١٦.١٢.٠٩

حماية أحشاء الوطن من نهش الضواري

حميد عواد*

أقلعت حكومة الإئتلاف الوطني الجديدة من المجلس النيابي على متن 122 صوتاً من أعضائه منحوها ثقة عارمة بعد مناقشة البيان الوزاري و تسجيل إعتراضات على إسباغ وظيفة دفاعية على فصيل فئوي مسلّح متمسّك بسيطرته على مواقعه و بحرية حركته بمعزل عن سلطة الدولة و ملتزم بعقيدة و إرتباطات و طموحات لا تحظى بتأييد معظم اللبنانيين و لا تأتلف مع تطلّعاتهم على الصعيد الوطني.
و طالما صِيغت الحكومة على أساس صيانة سلامة العيش المشترك و التوافق من خلال حقّ النقض لمكوّنات المجتمع، فلماذا خرقه في خصوص دور هذا الفريق؟
هل يخدم هناء هذا العيش تحول السلاح منساساً لسوق الناس نحو وجهة لا يختارونها و تصوير مخالفة قرار قادة هذا السلاح إخلالاً بالوئام؟
عوامل القوة يجب رصفها داخل مؤسسات الدولة لا خارجها.
السلم الأهلي ليس رهينة للإبتزاز و لا مكسر عصا لخضّه و "إستدراج عروض وصاية" جائرة تحتقر و تئد مواهب المواطنين و تتقن التنكيل و التكتيم و التحطيم.
إلغاء الطائفية السياسية يطفح بالمغازي عندما يرفع لواءه غلاة الحشد الطائفي و يلوح فيها جرف بقية الطوائف بزخم تكاثر الحشود الآيل إلى "غلبة" و طغيان الفقر و الجوع و المرض و الجهل و البؤس و التناحر.
لا يمكن التوفيق بين التناقضات إلاّ في حال تضافر النيّة و الرأي و العزيمة و العمل على تنقيتها من النتوءات و الأدران لتتسق في بوتقة منطقية خلاّقة.
كل لبناني بارّ يودّ و يأمل أن تتبلور النوايا الحسنة التي شُكّلت بهديها هذه الحكومة التي بذل فيها رئيسها سعد الحريري جهداً إستثنائياً صادقاً و مهارة سياسية شفافة، فتنضج خيراً عميماً و تطلق نموّاً مطّرداً و تحقّق إزدهاراً منعشاً و إستقراراً راسخاً و طمأنينة مريحة.
البيان الوزاري برنامج عمل حافل بالمهمات لكن المطلوب من الحكومة إثبات الجدية في حفظ حقوق و صون كرامة و تأمين حماية كلّ مواطن و مدّه بمقومات العيش الكريم في محيطه.
فإنعدام فرص العمل خانق و مذلّ و لحسٌ للمبرد، و الخوف من تعديات المارقين ماثل يومياً، و القلق من مسخ المفاهيم الوطنية المنطوي على تبعية ماحقة هاجس مقيم، و تهديد حملة السلاح الصريح و المبطّن باعث للتوجس و دافع لبيع الأرض و الهجرة و طوفان يجرف بالتتابع قرية تلو أخرى.
لقد غدا هذا الخطر نزفاً حادّأ و خللاً بنيوي آخذاً في التفاقم كسريان النار في الهشيم.
لذا واجب ملحّ على الحكومة و أرباب السياسة التنبّه له و إحتضان المواطنين و إتخاذ تدابير صارمة و فعّالة لحماية الإنسان و الأرض، و إلاّ فرغ الوطن من خيرة أبنائه و تغيّر صورته و دوره و نظامه.
إنتشار القوى الأمنية النظامية المخوّلة ببسط سيادة الدولة و حماية المواطنين في مختلف بقاع الوطن أمر حيوي. و حيوي أيضاً الإنعاش الإجتماعي و التنمية الريفية و المدنية بإطلاق مشاريع منوعة و مجدية.
كذلك إنشاء صندوق مالي تحت إشراف مرجعيات موثوقة يساهم في تمويله أصحاب الإرادات الطيبة يُكرس لتمويل الملاّكين الواقعين في ضيق مادي مقابل رهن الأرض او شرائها هو عمل سليم يجنّب المواطن خسارة أرضه أو يحفظها في عهدة أيادٍ أمينة.
الوطن بحاجة لتوقّد عقول و ملء عافية سواعد أبنائه الطيّبين لإلتقاط الفرص المجدية و تثميرها للنهوض من ربقات مطبّات الإحباط التي شلّت تقدمه، و لتقديم جردة حساب أمام أرواح الشهداء الذين أفتدوا بأجسادهم عزّته و حريته و سيادته و إستقلاله و أزاحوا عن صدور إخوانهم هيمنة ساحقة تمهيداً للصعود نحو آفاق التنمية و الرفاهية.
و لضخامة الفداء تحول تقويمنا الزمني رزنامة إستشهاد على مدار السنة.
مع حلول 12 كانون الأول تنتصب في ذاكرتنا قامتا عملاقين جبّارين خاضا حروباً شرسة ضدّ الجهل و الجور و الإرهاب.
جبران التويني حمل مشعل حرية الرأي فجعل "النهار" منبراً لأصحاب الفكر الوهّاج الثائر على الظلم و الهادي إلى رحاب الرقي و أجواء القيم الإنسانية السامية و مناهل المعرفة المثقِّفة.
كان قاذفة لهب تطلق فيض حبّه و إيمانه بلبنان الرسالة و رسله شبابه الأفذاذ. كان قائداً محرّكاً في مسيرة ثورة الأرز و سيبقى نبراساً وضّاءً و صوتاً هادراً يلهم الأجيال و يرعب جلاّدي الأحرار.
أما اللواء فرنسوا الحاج فكان بطلاً مغواراً في جيشنا الباسل أثبت كفاءاته و مهاراته العسكرية في مجالات عدة فرفعته إلى المرتبة القيادية التي تبوّأها و بلغ ذروة تألّقه في التخطيط و الإشراف على إسقاط بؤرة الإرهاب في مخيّم نهر البارد.
لقد زار لبنان دانييل بلمار المدعي العام في طاقم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ليعرب عن تقديره العميق لتضحيات الشهداء الموكول إليه كشف المتورطين في تخطيط و إعداد و تنفيذ إغتيالهم و في طليعتهم الرئيس رفيق الحريري و ليؤكد ثبات مسار التحقيقات و طمأنة المسؤولين و أهالي الشهداء إلى إحراز تقدم في عملية التنقيب عن الأدلة و القرائن و تفحّصها و تحليلها، و التعمّق و التوسّع في كشف خيوط شبكة الإجرام التي يحرص على شمول جلائها للتيقّن من متانة حبكة القضية قبل البتّ بها.
و في كل مرة يسلّط الضوء على هذه المحكمة "يصادف" تحرك قضاء إقليمي لإصدار إستنابات عائبة قانونياً و كأن المقصود بها القول: تذكروا أن لقضائي القدرة على النيل من شهودكم.
كما "كشّر" هذا التحرك عن أنياب غريزة الإفتراس المتأصّلة في سلالة نظام "النخبة" القابض على السلطات تعبيراً عن غضبه من إنطلاق رئيس الوزراء اللبناني في أولى جولاته الرسمية من خارج "بيت الطاعة" السوري الذي يثابر على تصويب "فوّهات" ضغوطه نحو "نفض" فريق مستشاري الرئيس سعد الحريري و "فرط عقد" تحالفاته.
أبناء وطني الأغرّ، التجربة علّمتنا ألاّ نؤخذ بالوعود الخلّب و ألاّ ننقاد وراء قيادات
مزيفة تستخفّ بذكائنا و تحاول سوقنا إلى حظيرة العبودية مجدداً.
لنحكّم عقولنا و لنميّز بين الصواب و الخطأ، و لنتبيّن وجهة كل خطوة (و لو وطأت سجّاداً أحمر)، و لنتحسس الأخطار الكامنة في المواقف و المسالك، ولنحذر الغفلة، و لنستجمع الجهود الصادقة لحماية وطن الأرز الدهري قلباً و قالباً، موئلاً للحرية و الديمقراطية و الإزدهار، و قدوةً لذوي الألباب التوّاقة إلى الإرتقاء.
نَسْغُ الأرز يغلي في عروقنا قلقاً هلاّ إنتخينا و قلنا لبّيك يا أرز

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية