حميد عواد*
ما توفير الغذاء و العناية الصحية إلا تأمين للوقود و الصيانة الضروريين لجهوزية العقل "في الجسم السليم" لتقبل المعارف و لوعي مكانته و دوره في المجتمع الإنساني .
لكن المهمة الأسمى تكمن في جودة إعداد المرء فكرياً و ثقافياً و أدبياً لتنكّب مهام نافعة و مفيدة و منشطة لتقدم المجتمع.
أما إذا وقع "خطأ فادح" ( عفوي أو مقصود) في "البرنامج التأسيسي لتشغيل الدماغ" تحول حامله إلى قنبلة موقوتة إلا إذا حدث تدخل لإصلاح العطل.
يمكن إدراج تدخل العالم الحر، مباشرة أو عبر مؤسساته الدولية، لإصلاح الأنظمة المتخلفة و إعتراض النزعات الهدامة و التصدي للثورات الهمجية، في هذا النطاق، بقصد الإنفتاح و حل النزاعات بأسلوب سلمي، حضاري و بناء.
فتوسل العنف و الإرهاب لقمع رأي حر مسالم أو إلغاء غريم راق هو تعبير وحشي عن إفلاس فكري عجز صاحبه عن المقارعة بالحجة و المنطق.
و ما اغتيال الشهيد رفيق الحريري، الرئيس السابق لوزرات متعددة في لبنان، إلا عمل إرهابي خطير ينمّ عن جموح إجرامي جارف، ظن مدبروه أن العالم الكثير الإنشغال بمكافحة الإرهاب في بقاع متفرقة لن يتفرغ لتفكيك "معتقلاتهم الحصينة" و تحرير أسراهم المتمردين على الظلم، و لم يتوقعوا هذا الإنكباب الحثيث على ملاحقتهم.
الإستنفار العالمي المستمد زخمه من النهوض اللبناني العملاق والنشط بلا فتور، قضى بتشكيل بعثة تقصي الحقائق المنتدبة من جمعية الأمم المتحدة.
و استناداً الى الإهمال المعيب الذي إعترى التحقيق "الرسمي" و العبث المشبوه بالأدلة و إلتقصير الفاضح في السعي لجلاء ملابسات الجريمة، إضافة إلى خطورة شحن الأجواء الممهدة للإغتيال بتسعير التحريض على الشهيد، أوصى فريق تقصي الحقائق في تقريره المرفوع إلى الأمين العام كوفي أنان بضرورة تشكيل لجنة تحقيق دولية للغوص في صلب شبكة الجريمة و سبر كل أبعادها.
و ما أن أحال الأمين العام للأمم المتحدة التقرير إلى مجلس الأمن حتى أصدر هذا الأخيربالإجماع، بعد مداولات تخطت عقبات أثارها بالواسطة ممثلو بقايا السلطة الآفلة ، القرار1595 الذي يقضي بتشكيل فوري للجنة تحقيق (تيمّناً بالحقيقة) مكتملة المهارات بشرياً و التجهيز تقنياً، متمتعة بصلاحيات واسعة النطاق نابعة من "ميثاق إمتيازات و حصانات الأمم المتحدة"، مخولة الولوج بلا عوائق إلى كل الأماكن و الإطلاع على كافة الوثائق و الأدلة التي تجدها مرتبطة "بالجريمة الفظيعة" و مقابلة الأشخاص الذين ترتئي استنطاقهم دون استثناء أحد.
هذه المهمة الموكولة لثلاثة أشهر قابلة للتمديد فترة مماثلة تهدف لمساعدة السلطة اللبنانية في استقصاء كل أوجه "العمل الإرهابي" و كشف هوية مرتكبيه و مدبريه و المساهمين في إعداده و المساعدين على تنفيذه، لتتخذ حينها، حكماً، هذه السلطة التدابير القضائية الملائمة بحق هؤلاء المذنبين.
كما يلزم القرار كل الدول و الفرقاء بالتعاون التام و المطلق مع اللجنة خاصة فيما يتعلق "بالعمل الإرهابي" (الإغتيال).
و ذكر مجلس الأمن في مقدمة القرار بوجوب احترام سيادة لبنان و سلامة أراضيه و وحدته و استقلاله السياسي برعاية سلطة الحكومة اللبنانية دون منازع، كما شجب أعمال التفجير الأخيرة و حضّ كل الأطراف على "الإنضباط" و اعتماد السبل السلمية حصراً لتقرير مستقبل البلد.
لن نعجب إن "يلجأ" بعض "النجوم"، المحشورين بالتصميم الدولي على إماطة اللثام عن فصول الجريمة النكراء، إلى التفتيش عن "ملاذ آمن" خفيّ عن الأنظار، متمثلين بإحدى "نجوم" فضيحة بنك المدينة المتمادية الجذور.
و لن نذهل إن نشط أعضاء لجنة التحقيق في تقفي آثار "مخرجي" فيديو "أبو عدس، و منفذي اشغال الطريق التي أجريت في موقع الإنفجار قبل وقوعه بفترة وجيزة.
و لن نشده إن نبشوا بحذاقة الشهود المتوارية و دققوا بعناية بالغة في مسرح الجريمة و حللوا بمهارة فائقة الأدلة بواسطة تجهيزاتهم المتطورة.
و لن نفاجأ إن "داهموا" الغرف السرية و القصور، داخل لبنان و خارجه، و استجوبوا أربابها.
و لن نستغرب أيضاً إن استنطقوا أصحاب الكسارات و طواقمها ليستفسروا عن مصادر حصولهم على المتفجرات و كيفية التصرف بها و أماكن تخزينها.
و لن نندهش إن استدعوا للتحقيق "وجهاء" و قراصنة و لقطاء شبكة المخبرين التي يُتمت، على تنوع مهامهم و مراتبهم، و سألوهم عن "الخدمات" التي أسدوها مقابل اغترافهم الثروات التي سرقوها من المال العام و الخاص.
كل الدروب سالكة أمام هذه اللجنة و النجاح بلا ريب سيكون حليفها. و لربما تشأ "الصدف" أن تكشف في طريقها جرائم كبرى سابقة بقيت حتى الآن طي الكتمان.
لا يسعني أن أختم حديثي دون التعبير عن اغتباطي بقرب انجاز انسحاب جيش النظام السوري و مخابراته من الوطن، و دون أن أنوّه بفخري و اعتزازي بأبناء وطني الذين عصوا على الطغيان، وثابروا على التشبث بالحرية والسيادة و الإستقلال، و مهدوا الدرب لإخوانهم المكبوتين ليطلّقوا الخوف و يتّحدوا بهم في بوتقة وطنية رائعة نتمنى لمن حنث بها أن يدرك أهميتها و يتنعم بحلاوتها.
حذار المقامرة بهذا الإنجاز الثمين فهو ملك الشعب العظيم.
تحية وفاء للقيادات التي ألهمت الجماهير، منها من غيّبه الغدر و منها من يتأهب لملاقاة المواطنين.
فألمنفيون عنوة عائدون و المسجون ظلماً سيطلقون و العرس التاريخي المنتظر بشوق سيبدأ.
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق