٥.٣.٠٤

خروج العملاق من القمقم

كتب حميد عواد*

ألإنسان خزّان قزم لفكر عملاق توثّب من قمقم الجسد و انطلق إلى رحاب الدنيا ليعاين المحسوس و يفهم المجرّد و يفكّك الألغاز و يستنبط الحلول و يبتكر التقنيّات و يطوّر الوسائل. استخرج من الذرّة طاقة هائلة و زوّد الآلات بعقول الكترونية مذهلة, تفوّق بابتداعها على إمكاناته الطبيعية سرعةً و استيعاباً و قدرةً. و سبر أغوار الفضاء الخارجي و غاص في أعماق المحيطات و اكتشف بواطن الأرض و التاريخ, و تَحَكّم عن بعد بالمنشآت و المركبات بتواتر موجات الاثير و الأشعّة. و لم تعد الحواجز الطبيعية عوائقَ بل أصبح العالم كلّه بوتقة إنسانية واحدة, تتركّز الجهود على رعايتها و توفير كلّ الفرص لتأهيلها إجتماعياً و ثقافياً و علمياً و اقتصادياً, بلوغاً إلى تضامنها و انسجامها وتآلفها و رقيّها و رفاهيّتها.

كل عقل إنساني يحمل جنين نابغة يتعطّش لينهل من منابع الفكر, فهل يجوز إجهاضه أو نبذه و تهميشه و قهره إجتماعياً و تجويعه جسدياً وحرمانه ثقافياً و تضليله عقائدياً, لينمو داخله وحش يفترس الجنين و ينهش الفضائل الإنسانية؟ إنّ المحن القاسية التي ألمّت بالمجتمع البشري في مواقع متفرّقة من العالم, إن من جرّاء تفشّي الأوبئة و انتشار التلوّث و المجاعة, أو بسبب الشذوذ العقائدي و التضليل الإعلامي و التصلّب العصبي و التمييز العنصري, أيقظت الغافل عن حدّة هذه الأخطار والمَتغاضي عن فظاعة الإستبداد. فبعد سلسلة مروعة من صدمات الإرهاب وجدت الدول الحرّة, و في طليعتها أمريكا و أوروبا, أن لا مناص من التحرك السريع لاستئصال جذور الجهل و البؤس و الإرهاب. فكان الردع العسكري حين لم يُجدِ الإقناع الدبلوماسي, ضمن حملة واسعة النطاق لتخليص الشعوب من أنظمة الجور البائدة, و لمساعدتها على الخروج من أسر عزلة خانقة لتتنفّس نسائم الحرية و العزّة و الكرامة و تنضمّ متآخية إلى موكب الحضارة الإنسانية الوضّاء. و شتّان ما بين انتشال شعب من براثن وحوش التخلّف و الإنحطاط , و بين "تصدير" الثورات الرجعية و الإرهاب المدمّر و فرض أنظمة بوليسية مروّعة تجرّع الناس السمّ في دسم الشعارات السَلِسة.

قدر الإنسان المعاصر أن يسعى إلى العيش عزيزاً مكرماَ مكتمل الحقوق محصناً بديمقراطية أصيلة تحمي الناس و تعدل فيما بينهم. و إعلاء شأن الانسانية هو هدف نبيل تقوننه الشرائع و تبشّر به كل الأديان. فمَن يغامر بعد اليوم بانتهاك شرعة حقوق الأنسان و يحاول تسخير رهائنه لإشباع غرائزه المريضة سيجابه بردع سريع و إدانة شاملة من المجتمع الإنساني المشدود الأواصر في جمعية الأمم المتحدة. لا تغاضٍ بعد اليوم عن بؤر الآفاعي فقد لسعت و لم توفر الحاوي حين داعبها. ورشة الإصلاح و التحديث انطلقت لتستمرّ رغم العثرات, عمادها جعل كل إنسان خميرة خير مبدعة تفيد المجتمع الإنساني العالمي بنشاطها. و لضمان اطّراد التقدم تليق القيادة برواد نهضة رؤيويين نزيهين مستقيمين حكماء ثاقبي النظر واسعي المعرفة ملهمين يبعثون الثقة و الطمأنينة فيزخّمون الهمم و يستولدون الطاقات الكامنة و يسفّهون الموتورين و يرسّخون السلام و يدفعون وتيرة الرقي قدماً نحو مستقبل زاهر.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية