لقد فُطر هذا الشعب على تنشّق نسائم الحرية وشموخ عنفوان الكرامة وتعزيز قوائم السيادة وعشق الحياة وتسبيح الخالق والإحتفال بالفرح والترح والزرع والحصاد والمُونة والعَونة، وثابر على نهل المعرفة والتوق للتنقيب والإكتشاف والتعمير فإنتشى بالتصميم والإبداع وإنتعش بالإنتاج والعطاء.
تبوّؤه لأوج الإزدهار عرّضه لسهام الحسّاد السّامّة وإيواؤه للمضطهدين إستجلب له الإضُطهاد وفتْح قلبه للضيافة كشفه للطعن وتألّقه بممارسة الديمقراطيّة إستصبّ عليه عدوان الطغاة.
لقد إستقطب لبنان بجاذبيّته الأمم و"إخترقته" المصالح المتناقضة والأطماع الخبيثة فتلاطمت فيه وأنهكته. وأصبح بؤرة زلازل صراع دائم مع إسرائيل يوقده جموح "إفناء" سقيم أحبط الكثير من جهود سعاة السلام.
وسط هذا التجاذب الهائل وفي لجج النار وحتّى خارج أتّونها دفع اللبنانيون أثماناً باهظة، لكنّهم تغلبوا على المحن وعصوا على المستبدّين. فغزارة ومهابة تضحيات النفوس الأبية وصلابة تصميمها على صدّ الطغيان وردع محاولات تشويه بهاء لبنان زخّمت دورة تعافي الحياة فيه وجسّدت أسطورة طائر الفينيق وأدهشت العالم.
تراث لبنان غني وفريد فلنزده ثراء ونكفّ عن تهميشه وتهشيمه. أمّا نظامه الديمقراطي فهو محرّك للنشاط المجدي ومحكّ صاقل لمواهب أبنائه وجوهرة تؤلّق إنجازاتهم فلنصنه ونحمه من المَسخ.
شعب لبنان متنوع فلنرسّخ الوئام والإتزان بين شرائحه. ولننزع بذور الخلاف ونتخلّى عن إقتناء السلاح خارج كنف الدولة ونحجم عن توظيفه مع المال والإنجاب المسرف للهيمنة والتمدّد الفئويّين على حساب ضمور وجود ونفوذ بقية أهل الوطن، فنتفادى تفاقم العصبيّة القبليةّ الآيلة إلى التناحر والإنتحار.
هوية لبنان متأصلة في التاريخ ومجدولة بسواعد بنيه ومحبوكة بقرائحهم وأحلامهم ومزهوة بالحرية ومعمّدة بالشهادة ومزدانة بالعطاءات كأقباس قوس قزح، فلماذا تغيير معالمها؟
أرض لبنان منبت خير يطعم كل بنيه ومسكن أمان يأويهم، فلماذا "فرزها" لعزل أهلها عن بعضهم البعض و"إقتطاعها" وفرض الضغوط على الجار العاصي على التدجين لتيئيسه ودفعه لهجرها وبيعها؟
نظام لبنان برلماني مدني حرّ يراعي ميثاقاً وطنياً يحفظ توازناً بين طوائفه ويضمن حرية الرأي والمعتقد ويضمن التجدد في المواقع الرسميّة ويتيح للشعب ممارسة الحكم من خلال المؤسسات الدستورية، لا خارجها، ويوفر فرص المشاركة في مختلف وجوه الحياة الوطنية لكل اللبنانيين، ويفتح أمامهم سبل التقدم والإصلاح، فلماذا السعي إلى نسف أسسه ومحاولة إستبداله بنظام شمولي مقنّع؟
لبنان بأرصدته الغنية وصيغته الفريدة الوادعة هو قدوة تحتذى لا "ورماً خبيثاً" يستوجب إستئصاله بل هو منتجع للروح والفكر والجسد.
لقد توافقت الدول المتحضّرة على صيانة هذا النموذج المميّز من الديمقراطية كموئل للعيش تختلط فيه الجماعات بحريّة ورفق وتعاون. وقد دعمت عهودها بصياغة قرارات في مجلس الأمن تضع حداً لإنتهاك سيادة لبنان، وأنشأت محكمة خاصة لكشف المجرمين والضالعين في إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وقافلة شهداء "ثورة الأرز" (و من سبقهم ضمناً) لقطع دابر ترويع الإستبداد الذي يرصف طرقه بجثث الأحرار ويعربد بسحق جماجمهم.
بتضافر ضغوط الإرادات الطّيّبة مع صلابة العصب السيادي تبلورت إرادة لبنانية-دولية مشتركة وقناعة راسخة بضرورة إنخراط كل مكونات الشعب اللبناني
في ورشة ترميم وتحديث مؤسسات الدولة وتعزيز سلطاتها وحماية نظامها وسيادتها وإستقلالها وحرية القرار فيها.
مواسم تلاطم النفوذ وإغتصاب سلطات الدولة وقضم مؤسساتها مع خلق بدائل هجينة بقيت مخيّمةً في "مضارب" وممارسات فرقاء لم يمتثلوا لموجبات الإنخراط في إعادة بناء الدولة الجامعة. واللبنانيّنون مجّوا شبح هذا الكابوس كلّما راود خيالهم، فهل يرتضون تجسّده وإنتصابه على أرض الواقع؟
نربأ بأي طيف من أطياف شعب لبنان أن يقف عائقاً في وجه مسيرة نهوض الوطن وننصح غلاة دعاة إلغاء الطائفية أن يبدأوا بتنقية النفوس في صفوفهم.
وندعو حملة بيارق "العفّة والطهارة ومحاربة الفساد" إلى الإنطلاق من المحاسبة الذاتيّة بتروًّ وإلى الكفّ عن الإفتراء على الشركاء في الوطن والمبادرة إلى تصفية النوايا ومدّ اليد للتعاون الصادق مع كلّ محب ومخلص لوطنه.
النقد الموضوعي المنطقي والتفنيدي مرغوب ومستساغ. أمّا التجريح جزافاً للتسويق السياسي السلبي فهو عمل شائن يدين مرتكبه.
" فالرشق بالحجر الكبير لن يكبّر راجمه". والضرب "بسيف السلطان" لن "يطوّب مستلّه سلطاناً". فلا يتوهمنّ معفّرو النفوذ أنهم قضاة مطلَقو الصلاحيّات يصدرون الأحكام عشوائياً أو طبقاً لأهوائهم.
لقد إشمأزّ اللبنانييون المتنوّرون من الزندقة في الولاء الوطني ومن "نوبات جنون" أصحاب الشخصيات "المنفصمة". فتشنيف الآذان ودغدغة المشاعر بالوعود الخادعة لا تلبث أن تفضحها الممارسات المناقضة لعهودها.
التخبّط في ضباب تغطية الإنسلاخ عن مسيرة نضال مجيد خِيض لإستعادة السيادة، وكأنّه تكفير عن الذنوب، وعكس الخطى للإلتصاق بموكب خانقيها يؤدّي بالمتورّط في هذا المنزلق إلى الإنشراخ والتمزّق.
كذلك الفرشخة بين شرعية المسؤولية الرسمية والشرود عن الشرعية نحو الإنتماء الميليشياوي، نهايتها الإنفلاق.
طوبى لمن استحقوا التقدير والإحترام والتأثير فكرّسوا طاقاتهم وعلاقاتهم لخدمة الوطن.
أما الذين تنكروا لأفضاله وعملوا على "توضيبه" هدية لأسيادهم فسيلقون لوماً قاسياً وسيواجهون بإعتراض عارم من أحرار لبنان.
المواطن بحاجة ماسّة إلى حماية ودعم مؤسسات الدولة وإلى حكومة من الأفذاذ الجذّابين، لا المنجذبين إلى مدار التبعيّة، المزوّدين بمناقبيّة وكفاءات وإختصاصات عالية و المجرّدين من الأثرة.
كما هو بحاجة إلى صفاء وصدق وفعالية في الممارسة السياسيّة والوطنيّة والإجتماعيّة وإلى رعاية روحيّة عطوفة تحتضنه بحنان وتستدرّ فيه ينابيع المحبّة وتطهّر ضميره وتهدي سلوكه وتنعش آماله وتهدّئ هواجسه وتعزّز رجاءه وتوثّق وشائج أحاسيسه وعلاقاته وتنفح فيه التوق إلى الشراكة الخيّرة وتواصل دعمه وإلهامه.
بكركي هي حصن الوطن وملاذ المواطن وقطب حجّ روحيّ يجذب إليه تطلّعات مسيحيّي المشرق وإنطاكية الذين، إضافة إلى منائر كنائسهم، يرنون إلى منارته ليستمدّوا مزيداً من الإيمان والقوّة والرجاء.
مهابة بطاركة هذا الصرح الكنسيّ العريق تشعّ من تقواهم وتفانيهم في خدمة رسالتهم وتفيض من شجاعتهم وغنى معارفهم وتطفو من عمق إيمانهم الوطيد بالله وبالوطن. سيرهم دمغت تاريخ الكنيسة ولبنان بدمهم وتضحياتهم وحكمة تدبيرهم وجلل إنجازاتهم.
فقد رافعوا في قضيّة سيادة نواة الكيان الوطنيّ أمام السلاطين ودافعوا عن رعيّتهم عند هجوم الغزاة وافتدوا أبناءهم بأرواحهم.
كما ساهموا في صوغ تفاهم اللبنانيّين وفكّ خصاماتهم وساعدوهم للنهوض من كبواتهم وحثّوهم على صبّ ولائهم نحو خدمة وطنهم وساهموا في إرساء ميثاق وطني ضِمن هيكل نظام ديمقراطي نفحوا فيه روح التسامح ونبل رسالة التعايش الإنساني الحضاري ودافعوا عن هذه الهوية النموذجيّة الفريدة في المحافل الإقليميّة والدوليّة.
بالأمس (آذار 2001) زارنا غبطة البطريرك صفير مطلقاً صيحة "دولة الظلم ساعة ودولة الحقّ حتّى قيام الساعة!" بعد إطلاق نفير سحب القوّات السورية من لبنان عبر بيان مجلس المطارنة الموارنة في أيلول سنة 2000 ليتبعهما بزيارته التاريخيّة للجبل(4 آب 2001) لإبرام المصالحة المسيحيّة-الدرزيّة مع زعيمها.
واليوم يزورنا خلفه غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي ليطّلع على أحوالنا وليحفّزنا على شدّ أواصر إرتباطنا بالكنيسة الأم و دوام تواصلنا مع أهلنا وإلى التضامن والإنخراط في مسيرة الشركة والمحبّة التي جعلها شعار وشرعة خدمته والتي يثابر على تجسيدها في جمع القيادات المسيحية والتلاقي مع بقيّة القيادات السياسية والمراجع الروحيّة لتعزيز الوئام.
نشارك غبطته القلق جرّاء إستمرار نزف الهجرة من لبنان وخسارة المسيحيّين لأراضيهم بسبب "تهافت" فئات على شرائها بأسعار مغرية أو حتّى تزوير عمليّات بيعها في سعي لتطويق وقضم مناطق إنتشارهم ممّا يشكّل عمليات تهجير منهجيّة تطعن صلب العيش المشترك.
كما نشاركه المرارة من نزوح مسيحيّي الشرق بسبب إنفلات تيارات التطرّف وإرتكابها أعمال إضطهاد وتنكيل وعنف وقتل ضدّ من يخالف غيّ أتباعهم. ونطرح الصوت على ذوي الشأن أن يجترحوا علاجاً لهذا الشذوذ ونثني على جهود غبطته في سياق الدعوة المفتوحة لعقد مؤتمر يجمع القيادات الروحيّة في الشرق الأوسط لمناقشة تنفيس الإحتقانات الدينيّة والمذهبيّة وتصويب الإنحرافات وترسيخ الإلفة.
وفي الوقت نفسه ندين عنف الحكّام المستبدّين ونستهجن إدّعاءهم حماية الأقلّيات ونؤيّد التغيير السلميّ للأنظمة الإستبداديّة إلى بدائل ديمقراطيّة متطوّرة عبر إنتفاضات الشعوب الرازحة تحت ظلمها.
شؤون وشجون الأهل في الوطن وتعثّر مسيرة التعافي تقلق المغتربين التوّاقين إلى العودة إلى ربوعه.
لذا هم يدمنون على تتبّع أخباره ويبذلون قسطاً وافراً من إيراداتهم لإنتشال أهلهم من الضّيق وتحصينهم من تسرّب اليأس إلى نفوسهم ودعم مقاومتهم لإغراءات بيع أراضيهم كما يجيّرون روافد من نفوذهم في دول إقامتهم لدعم نهوض الدولة في أرض الجذور.
إنتخابات نيابية مهمة تقبل على اللبنانيين وهم ما زالوا يرزحون تحت عبء ظروف شاذّة ومعطِّلة. والمغتربون يشعرون بالمرارة والخيبة والغضب لعدم إستواء الأوضاع في مجاريها الطبيعيّة.
فيما التلكؤ مستمرّ في صياغة قانون أنتخابيّ ضامن لأمانة التمثيل ،تُرصد مراوغة في إتخاذ التدابير التطبيقيّة لإتاحة مشاركتهم في الإقتراع عبر السفارات والقنصليات في بلدان إنتشارهم تتلطّى بذرائع واهية لحرمانهم حقّاً ثُبّت قانونياً في المجلسين النيابي والحكومي إثر إلحاح عنيد من جالياتهم.
فحذار التلاعب في صحّة العمليّة الإنتخابيّة أو إحباط فرصة ممارسة هذا الحقّ إذ أنّنا مصمّمون، عند حصول أيّ خلل، على الطعن في نتائجها بالتنسيق مع الكتل السياديّة داخل الوطن.
المغتربون هم الجناح الطليق الحركة والقوّي والمرن الذي يرفد الجناح المقيم ليحلّق الوطن في أجواء الحريّة والعزّة والرفاه وحقّ لهم نصرة أهلهم عبر مشاركة فاعلة في رسم مسار الوطن الساكن في وجدانهم والحاضر أبداً في بالهم.
وصيّتهم لأخوانهم المقيمين فيه ألّا تشوّش الضوضاء صفاء فكرهم ومشاعرهم كيلا ينحرفوا عن سكّة الضوء. وأن يتشبّثوا بأرضهم وقيم تراثهم ويتعاونوا على عمل الخير وصدّ الأذى عن لبنان وأن يدركوا أهمية إختيار ممثليهم في البرلمان ويُحكّموا ضمائرهم فلا يتحولوا بيادق يُنتخب بها دمى، بل يركزوا بصرهم وبصيرتهم على كفاءة المرشح وإستقامته ونزاهته وعمق التزامه الوطني ومدى تعلقه بالنظام الديمقراطي وحرصه على الحريات والسيادة والإستقلال.
لأن الشجرة المثمرة تُرشق بالكثير من الحجارة والأجواء المحيطة محمومة، تكاتفوا وسيّجوا شجرتنا الخصيبة والباسقة يا أحرار لبنان واحموه من السموم والأمراض والقوارض!
*أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية Discernment, percipience, compassion, support for freedom, justice and Human Rights.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق