١٨.١١.١٨

لبنان المستحقّ لاستقلاله

حميد عوّاد* الاستقلال حقّ فطري ينمو ويترسخ متدرجاً مع تطور النضج واكتساب المعرفة والخبرة والحنكة والتوق الشغوف للتصرف بحرية. تناوب الطامعون بلبنان على انتهاك مقوّمات كيانه لتقزيمه واستلحاقه، وتمكّنوا خلال كل محاولة من تغرير فريق من اللبنانيين علقوا بشباك "جاذبيتهم" التي دغدغت عصب إغراء، فأسلسوا وانشرخوا عن نسيج المجتمع ليرتموا في فلك الاستقطاب. لكن اللبنانيين المتنوّرين غالبية وهم متمسّكون بصيغة العيش الوئامي المحفّز للمحبة الإخلاص التعاضد والإنفتاح على الآفاق الحضارية والنمو. بلوغ الرشد واستحواذ الثقافة والتمرّس بالخبرة مزايا تؤهّل حائزها القدرة على خوض نقاش منطقي مقنع لا تشوّشه ذبذبات دجل أو ذريعة ملتوية. العقل الراجح صانع الآراء الحرة ومُلهِم النفوس الأبيّة النابذة للتبعية. درب الاستقلال شقتّها عزائم أبطال عظماء استُشهد قوافل منهم بدءًا من عهد البطش العثماني مروراً بعهود سفّاحين جدد متعطّشين للدّم والسلطة والاغتصاب نذروا أنفسهم لإيقاد نار جهنّم. محطات الإستشهاد حدثت خلال صراعات مريرة مع الغزوات الهمجية التي استهدفت الرقيّ الحضاري الذي حقّقه اللبنانيون حيث استبسلوا في الدفاع عن مقوّمات وجودهم الكريم وصون استقلالهم والذود عن أرضه وحماية تنوّع ضفائر مجتمعه والدفاع عن كرامة أهله وحريّة قرارهم ورونق وئامهم. قُيّض لأشباه "نيرون" ومصّاصي الدماء والسلطة ومغتصبي الحرّية والثروة والأمان أن يتلذّذوا بتمزيق أجساد لفيف شهداء فوران العنفوان الوطني التي غطّت ذكريات سفك دمائها تواريخ كلّ أيّام السنة، ورغم الخيانة والتخاذل ما انطفأت شعلة الإيمان بصمود وطننا في قلوب أبنائه الأبرار ولا بردت عزائمهم على إنهاضه من الكبوات. يثير عيد الاستقلال في وجدان اللبنانيّين الأوفياء اعتزازاً بعظمة أجدادنا وفرادة تراثنا وروعة وطننا. فهو انخطافة تأمّل وجردة حساب نستعرض خلالها تاريخاً طويلاً حافلاً ببطولات واكبت نشأة لبنان في فيء أرزه. تضحيات عظيمةً وجهود جبّارة بذلتها أجيال متعاقبة للنهوض بهذه الجنّة الصغيرة التي احتضنت حضارات عريقة تلاقحت واعتصرت ثقافات متنوّعة. جودة الإنسان اقترنت بجودة الطبيعة في لبنان، فهي سخيّة العطاء، طيّبة الثمار، خلّابة الجمال تنتصب قممها مكلّلة بالثلوج مزدانة بالأرز الشامخ على مدى العصور الذي ألهمنا الصمود فجعلناه رمز وطننا. وهي متحف غنيّ بآثار حضارات شعوب تفاعلنا معها فاعتصرنا منها خلاصة حضارة خصيبة. رغم تعدّد الخروق، يبقى لبنان حصناً عصيّاً على الغزاة ورقعة فسيحة للعمران ومنبراً حرّاً للفكر ومنارة وضّاءة للعلم وموئلاً آمناً للأحرار ومنتدىً مفتوحاً للحوار. كالمارد المنطلق من القمقم تجلّى اللبنانيّون على مدى العالم وبرعوا وما زالوا يتألّقون في شتّى المجالات. كلّ مأثرة من مآثرهم تتفجّر فيضاً من الزخم في وجدان أجيالنا الطالعة فتحفّزهم على بزّ أسلافهم في العطاء الخيّر. .اللبنانيّون الأقحاح يسخّرون علاقاتهم مع العالم لخدمة هذا الوطن المتميّز عن محيطه بخليطه البشريّ وانفتاحه وتطابق النزعات الفطريّة والفكريّة لأهله وروّاده الطليعيّين مع القيم العالمية لحقوق الإنسان الإنقياد لدعوات الإنفصام عن الوجدان الوطني هو ضلال آيل إلى التشرّد وهو طعنة في صدر صيغة العيش المبارك والهنيء. طوف التهجين مصدود من اللبنانيين الأصلاء، وإعاقة نظام لبنان الديمقراطي وكبح انسياب سلطاته الدستورية وتعطيل وظائف مؤسساته هو تخريب يهرعون لتداركه وإيقافه. جذور هؤلاء عصيّة على الإقتلاع من معاقلها، وهم سيثبتون في بلداتهم ويحافظوا على أرضهم ويتمسّكوا بانتمائهم وولائهم لوطنهم وتمتين وتحصين صيغته النموذجيّة. الاستقلال هو حجر العقد في بناء الدولة ومحور الهويّة الوطنيّة وجوهر كرامة المواطن فلنصنه ونحمه من الهجمات المسعورة للإطباق عليه ومحو معالمه الفريدة وتهميش وتجفيل إنسانه. تعلّقنا بوطننا الأم كتعلّق الطفل الرافض للفطام بأمّه، لسان حالنا النشيد الوطني الرائع بمعانيه وموسيقاه كما الأناشيد الجميلة البليغة المعاني والساحرة الألحان المنظومة لتبجيله أقتطف منها: هوى وطني فوق كلّ هوى جىرى في عروقي مجرى دمي وفي مهجتي كبرياء الجدود بناة العظائم من آدم ونحن الشباب كبار المنى تشاد الحياة على عهدنا حميد عوّاد: مربوط ب"حبل السُّرّة" إلى الوطن ومنذور لمحبّته ورفع شأنه ومواظب على مواكبة مسيرة تعافيه* https://twitter.com/AouadHamid/media

٢٨.٢.١٨

تنهيدة الحرية في لبنان وتنفيس الإحتقان الإقليمي رهن بكبح التضخّم إلإيراني

مكابدة الأزمات المزمنة والخانقة التي تُلمّ بلبنان وتحاصره وتعتصره وتتقاذف أبناءه جعلت الملهوفين عليه قلقين ومضطّربين وغاضبين. فزخم اندفاعهم نحو التطوير والتحديث والترقّي يعاكسه تيّار رجعي يعيق حركتهم إذ يخطف خائضيه من الحاضر ليغوص بهم في أغوار عصور البداوة حيث يسود العصب القبلي المثير للغرائز والمعطّل للعقل. هذه الحال هي ذروة الظلم للبنانيّين لأنّها تشعرهم بالغربة في وطنهم وسط بخّات سموم تضخّ التناحر وتفكّك أواصر الإلفة وتشحذ الفرقة عشائر متناوئة ومتناوشة. الاستغراق في قمقم هذه الغيبوبة يمنع استعادة الوعي ويسهّل استغلال الغافلين عن سقوطهم في هوّتها السحيقة وقوداً لمحارق الأوثان المتألّهة. تخدير المتهاوين نحو الهلاك بخوراً لتبجيل الأوثان يتمّ بحقنة غرور "تعبق" ب"الطّهر" وب"يقين" كشف "أسرار الوجود" "الداحض لترّهات تفوّق الرقيّ والتحضّر". هذا الحقن يحنّط الأدمغة بين دفّات "مدوّنات السجلّ العتيق" ويحضّ على نبذ كلّ مستجدّ يستعصي على "تقزيمه وقولبته" ضمن حيّز المفاهيم الضيّقة. هكذا تُصنف دساتير الأنظمة الحديثة والمواثيق الأممية والعهود الوطنية "باطلة" لخروجها عن أطر النطاق المرسوم، ويستحيل التعايش مع هذا التهجين. فالانجذاب نحو فلك سطوة "مراجع" خارجيّة ومبايعتها سلطة وطاعة مطلقتين هو انشقاق عن الولاء الوطني وخروج من بوتقة الحياة الوطنيّة لخدمة غريب مفدّى ومبدّى على حساب السيادة الوطنيّة. للأسف لقد بلغ "إرضاع أمهات" بعض المذاهب لرعاياها في لبنان ب"الحليب" العقائدي والمعنويّ والماديّ حدّاً شدّد عصبهم و"أهّلهم" لتشكيل "كيان خاص" مكتفي القدرات ومكتمل الهيكليّة جعله "محصّناً ومدجّجاً بالسلاح في مواقعه الموغلة في التشعّب" ومستقوياً على الدولة اللبنانية ومواطنيها. هذا "التفوّق" زعزع الأمن واستحوذ النفوذ واغتصب الامتيازات والأملاك وابتزّ المناصب وقضم الحقوق واحتكر المداخيل واحتقر المواهب وجيّر ريع الفوائد لمحظيّه وأغرى الانتهازيّين وأجاز الغشّ والتزوير والتهريب واستباح مؤسّسات الدولة ومرافقها ومعاهد التعليم، فساء الأداء وانحطّ المستوى. وهذا الخلل الخطير المغلّف بتقيّة المواقف وتعرّج التشريع وفجور مطالعات الدفاع عن الباطل هو الذي أربك سياق تعافي الحياة الوطنيّة. فتسرّبه إلى مفاصل الوطن أدّى إلى إحباط جهود البناء الحثيثة وإجهاض النهوض ولجم زخم تدعيم ركائز الدولة وإعاقة تحديث مؤسّساتها وتتويه مساراتها وتكبيل أدوارها ومسخ معايير الكفاءة والجدارة في إناطة المسؤوليّات. كما أفضى إلى إرباك مهامّ القوى الأمنيّة ونقصان التدابير الضامنة لتحصين القضاء تحت قوس توازن العدالة وتعطيل للرقابة بإضعاف أجهزتها الكفيلة بتأمين انسياق سهل وجيد ومنتج للعمل الإداري مضبوط بمجازاة منصفة ثواباً أم عقاباً. فيما يمعن هذا القرض نخراً في هيكل الوطن، يواصل المتشبّعون بحبّ الوطن بذل الجهود وتنسقيها وتجيير "حظوة" العلاقات الخارجية المفيدة لصبّها في خزّان الخير المشترك الذي يرفد نهوض الوطن ويغذّي نموّه. التنكّر للإنتماء الوطني والجحود بأفضاله لتكريس الذات بيدقاً في يد لاعب شطرنج خارجيّ مغرور بالأبّهة يلتذّ بتوسيع رقعة نفوذه المطلق، يشرخ انفصاماً نفسياً داخل المستسلم ويطعن السيادة الوطنيّة في الصميم، لكنه يكثّف احتشاداً متراصّاً للمخلصين لنصرة الوطن ودرء الأخطار عنه. وسط الغليان في مرجل النزاعات التي تحيطنا أُحرق الكثير من البيادق في لجّة النزاع السوري المأساوي، فقوّة جذب لاعبهم تغلّبت على نصائح النأي عن النار. حلم انبعاث إمبراطورية إيرانية راود مخيّلة مرشدها وبطانته فكرّس لبسطها فيالق عسكرية من المشايعين البلديين والإقليميين وضخّ الأموال والفتواى والإستنفار والموارد وشنّ الحملات فشقّ طرقه إلى بلدان شاء ربطها بملكه. بسْط أذرعته العسكرية امتدّ إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن وبلدان أسيوية وإفريقية، مستغلاً ضعف السلطات المحلية وتفاقم القلاقل بين أهلها. "الفتوحات" التي حققها طفحت تهلّلاً عبّر عنه العديد من المسئولين الإيرانيين متبجّحين بسيطرتهم على العديد من البلدان والعواصم. لكن هذه السيطرة ليست كاملة ولا مطلقة إذ يقارعها مناهضون محليون وإقليميون ودوليون. سوريا "المحروثة" والمحروقة بعدّة وذخيرة الحرب التي صلى أهلها بها الثلاثي النظام السوري- إيران وأذرعتها- روسيا هي نموذج. روسيا "افترشت" "حميميم" مهبطاً ومنطلقاً لطائراتها الحربية التي رجّحت الكفة العسكرية وقاعدة طرطوس مرسىً لأسطولها البحري وأستباحت المدى السوري حقل تجارب لأسلحة جديدة، كما شكّلت "ضابطاً" وكابحاً لشبق الهيمنة الإيرانية ف"همست" وعود التطمين في كواليس التحادث مع إسرائيل وهدّأت قلق النظام السوري من انفلاش جموح إيران. طول باع إيران في هذه الحرب أشعرها ب"تبنّي" سوريا كولاية إيرانية وحثّ النظام المنهك ليتّكئ على حليف لائذاً من غلواء وضغوط الآخر. التغلل الإيراني في المدى الجغرافي العربي حاملاً رايات "ولاية الفقيه" و"الإسلام النقيّ" ونصرة "المحرومين والمضطهدين" و"تحرير فلسطين" أغاظ دول الخليج، خاصة بتاليب المسلسين لدعواته داخل هذه الدول على حكّامها.هكذا تأجّج الإحتقان بين المذهبين الشيعي والسنّي وراح ينفث دماء ضحايا كثيرة في باكستان واليمن والعراق وسوريا فيما تمخّض في بلدان أخرى. صراع النفوذ الشرس المضرّج بالدماء والمثير للأحقاد زعزع الاستقرار في المنطقة واستقطب "متكفّنين" بدثار دولة "الخلافة" أرتكبوا الفظائع لإثبات "بأسهم" وترهيب مناوئيهم مستخدمين شبكات التواصل الإلكترونية للترويع والتغرير. في ميادين التطاحن السورية تشتتت الفصائل المعارضة لتضارب ولاءاتها وسُحق أنصار دولة "أضغاث الأحلام" بتوائم صدفة نتج عن بروز عدو مشترك لحلفاء ومتناوئين. لقد ضاعت البوصلة في كثير من المواجهات صعب معها التمييز بين حليف وعدو، فهناك أدوار تلعبها بعض القوى تحيّر المراقبين في فهم نواياها وتحديد موقعها واستكشاف آفاق تحركاتها. تركيا "النايتوية"، بعدما "شهدت رواج سياحة داعشية" عابرة لحدودها عدة سنوات، تركّز اليوم على "بيت القصيد" وهو اجتثاث الفصائل الكردية التي حاربت داعش بدعم أمريكي في سوريا في جوار حدودها. لا همّ لها الإعتراض الواضح من فرنسا وإلمانيا على ذلك والملتبس من أمريكا. تحت شعار حماية حدودها شنّت حملة عسكرية شرسة على "عفرين" فيما هي "شاخصة" بعدها إلى "منبج" (آملة بشراكة مع القوى الأمريكية) حيث يتمركز قوى أمريكية خاصة إلى جانب "وحدات حماية الشعب الكردي". وهي من منطلق التحالف "الأخواني" مع "قطر" أمنّت للأخيرة حماية أمنية وتموينية استكملت بمدد إيراني لكسر المقاطعة الخليجية (والتي ضمّت حلفاء من خارج الخليج) الإعتراضية على مآخذ ناقضت الجهود لمحاربة الإرهاب. القوى الأمريكية لن تتزحزح من "البرزح" البترولي الكردي في شمالي سوريا والعراق ومن معبر النتف والشريط الحدودي الملامس للأردن والعراق وكل المواقع المتاحة التي تعترض الكرّ الحرّ للتموين الإيراني باتجاه سوريا وتحبط الإستئثار بملف مستقبل سوريا (من بوادره ترحيل المحادثات من جنيف لعزلها في أستانة أو سوتشي ب"رعاية" روسيا وإيران وتركيا) لأسباب أمنية وسياسية واستراتيجية واقتصادية داعمة للأكراد الذين أبلوا البلاء الحسن في محاربة داعش. الحسم العسكري يُستأنف بقسوة (في الغوطة الشرقية)، مبيداً أرواح مدنيين، للتخلّص من بقايا البؤر المتمرّدة على النظام وترجيح كفّة الأخير في النفاوض على حلّ "سياسي سلمي". لكن يبدو أنّ المهمّة أعقد من إطفاء جمر. الإنقاذ هو حاصل تسريع التنسيق الصريح والوثيق بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، لاشتقاق السبل الآيلة إلى وقف القتال وابتكار الحلّ الناجع المستولد من حوار بنّاء بين الأطياف السورية، يصيغ مبادئ بناء نظام جديد، يعتق السوريين من القيود التي كبّلتهم ويفكّ طوق الطغيان الذي خنقهم خلال خمسة عقود. هذا التحرر يتيح لسوريا الإنطلاق نحو أطر ديمقراطيّة، حُرم منها أبناؤها، ليتيح لهم مشاركة فعّالة تنتشلها من وضعها المفجع وتنقلها إلى آفاق سلام وازدهار. في الأنظمة الثيوقراطية الولاء للانتماء المذهبيّ يندمج مع الولاء للانتماء الوطني، لكن زجّ نظام ديمقراطي، كالقائم في لبنان، في تلافيف لزاجة هذا "الغراء" هو فخّ قاتل، لأنّه يشحذ الغرائز العدوانيّة ويشلّ حركة التطوير ويشكّل تهديداً وجوديّاً. إستقواء "الراضعين من حليب" النظام الإيراني لا يمنحهم العصمة ولا يسمّنهم لافتراس المخالفين لمقصدهم ولا يسوّغ لهم الإطباق على مفاصل الدولة اللبنانية. لبنان نموذج تفاعل إنساني خلّاق وسامي القيم، خيره خصيب ومعدٍ ووجوده ضرورة لا تنعدم. إستلهام الضمير في قواعد السلوك وتعزيز الكرامة وإتاحة حرية رشيدة لتطواف الفكر والتعبير اللبق والحكيم عما يختلج في الخاطر وصيانة الحقوق وتلبية الواجبات بتفانٍ وتحقيق المعجزات ورفع شأن الوطن إلى ذروة المراتب هي من الشيم اللائقة بصفوة اللبنانيّين، وكلّ ما يناقض هذه السمات ممجوج ومرفوض. حميد عوّاد: مربوط ب"حبل السُّرّة" إلى الوطن ومنذور لمحبّته ورفع شأنه ومواظب على مواكبة مسيرة تعافيه*

١٤.٢.١٨

شهداء الوطن: ما إن فارقوا الأرض حتى تغلغلوا في الوجدان

تشغل البال هموم الوطن المتناسخة ويقيم في وجداننا أطياف شهدائه الأبرار نضمّها بحنان فتذخّر بإستمرار توقنا للدفاع عن حريّتنا وسيادتنا وإستقلالنا وعزّتنا. حماية القضايا الوطنية الكبرى تجشّم بذل أرواح عزيزة فقدانُها مضنٍ لكن حضور أطيافها لا يبارح الوجدان. الموت ليس معبراً إلزامياً إلى الحياة إلاّ إستثنائيّاً حين يبني جسراً أو يحفر نفقاً ينفذ إلى حياة وطنية حرّة. لكن لا يسترخصنّ أحد الحياة ويروّجنّ الموت كنمط وجود وأداة تهويل ليستعبد الناس ويثبّت سلطانه. مراودة ومناجاة أرواح أحبّائنا، فداة كرامتنا ومجد الوطن من انتهاكات وكيد الطامعين والحاسدين، تجذب أوتار مشاعرنا وتشوّقنا للإحتفال بذكراهم. مرتبة الشهادة تتبوأ ذروة الوقار والإكرام في ضمير الأمّة ويستوي فيها كلّ الشهداء سواسية. إحياء ذكريات استشهاد شخصيات بارزة لعبت أدواراً مفصلية في حياة الوطن لا يعني إغفالاً يكسف توهّج تضحيات أشقّائهم بل يرمز إلى جلال تفانيهم أجمعين. عيد العشق (14 شباط) سنة 2005 اشرأب شغف التوحّش من أقبية الإجرام استجابة لإصدار أمر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. و ما ضاهى عصف الإنفجار الآثم إلاّ غضب اللبنانيين الذين إنطلقوا في مسيرة "ثورة الأرز" لرفع نير الظلم عن كاهلهم وقذف جحافله خارج الحدود. لقد أحبّوه وقدّروه لريع خدماته البارّة تجاه وطنه وشعبه فيما ترصّده وكمن له ولمشروع إنهاض الوطن الحاقدون الحاسدون المستبدّون. غمر الرفيق بعطفه وعنايته وسخائه الناس، فإستحقّ محبّتهم وثقتهم وكسب حظوة عند ربّه. بذل جهوداً خارقة وحقّق نجاحاً باهراً فشمخ بإنجازاته وتواضع بعلاقاته. إكتشف لذّة عارمة بزرع البذار الطيّبة فكان الإنتاج خصيباً وحصاد غلّال الخير وفيراً. محبّته لوطنه وسعيه الدؤوب لإحلال السلام فيه ولإشباع طموح طلاّب العلم من أبنائه تلاقحت بمتعة إنجاز المشاريع العمرانية فإختلجت في وجدان رفيق الحريري نشوة تحقيق حلم إعادة بناء لبنان بشراً وحجراً ومؤسسات. كرّس الرئيس الشهيد طاقاته وإمكاناته وعلاقاته لإحياء صيغة ودور لبنان كدولة سيدة حرة مستقلة وحاضرة عمرانية رائعة تليق بعزة وطموح أبنائها فكان فرحه عظيماً بتحقيق مراحل متتابعة من الأحلام واقعاً. بإغتياله و كوكبة شهداء "ثورة الأرز" معه أراد الطغاة الإنقضاض على عصب الإباء و تثبيط عزائم الأحرار وتفكيك جسرهم البشري المكين. إستلّ الجلاّدون سيف البطش ليشهد من تسوّل له نفسه التمرد كيف "تُقطف" رؤوس المتمردين والعاصين عليهم. لكن حمم غضب الحريصين على الوطن ومحبّي الشهيد جمدت الدم في عروق السيّافين. إذ أنّ التلاصق المتعدّد الأطياف المترامي الأطراف شكّل جسر الخلاص الذي تنكّب الوطن وإنتشله من براثن وأنياب الوحوش ليعيد اليه منابع الحرية والعزة المغتصبة بعد معاناة اختناق، وليطبّق سيادة الدستور والقوانين بعد طول تشويه وليقوّم سياق العدالة الشاملة بعد حرفها عن مسارها. ذهول وارتباك ألمّا بقطّاع الرؤوس أمام مهابة موكب الإستقلال الوطني الحاشد الذي إنطلق في 14 آذار. فهو مكمّل لصورة قوافل الشهداء التي افتدتنا في محطّات النضال الوطني عبر تاريخنا الحافل بإنجازات عظيمة داهمتها كبوات شوّهت رونقها. مؤسف حدوث إنتكاسات بعد جسامة التضحيات النفيسة المبذولة لبناء الدولة بسبب تألب "حرّاس ثورة" هبطت بكلّ "تجهيزاتها" على لبنان والمنطقة لتقيم دويلة قارضة لسلطات الدولة ويبدأ تضييق الحصارعلى حريّة التفكير والرأي واستهلاك الأرواح من خلال "جلاميد نظريّات" دفقتها علينا "قرائح خبراء" الثورة "الميمونة" فصادرت إرادة أنصارها وخدّرت أذهانهم وأزهقت كلّ اعتراض. هذا النهج الإستبدادي الجامح نحو التحكّم بكلّ أوجه الحياة الوطنيّة تجاوز نطاق الأتباع ليشمل "حلفاء" سِيقوا بالترهيب والترغيب والكيد وخلل التوازن وتلبّد الضباب حول الصواب ليشكّلوا غطاءً يموّه الطابع الفئويّ ثمّ ليستكمل حلقات الهيمنة بمحاولة فرض طقوسه على كلّ أبناء الوطن. لقد بلغ هذا الإنتهاك حداً خطيراً بات يهدد الكيان ويمهّد للغور بالوطن من جديد في غياهب عهد الطغيان الذي جدّد معه "أركان الثورة" عقد الشراكة العضويّة. معمودية الشهادة وتشابك مشاعر العزّة والحرص على نقاوة وتجلّي صيغة لبنان الحضارية يحتّم جدْل عزائم وجهود المؤمنين بتميّز وريادة هذا الوطن. اللبنانيّون المتنوّرون متيقّظون للمكائد التي تحاك لإغتيال وطنهم و للإنقضاض على إنجازات القوى السيادية وإغتصاب ودائع قافلة شهداء الإستقلال المنتشل من براثن الوحوش. لذا حفاظاً على تراثنا العريق المجبول بإكسير التضحيات والمضمّخ بالعزة و الكرامة والحرية وتحفيزاً لإزدهار مستقبلنا وأمانةً لتطلعاتنا ووفاءً لتوصيات شهدائنا الأبرار، لنشبك السواعد ونقف صفاً واحداً وسدا منيعاً لإسقاط تعديات الردة الرجعية ولنواكب مسار المحكمة الدولية للقبض على رؤوس شبكة الإجرام لننعم بالأمان. لنستلهم مناقب وخصال الشهداء النبيلة لننقّي ضمائرنا، ولنستمدّ عوامل القوة وأسرار النجاح من مزاياهم ونقتدي بمبادراتهم الناجحة وأعمالهم الخيّرة. حقق رفيق الحريري إنجازات عظيمة ونجاحاً باهراً في حياته فاستحق التقدير وربح قلوب الناس. أما في استشهاده فحقق أروع وأثمن الإنجازات وهي إنبعاث الوحدة الوطنية في سبيل خلاص الوطن. أليس بإنجاز جليل كهذا يدخل العظماء التاريخ ويُخلّدوا؟ حميد عوّاد: مربوط ب"حبل السُّرّة" إلى الوطن ومنذور لمحبّته ورفع شأنه ومواظب على مواكبة مسيرة تعافيه*