١١.٥.٠٧

"لا تفسخوا الصبي!"

حميد عواد*

فصول درب جلجلة اللبنانيين كثرت و تجاوزت آلامها طاقة الإحتمال البشري. فلماذا كلما ختم فصل فتح المتكنّون ب"مارس"-إله الحرب- فصلاً جديداً من الضيق، يختصر فسحة إلتقاطهم الأنفاس. عملية الخنق هذه تنسق مع بقية "رعايا" و "وكلاء" النظام السوري، و تشفع بإبتهالات طالبي "اللجوء الذمي" الذين سبب لهم سراب العطش إلى السلطة حالة من الإنفصام و الزندقة السياسية. أشبال "الباسدران" يضغطون على اللبنانيين لفرض نهجهم دون هوادة، و لا يوفرون فرصة للتهويل بشدة بأسهم و إثبات رشاقتهم القتالية و لو كان الثمن باهظاً. فالمهم و المجدي، في عرف قادتهم، ليس هناء اللبنانيين بعيشهم، بل تسهيل إمساك "ولي أمرهم" بأزمّة الصراع مع إسرائيل ميدانياً و إيقاد النزاع إشباعاً لظمإ جماهير متعطشة لكسر شوكتها. فبذلك تعزز إيران موقعها شعبياً على الصعيد الإقليمي و تفاوضياً على الصعيد الدولي، خاصة و أن رفضها للقيود الدولية الآيلة إلى منعها من تخصيب اليورانيوم في أجهزتها الخاصة للطرد المركزي يكاد يشعل حرباً. و كي لا يفلت زمام الأمور أستعادت المملكة العربية السعودية المبادرة و رعت اتفاقاً بين طرفي الصراع في السلطة الفلسطينية و إعادت طرح "المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل"، التي سبق و عرضها ولي العهد سابقاً و الملك حالياً عبد الله بن عبد العزيز في القمة العربية التي عقدت في بيروت سنة 2002 ، كما بذلت جهوداً حثيثة لتحفيز الوئام بين اللبنانيين و الإهتداء إلى سبيل الخروج من المأزق السائد. إفتعل هذا المأزق الفريق إياه الذي بقي على سابق عهده في تبادل الخدمات و الدعم مع النظام السوري إضافة إلى إلتزامه المطلق ب"مشورة" الولي الفقيه في إيران. و ذلك معاكسة للمساعي و القرارات الدولية التي تحصن الحرية و الديمقراطية في لبنان و تعضد أبناءه في صون حقوقهم و حماية سيادتهم و استقلالهم. و اللافت أن لبنان أصبح في معادلة "الدمج" الإيرانية الراهنة "العضو المريض" من "الجسم الواحد" مع إيران، إضافة إلى إعتباره "الإقليم المسلوخ" عن "معسكر النظام السوري" بمنظار أركان هذا الأخير. لذا إن لم يكبح "جموح" التحالف الإيراني السوري لن "يُترك" للبنانيين "مرقد عنزة" في وطنهم. و لتسريع عملية "هضم" لبنان، تتواتر عوامل إرهاق كاهل أهله بأعباء هائلة تمهّد لتجريدهم من أرضهم أو سلخهم عنها و غصبهم على الهجرة تاركين وراءهم أرضاً سائبة و إخوة مهيضي الجناح يسهل إفتراسهم. ضمن هذا المخطط تبرز معالم تركيز بنية دويلة "فئوية" مكتملة المؤسسات و "المؤن"، ذات سلطة و قوات "ذاتية" مدججة بالسلاح و مزودة بشبكة مخابرات و اتصالات و أجهزة تنصت خاصة بها، صبّها و قولبها النظام الإيراني في قلب لبنان لتنازع و تقرض سلطات دولته من داخلها و خارجها. و يبلغ إعتداد القيمين عليها درجة يتحدّون معها من يناقض أهدافهم و مسلكهم، و يتوعدونه بالويل و الثبور و عظائم الأمور إن ألحّ على إعتراضهم. و يوحون لمن يدعوهم إلى التماهي في بوتقة الدولة الجامعة أن إنحلال هذه في دولتهم الفئوية هو أهون السبل لإستتباب "الإستقرار". و إنطلاقاً من هذه الذهنية، عندما يدعون للمشاركة في السلطة يتبين أنهم يقصدون إستكمال الإستئثار بها. و عندما يدعون للتوافق فإنما يعنون الإذعان لمشيئتهم. و عندما يؤيدون أمراً ما في المبدأ فإنما يؤشرون إلى عقد النية على تفريغه من المضمون. و عندما يتكلمون عن تغير المعطيات يريدون التنصل من الإلتزامات السابقة. و عندما يلهجون بمطلب إعادة تشكيل السلطة فإنما يقصدون الإنقلاب عليها. و عندما يدعون للتحرير ( المفتوح الآفاق ) يقصدون الكفاح المسلح لا الدبلوماسية المحللة فقط للتفاوض على أراضي حليفهم النظام السوري، و يغدو كل ما يمسونه "مقدساً" ( بقدر ما تقدس إسم "أبي عمّار" خلال تسلطنه على أجزاء من لبنان ). و كأن مشروع تحريرهم يمر عبر، كيلا نقول يتوقف عند، "جلاء" آخر لبناني بارّ "رسولي" أعياه الإرتطام بحائط الفرز "الفئوي" فحمل رضوضه إلى بيئة وديعة آمنة ليبلسم جراحه و يتعافى. و إمعاناً في الترهيب هناك حرص على إبقاء كابوس الإغتيالات ماثلاً في أذهان اللبنانيين عبر عرقلة تشكيل و تجويف المحكمة الدولية الطابع المزمع إنشاؤها لمحاكمة المتهمين في الضلوع في جريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري و صحبه، حماية لرؤوس شبكة الإغتيال و عملائها. هذا "الردع الترويعي" هو إنعكاس لذعر أركان النظام السوري من المضي في إقامة المحكمة. و سلوك التطير الخطر يتمثل في:
1) الإستجارة بروسيا و الصين لتعديل نظام المحكمة للحد من صلاحياتها داخل مجلس الأمن الدولي.
2) حشد الحلفاء في لبنان لنسف تشكيلها.

3) توكيل مكتب محاماة دولي مهمة "إستقراء" و تحليل تقارير المحققين الدوليين ديتلف ميليس و سرج برامرتس.
4) ترويع و زعزعة الإستقرار داخل لبنان بإستثارة الفتن، تذكرنا بتهديد "رئاسي" شهير.
5) إبداء استعدادات "طيبة" لتأدية "خدمات" علنية و سرية للمجتمع الدولي، إضافة إلى سعي شغوف للتفاوض مع إسرائيل، مهّدت له لقاءات سرية لتعلن بعدها عروض "لافتة" حملها وسيط (إبراهيم سليمان) و طرحها داخل الكنيست الإسرائيلي.

تحت شعار الخوف من تسييس المحكمة، يعيق النظام السوري و حلفاؤه في لبنان قيامها من خلال "بتر" الحكومة، ليعتبروها غير شرعية فيعيبوا قراراتها، و عبر "نفي" المجلس النيابي ( و ربما "كتعه" لاحقاً) بمنع إنعقاده كي لا يقرّها. لذا أعيدت إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة لإجراء المقتضى، مشفوعة بموافقة خطية وقعها سبعون نائباً أوصد باب المجلس في وجههم فيما مشروعا الموازنة و تشكيل المجلس الدستوري و ما ينيف عن 150 مشروع قانون حيوي، منها ما يرتبط بتنفيذ إلتزامات باريس 3، تنتظر "عطوفة" رئيس المجلس لوضعها في متناول المناقشة لبتها. و بما أن تشكيل المحكمة أصبح في عهدة مجلس الأمن خارج دائرة الإبتزاز و الإستنزاف رفعت نسبة المقاعد المقترحة على المعارضة للمشاركة في الحكومة العتيدة (17-13) شرط التوافق المسبق على برنامج عملها. لكن الرد جاء بنكران النقاط السبع التي صيغت بإجماع أعضاء الحكومة و التي عدلت على أساسها مسودة القرار الدولي 1701. في هذا الجو المحموم تتقلب "الأمزجة" و معها التصريحات: ما أن تطلق دعوات إلى الحوار حتى يبدد آمالها الإلغاء أو التصعيد. وتعلو صيحات تنادي بإنتخابات نيابية مبكرة مرعية بقانون يضمن أمانة التمثيل ( يتلهف إلى إجرائها من يظن أنه سيحصد الأكثرية) و يستعر وطيس النقاش عن "جنس ملائكة" الرئاسة، فيما همّ "أمّ الصبي" هو بقاء الجمهورية!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية