١١.٩.١٠

الخلاص في الوئام و العدل و السلام و الهلاك في الخصام و الظلم و تحريض اللئام

حميد عواد*
ما أبهى مشهدي مأدبة الإفطار الرئاسية و "عامّية المصالحة" بين أهالي بريح اللتين أُقيمتا في قصر بيت الدين تحت رعاية رئيس الجمهورية، و ما أفظع مشهد "واقعة" برج أبي حيدر و جوارها.
في القصر تجلّت روح الوئام و الشراكة، و في تلك الأحياء من العاصمة (و إسمها يشتقّ من "عصمها" عن الأذى و الضيم إمتداداً إلى أطراف الوطن) برزت قرون فتنة أردت ضحايا و أوقعت خسائر و أرعبت الأهالي و وتّرت الأعصاب.
إقتضى الظرف الحرج تحرّكاً نشيطاً لعقد لقاءات هدفها "تطُويق" ذيول الحادث و الإنكباب على معالجتها و كانت "إستدعاءات" من الجوار (المرتبط بعلاقة "عضوية" مع فريقي الصدام) ل"إستعراض الملابسات"، أمّا القضاء فبدأ بإستنطاق المتورّطين في الحادث ليستجلي ظروف حصوله و حقيقة أبعاده.
لكن تفاجأ "المتوجّسون" من الشرور كما "المتوسّمون" ببوارق الأمل بإطلالة "مكلومة" تحمّل مسؤولية "الطعن بالسكّين المملّح" لحامل "القلم" و "الكتاب" و "أختام" رئاسة الحكومة.
تسارعت الجهود للحدّ من تفاقم السجال و رست التهدئة على "فتوى" "القلم و الكتاب مفيدان و السكّين لإسرائيل فقط".
لقد لفتت الإنتباه حدّة هذه الهبّة و بدت كأنّها تأكيد لنيّة فرط عقد مجلس الوزراء و إيذان بتغيير يروّج له لتسهيل قطع "حبل السرّة" مع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
ليس مستغرباً أن يظنّ من نخر نفوذه حرمات القضاء الوطني أيام عهد "الوصاية الطاغية" أن يعتبر أنّ القضاء الدولي قابل للإختراق و الإلغاء.
لكنّ القضاة الدوليّين ليسوا رهائن حكم مخابراتي يحرف بعضهم عن مسار العدالة، بل نخبة حرّة الضمير من متفوّقي الكفاءات و مرموقي الميّزات يلتزمون أدقّ معايير العلم و الفقه و الحنكة و الفطنة و الموضوعية التي ستتجلّى و تثبت خلال ممارستهم مهامّهم و في حصيلة مطالعاتهم.
و هم ليسوا هواة إلتقاط ترّهات و جمع إشاعات و إصغاء إلى خرافات و لا هم حائكو أساطير، فلا تستوقفهم أو تبدّد إنتباههم أو تشرّد أذهانهم روايات مزوّرة.
بل هم علماء تنقيب عن الحقيقة المنطقيّة، يجمعون و يرصفون أجزاءها المتلائمة ليصبّوها على هيكل متين من الأدلّة الدامغة، لذا ما زال المدّعي العام دانييل بلمار يخصّب و يمتّن و يسند "فاعليّة الدليل".
و هو لم ينتقل من مهمّة رئاسة لجنة التحقيق الدوليّة إلى موقعه الحالي إلاّ بعد تراكم كمّيّة هائلة من الدلائل و الإثباتات و الوثائق، جعله التمحيص بها و فرزها و ربط حلقاتها و التوسع بشعابها واثقاً من القدرة على كشف شبكاتها كما أكّد مراراً.
الفتنة ليست في صلب عمل المحكمة الواضحة الهدف بل هي كامنة في ذهن و غرائز الذين يهددون بإثارتها أو نشوبها و ب"دقّ الأعناق" و إمتشاق السلاح.
الهيجان المحموم لن يغيّر المعطيات و الدلائل و الإثباتات و "البصمات" و "فحوى" المكالمات الهاتفية "السرّية" التي أحاطت بعملية الإغتيال.
بل المقصود منه إثارة إعصار من الترهيب يُتوخّى منه حصار و إكتساح و شفط بقيّة مصادر السلطات و "إجتثاث" المحكمة و قضّ مضاجع اللبنانيين و إستنفاد صبرهم و إستهلاك صمودهم و إستسلامهم لليأس و تهجيرهم من وطنهم.
إنّ تجريد اللبنانيين من حريّة قرارهم و سيادتهم و رفاههم و حقوقهم و ممتلكاتهم و إقتلاعهم من جذورهم لقذفهم في لجّة دوّامة القلق و التشرّد و العوز هو أفظع أساليب القتل الجماعي.
حقّ المواطن البديهي في العيش بأمان موفور الكرامة حرّ الإرادة و سيّد القرار، بات حاجة ملحّة برزت من غمرة الإغفال و وطأة قهر السلاح فارضةً على المهتمّين بأمره إيجاد سبيل لإعتاقه من أسره الطويل رهينة لِعبث و فورات المنقلبين على النظام.
هذه القضيّة الحيويّة ترتبط بهيبة الدولة التي يعوّل عليها غالبية المواطنين لحمايتهم و رعاية مصالحهم و ينخرطون بشغف في خدمتها و توطيد صروحها.
لكنّ الجهود البنّاءة يجهضها معاكسة الإنقلابيّين الذين يعملون على إسقاط كيان الوطن من مرتبة دولة مدنيّة ديمقراطيّة، مكتملة السلطات و المؤسسات و عريقة الحضارة و خلاّقة الدور و متميّزة الحضور و الشراكة إلى جانب بقيّة الدول، لينحطّوا به إلى درك ولاية مسلوبة السيادة يتحكّم بها رعاتهم الإقليميّون.
لذلك نرى هذه الأذرع منكبّةً على خنق مؤسسات الدولة بالقوّة و الفرض و على توسّع "الإنتشار" و إحباط النهوض و إجهاض الإنتعاش الإقتصادي تحت ذرائع متنوّعة محورها التصدّي لإسرائيل و ضعف إمكانات الدولة الدفاعية.
هذا النفوذ المعيق حفره و جهّزه و مدّه بالسلاح و المال و الدعم التنظيمي و اللوجستي المحور الإيراني-السوري ليغتصب السيادة بإغتصاب ولاء معتنقي خليط مذاهبه و عقائده.
إقتناء السلاح خارج كنف و إمرة الدولة ينهش سلطاتها و يغتصب إرادة المتمسكين بمؤسساتها و يفتح الثغرات لرعاة الإنقلاب كي يتدخّلوا و يديروا شؤون الوطن حسب مقتضيات مصالحهم.
و هؤلاء يصرّحون بإعتزاز أنّ "فرسانهم" في لبنان و فلسطين و العراق هم طلائع جبهة الصدم في مواجهة أعدائهم، فيما هم "يخوضون حروبهم المباشرة" بالخطب الناريّة و المحادثات الدبلوماسيّة يحصدون بنتيجتها عقوبات إقتصادية و مالية و حظراً للتكنولوجيا و أحياناً مكاسب، أما "خوضها" عندنا فيكون بالنار و الدمار و الضحايا.
إنّ مزعزعي النظام اللبناني و محركّي جبهة التماس اللبنانيّة عن بعد يقبعون آمنين داخل حدودهم و يسترون عوراتهم و يبتزّون المكاسب على حساب ويلات اللبنانيين.
يسوّقون أنظمتهم الشمولية القمعية كبديل "مستقرّ" للنظام اللبناني الديمقراطي "المهتزّ" ب"شفاعتهم" و يحاولون طمس مسئولية إحتلال أراضي شبعا و كفرشوبا التي كانت خاضعة للسيادة السورية لمّا إحتلّتها إسرائيل مع الجولان (لقد تكرّم مشكوراً وزير الخارجية السوري مرّة بالقول أنّه سيعيدها إلى لبنان بعد إسترجاعها مع الجولان عبر المفاوضات مع إسرائيل).
مشكلة "التوجّس" من مستبطني "التقيّة" تتجسّد في خطورة التحرّكات الميدانية و تقييد حركة ممارسة السلطات الشرعيّة و خنق الدورة الإقتصادية و إعاقة مشاريع التنمية.
الولاء الوطني و العدالة هما مطهر و مصهر أمّا تخطّيهما قهراً فيوصل إلى جحيم.
محكّ الصدق في بناء قدرات الوطن الدفاعيّة هو تجيير كل الإمكانات العسكرية لصالح و لقرار الدولة الجامع.
الدفاع عن الوطن في الملمّات واجب يمليه الضمير الحيّ و يلبّي نداءه كلّ مواطن مخلص، لكنّ الخلاف حول الإستراتيجية الدفاعية هو أرجحيّة المرجعيّة المفروضة من الواقع الميداني، فيما المتفق عليه هو حصرية مرجعية الدولة الواردة في البيان الوزاري و هي المبدأ المعهود في النظام الديمقراطي.
كما انّ المتّفق عليه في إتّفاق الدوحة عدم إستخدام السلاح و العنف لفرض تغييرات سياسيّة.
الشأن الدفاعي ليس المطلب الوحيد المحقّ الذي يُستغلّ لِمَرامٍ خاصة و هي هيمنة فئوية مجيّرة، فهناك شعار دعم القضيّة الفلسطينيّة و رفض التوطين (الحاظي بإجماع عليه و ذكر في متن الدستور، أمّا الجدّية في منعه تبدأ بخطوة تمهيديّة توصل إلى الضفة الغربية و غزة) اللذين يبطّنان إدامة النزاع عبر جهوزيّة جبهتي لبنان و غزّة و "تيقّظ" العين الساهرة على جبهة الجولان و إمداد الترسانة الإيرانيّة.
إشاعة أجواء الإستنفار تبغي إستقطاب الجماهير المشحونة تأييداً لأصحاب و مدّعيّ الخيارات العسكرية و تأليباً على المراهنين على المسارات التفاوضية.
لقد إستفاد أولائك من تعثّر المفاوضات السابقة لتدعيم حجّتهم، و نعوا مسبقاً المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية المباشرة التي أطلقها بالأمس الرئيس الأميركي باراك أوباما.
التحدّي هائل، لكن إذا صفت النيّات و إستُخلصت الدروس و إستُقيت العبر من مداولات جولات التفاوض السابقة لهان تسديد المباحثات الجديدة نحو بلوغ حلول منصفة، فيُسفّه الموتورون و يُدحض تحريض مولّدي الإرهاب السافر و المقنّع، و تُستأصل مصادر تمويل الجزّارين أو تجفّف مؤنها و يسود صوت الحكمة و إحترام القيم الإنسانيّة.
الرئيس أوباما متحمّس لحلّ هذه المشكلة التي إستعصى فكّ عِقدها على مدى عقود إستولدت خلالها حروباً قاسية فادحة الخسائر و تشعّب ضخّ شحنها و إعتصرت أنواؤها شعوباً عديدة. لذا ممنوع الفشل لإنّه كارثة شاملة الأذى يجب تفادي حصولها.
و لا بدّ لفريقي التفاوض من الإعتبار من مرارة المآسي و التبصّر في تفاقم عواقب التعنّت و الجموح و إدراك أهميّة و فوائد السلام فيبنيا صرحه بالتعاون مع الرئيس أوباما و يتكرّس بذلك ذكر إسمه و إيّاهما كصنّاع سلام تاريخي و يكون وفّى قسطه للعلا و وفى رصيد جائزة نوبل للسلام الذي "سُلّف" إليه تيمّناً بتوقه إلى و دأبه على إحلال السلام في العالم.
بورك زارعو الخير و التسامح و الوئام و السلام و نجّى الله البشر من شرور المستبدّين و تضليل المشعوذين و جموح المجنونين و ذلّ المتزلّفين هادياً إيّاهم إلى السراط المستقيم.
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية