرته و نمو قدراته، أن يعوا ضرر و عقم المعارك الإنتخابية في الظرف الحالي.

وأن ينصرفوا إلى توحيد جهودهم و تنسيق أدوارهم و حماية منجزاتهم أولاً.

ثم يتوجهوا بعدها ككتلة متراصة إلى مشتتي الولاءات ليقنعوهم بالتزام صريح و صادق النية بأحقية المصلحة الوطنية العليا الواضحة المعالم و المجردة من الأغراض المبطنة التي تغشوا نصاعتها بالإلتباسات.

لم يعد الوطن قادراً على تحمل الإستنزاف المادي و البشري.

و إذا كان فريق ما قادراً على الصمود لتزوّده بمؤن تمدّه بها دولة ما تحبّذ إطالة أمد الصراع مع إسرائيل، فالمواطنية الصالحة لا ترتضي إغفال معاناة الآخرين من أبناء الوطن.

لا يغيبنّ عن بال اللبنانيين أن المجتمع الدولي التفّ موحداً حول سبل إنهاض لبنان من كبوته، و اتخذ القرارات التي شقّت درب استعادة قراره و سيادته و استقلاله، و شكلت لجنة تحقيق دولية بذلت جهوداً جبارة لكشف خيوط حبكة جريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري.

و قد أفصح المحقق برامرتس الذي خلف ميليس عن دنو موعد إصدار مضبطة الإتهام بحق من يشتبه بضلوعهم فيها تمهيداً لإحالتهم على المحاكمة.

لذلك فإن أي إنقلاب على القرارات الدولية هو انقلاب على الوطن و طعنة في صميم الذين ناضلوا من أجل حريته و هو تحقير لذكرى شهداء استقلاله و في طليعتهم من نحيي ذكرى استشهاده بعد يومين، الرئيس رفيق الحريري.

الحكمة تملي علينا التحسب للمستجدات و إقفال الأبواب و النوافذ في وجه الرياح العاتية.

فإذا غرق النظام السوري في لجج الرمال المتحركة لتورطه في إرتكاب الجريمة الشنعاء، لا يجوز لأحد قطع الطريق لإعاقة سريان العدالة.

و إذا تأزمت علاقة إيران مع المجتمع الدولي عبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية و مجلس الأمن بسبب قضية تخصيب اليورانيوم، لا يجوز زجّ لبنان في خضمّ هذا الصراع.

المطلوب السعي الدؤوب و المخلص لترسيخ مقومات الدولة الديمقراطية السيّدة و العادلة و الأمينة و الموثوقة و القوية و القادرة و الفاعلة و المنتجة.

و المطلوب تخصيب وشائج المحبة و الإنسجام و التعاضد بين اللبنانيين بتنشئتهم على اعتناق قيم المواطنية الصالحة و تمتين الولاء للوطن بعرى أوثق و أقوى من اي ارتباط.

و المطلوب إدراك إهمية الحفاظ على فرادة لبنان كحاضن للحضارات و الأديان و مستوعب لتفاعلها و محوّل لطاقاتها و مصدّر لخيراتها.

فأمانة للتاريخ و شهادة لإستحقاقنا دعونا نحفظ تراث وطن الأرز الشامخ لنا و لبنينا بعدنا.

* مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٦.١.٠٦

لبنان بين استقرار مُدوّل و زعزعة إقليمية

* حميد عواد

سنة 2005 مضرّجة بدماء شهداء الحرية، لكنها مكلّلة بتاج الكرامة و السيادة و الإستقلال المستعاد.
صفحاتها مجبولة بعرق و دموع الأبطال الجارية بغزارة من روافد نضال السنين الماضية:
بعيونهم قاوموا المخرز، بثباتهم و قوة شكيمتهم اسقطوا الأصنام، و بتوقّد إيمانهم الوطني أزاحوا جبلاً من الهيمنة الهمجية عن صدر الوطن.
تغيّر الترقيم الزمني، لكن أنظار اللبنانيين ما زالت شاخصة تترقّب اكتمال مراحل مسيرة الخلاص الوطني المنطبعة في وجدانهم كروزنامة الرجاء المأمول.
هذه الروزنامة صاغتها تضحيات اللبنانيين و رقّمتها قرارات ( 1559، 1595، 1636، 1644....) مجلس أمن المجتمع الدولي الجادّ في مساعدة لبنان على التعافي دون كلل أو ملل.
النهوض بلبنان ورشة تنكّبها أبناؤه الأبرار و إلتزام تَوافقَ على إلحاحه أوروبا و أميركا فإنكبّتا على توفير سبل الدعم و إزالة العوائق من دربها و الإجتهاد في بلورة تنفيذها.
إحدى أعتى العبقات التي تقلق المجتمع الدولي و تنغّص عيش اللبنانيين الشرفاء و تثير سخطهم أكثر مما ترعبهم هي موجة التفجيرات الإرهابية التي استهدفت إغتيال أعلام رائدة في الحياة الوطنية و ابتغت زعزعة استقرار الآمنين، فغيّبت أرواح عزيزة و خلّفت الدمار.
و فيما شهدت لجنة التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ركوداً ملحوظاً في فترة الأعياد الإنتقالية من ميليس إلى براميرتس، حرّك نشاطها بزخم نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام عندما أفصح للإعلام عن"مقتطفات" من شهادة مفصّلة يزمع على الإدلاء بها لها. و في الأفق يصطفّ العديد من المسؤولين السوريين السابقين، ممن نجوا من "هاجس مراودة" تجربة "الإنتحار"، ينتظرون دورهم.
و هكذا صدّق ركن سابق من أركان النظام السوري صحّة معلومات التحقيق و أكّد أنّ رأس الهرم هو سيّد كل قرار.
و سرعان ما طلبت اللجنة الإستماع إلى خدام و الوزير فاروق الشرع و الرئيس بشّار الأسد.
بشهادة خدام، التي تكتسب أهمية قصوى لأنه كان في سدة المسؤولية ما يزيد عن ثلث قرن وما تركها إلا منذ أقل من سنة، تتطابق معلومات أربعة مصادر:
1) النتائج الموثقة في التحقيق، 2) خدام، 3) أسرة الحريري و المؤتمنون على اسرارها، 4) معرفة الناس للظروف الميدانية، حيث كانت "عيون" المخبرين راصدة مواكب المستهدفين و "آذانهم" متنصّتة إلى أحاديثهم على مدار الساعة.
و هاك عيّنة من صورالمخبر هسام هسام تضبطه يظهر في موقع إنفجار إغتيل فيه شخصية مرموقة. فعسى أن توصي لجنة التحقيق الدولية القضاء اللبناني بإصدار مذكرة جلب لإستحضاره قبل اختفائه و "تواريه" إلى "ملاذ" رنا السحري.
في غمرة هذه الحيثيات يهبّ حلفاء النظام السوري في لبنان لنقض الإشتباه الإجماعي به بطرح قرينة براءته، و لتخوين المكتوين بنار الإجرام و المشيرين إليه بأصابع الإتّهام، و ذلك في معرض ردّ معروف "الأفضال" التي "مَنَّ" بها عليهم.
و الممثلون في الحكم منهم سحبوا وزراءهم إعتراضاً على طلب مجلس الوزراء من مجلس الأمن توسيع مهام التحقيق، لتشمل الجرائم الإرهابية المرتكبة في لبنان بدءاً من محاولة اغتيال الوزير مروان حماده، و تشكيل محكمة ذات طابع دولي للنظر في هذه الجرائم.
مطلبهم الأساسي، التعجيزي و المستحيل، هو "دفن" الشق الثاني من قرار مجلس الأمن 1559، يطرحونه شرطاً لرفع العراقيل من درب العمل الحكومي و جواز تأييد لعبور أي طامح لتبوؤ مهام الرئاسة. و "حدسهم" ينبئهم أنّ مكائد الإغتيال لن تتوقف إلا إذا استجيبت مطالبهم المتداخلة مع مطالب مرجعيّتهم الإقليميّتين!!!
تندرج تدابيرهم و مواقفهم، المنسّقة إقليمياً بإحكام، في سياق إحباط الجهود الدولية لتمتين منعة لبنان و الرهان على هدر الوقت هباءً أملاً في قلب المعادلة الحالية وصولاً إلى إنكفاء العزيمة الدولية وعدولها عن تزكية و دعم التغييرات الديمقراطية في الشرق الأوسط.
كما ينبع أيضاً من الخوف من فضح ترابط شبكات التخريب و الإرهاب و تحدّرها من أنظمة إقليمية و كشف شبكة أنفاقها التي تستودع فيها الإسلحة و المتفجرات و السيارات المسروقة و جوازات السفر المسروقة من الأمن العام.
و لتنشيط حركة خطوط التنسيق "اللوجستي" بين أطراف هذه الشبكات، خُرقت من جديد الحدود اللبنانية-السورية فأُعيد فتح الطريق العسكرية (لا يخضع عابروها لأي تفتيش) و أُحدثت ثغرات في نقاط حدودية، بينها دير العشائر و حتى المصنع.
و "تكذيبا"ً للوقائع، ينكر منزّهو النظام السوري على اللبنانيين قلقهم من الإحتفاظ بالسلاح خارج سلطة الدولة، التي نزعوا عنها مهمة حماية الوطن لإلقائها على عاتقهم و احتكارها.
و من يحرص على حماية الوطن بنيّة صادقة و ولاء كامل ينأى بنفسه و بلبنان عن مرمى و مجاري تيارات التعصّب و التصلّب و الإنغلاق السلفية المتزمتة، أياً كان انتماؤها المذهبي و منبعها، و يدعم الجيش اللبناني الذي هو الدرع الواقي لكامل الوطن.
المشكلة لدى هؤلاء الفرقاء أنهم لا يتقبّلون النظام الديمقراطي البرلماني الحر في قرارتهم لذلك يسعون إلى "تشذيبه" و "تطعيمه" بكيانات- مقتبسة من الأنظمة الهجينة التي ترعاهم- تعطّل عمله و تمتصّ فاعليته و تستهلك عافيته.
و من هذه البدع قضية حمل السلاح خارج الإطار الشرعي من قبل فصائل لبنانية و فلسطينية و زنديقية، متنوعة الولاءات، تتحصن في معاقل موّزعة على مدى مساحة الوطن.
و "إثباتا"ً لجدوى الإنفلاش هذا شنّ، منذ أيام، أحد "ضيوف" هذه المعاقل "حربه" مطلقاً الصواريخ جنوباً، و من "المنصّة اللبنانية" خارج شبعا، في "غفلة" من راصدي الحدود.
ولولا الجهود الدولية لإحتواء مفاعيل الحادث لَتفاقم الوضع إلى عواقب وخيمة.
و بالمناسبة و قطعاً لطريق التوطين يتساءل اللبنانيون: أليس بالإمكان تعاون الدول العربية مع السلطة الفلسطينية لتأمين نقل الفلسطينيين من لبنان؟
و عطفاً على دلائل تدفق السلاح لفت نظري خبر مقتل رجل في منطقة البيّاض تبيّن من التحقيق أن الرشاش، أداة الجريمة، اُعطي للجاني من مسؤول تنظيم مسلًح لبناني في تلك المنطقة منذ أشهر.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: ألا يشكّل هذا الإقرار إخباراً كافياً لإعتقال "المسؤول" التنظيمي و فتح تحقيق لمعرفة على أي نطاق جرى توزيع السلاح و لأي هدف؟
الحريصون على استقرار لبنان و أمنه هم صفوة أبنائه، رصيدهم الفكر و ذخيرتهم المعرفة و محرّكهم الإخلاص للوطن.
يحاورون بالكلمة الصادقة و الصريحة و يقارعون بالحجّة المنطقية و ليس بقرقعة السلاح و عصف الإنفجارات و قذف مصير الوطن بحشوة صاروخ أو مدفع.
يدركون فداحة الخسارة و يقدّرون قيمة الوقت و يحسّون بإلحاح الحاجة إلى السلام و يتوقون إلى تعويض الفرص الضائعة.
ينخرطون بشغف في مشاريع التنمية و يدعمون تنقية مؤسسات و أجهزة الدولة من رواسب حقبة الهيمنة الإستبدادية المروّعة المنحسرة – التي ما تزال تجرّ ذيولها-، و يضخّون انعاشاً شاملاً للحياة الديمقراطية في أوردة الوطن و إعادة اعتبار كاملة لحقوق أهله، و إلتزاماً صادقاً بالولاء له.
يشجّعون التعاون الوثيق بين حكومتهم و المجتمع الدولي ، لأنه السبيل السليم و المجدي إلى حل المشاكل الشائكة، و يسعون إلى إبرام ضمانات تقي لبنان شرّ الإعتداءات عليه أو الإنتهاكات لسيادته.
و هم يزخّمون هذه الجهود المشتركة لتوطيد سلطات الدولة و ترسيخ أهمية موقع لبنان، و دفعه قدماً نحو الرقي و الإزدهار.
إن قوس قزح الأطياف اللبنانية جميل بتنوّع و تناسق ألوانه - و لو اعترته بعض العيوب-، و كلما إلتمع في صلب النسيج الوطني، لا يلبث أن يستحيل حزمة ضوء** نقية و كاشفة لدرب المستقبل الواعد، متى تآلفت موجاته على إيقاع خدمة المصالح الوطنية العليا و فخر الإنتماء و الولاء لوطن الأرز.

**علمياً قوس قزح هو فرز لموجات ضوء الشمس ( خطر لي هذا التشبيه خلال كتابة مقالة سابقة عنوانها "شتّان بين التغريد الأصيل...." فأوردته فيها)

*مهندس وأكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية