بقلم حميد عواد*
مع هبوب رياح التغيير, تتفاقم وتيرة انفصام الشخصيات المسؤولة المأزومة, لتنفس احتقاناتها عبر فورات انتفاض وجدانية على "الذات الأخرى" الفاسدة التي أجهضت"محاولات الإصلاح". و قد بلغت هذه "الزوابع" حدة كادت تقتلع معها المواطن اللبناني المحبط و المذهول من واقع الحال المرّ, لتهبط به في فردوس الجمهورية الفاضلة. لكنّ اللبنانيين المتيقظين لم يُعمهم وهج اللحظات الملتهبة و لم تمسّهم حرارة انفعال أبطالها. ذلك لأنهم سئموا سخف معارك الإلهاء العبثية و سماع شكوى ألمسؤولين الموضعيين من معاكسة "الأرواح الشريرة" . كأن المواطن هو الذي استحضر هذه الأرواح و شاركها في اغتصاب السلطة. أما الواقع المعيب هو أنّ ملتبسي الألقاب الذين يُشبّه لهم, جُرّدوا من السلطة الفعلية أو ارتضوا تجييرها إلى طاقم الحكم السوري الذي طوّق الوطن بجيشه و سدّ منافذ الحرية و شرّع أبواب الانتهاكات و الفساد على مصاريعها. وقد أوغل الأشقاء في انتزاع "امتيازات" في عقر دار اللبنانيين, ما حصلوا عليها في بلدهم سوريا، و ذلك على حساب كرامة و حقوق و عافية كل لبناني أبيّ.
إنّ اللبنانيين المتنوّري الفكر و الضمير, الذين عانوا أنواع القهر و العذاب و الحرمان من جراء هيمنة الغريزة البوليسية التي غرز براثنها النظام السوري في مؤسسات الوطن عبر جيشه, يُصعقون كلما أحتشدت دمى المسرح السياسي اللبناني على أبواب أصحاب النفوذ في هرم الحكم السوري, إما "للإستئناس" بإرشادات ملزمة أو لالتماس دعم و منصب أو لإيداعهم إستقالة. كأنّ النظام الديمقراطي البرلماني في لبنان و سلطاته الدستورية أصبحت سراباً و تبددت هباءً بفضل الانقلاب "الأخوي" الذي استهدف هضم الوطن. و فيما وقف اللبنانيون الأصلاء سدّاً منيعاً في مواجهة انحلال لبنان, تهافتت طوابير الإنتهازيين لخدمة السلطان معفّرة الجباه و فتات موائد النهب المنظّم على حساب سيادة و منعة الوطن. إنّ تسابقهم لنيل الحظوة السورية تجاوز حدود التهوّر, فتباروا في إطلاق تحديات إستفزازية و حتى تهديدات لم يجرؤ السوريون على إطلاقها, ففوضوهم لهذه المهمات. و من التناقض اللافت أنّه في ذروة المخاض الممهّد للمدّ التغييري الذي يقضّ هاجسه مضاجع "الحرس القديم" و جنرالاته المثقلين بالأوسمة "الفخرية":
و إنّك "كالفجر"("كالقدر") الذي هو مُدرِكي
و إن خِلت إنّ المنتأى عنك واسعً (بالإذن من النابغة الذبياني)
نجد حاشية التبعية في لبنان "متفائلة" بمراوحة الوضع على خلله و شذوذه و عقمه, آملة بدوام حقنها بمصل الدعم السوري المتخثر فيما يزداد تعطشها لارتشاف دم أبناء الوطن و امتصاص عافيته. لقد حفل التاريخ بعصور نهضة و نور و عصور انحطاط و ديجور فتخلّد روّاد النهضة و اندثر برابرة الإبادة.
العقل يبني صروحاً لا حدود لها
والجهل يهدم قصور العزّ والتحف
الغلبة للعقل على الجهل و للحقّ على الباطل و للخير على الشرّ. قدر الإنسان أن ينمّي فضائله و يقمع رذائله و سنّة التطوّر هي الإرتقاء نحو الأفضل. المعرفة و الحرية هما غذاء الإنسان المعاصر لا يمكن لحاكم متعسّف أن يحجبهما عن رهائنه لأنهما ينبعان من داخل الإنسان و يتلقحان بثقافة العصر الوافدة عبر الأثير صوتاً مجلجلاً و صورةً زاخرة بالحياة. أصنام الأنظمة البائدة ستودع في متحف مدام "توسّو"(متحف الشمع الشهير في لندن) لتذكّر الناس بسخرية القدر و بعهود الإنحطاط. أما الإنسان فستوضع أمامه كل الفرص سانحة ليطلق طاقاته على مداها فيسهم بفعالية في رفع شأن الحياة الإنسانية و يشبع نهم فضول العقل قي اكتشاف مزيد من ألغاز الكون.
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق