٢٩.١٢.٠٧

كفى إبتزازاً لأهل الوطن /عزيزان: الرهينة و الفدية

حميد عواد*

ليت الأمانة لسرية و مقتضيات مهمات المحقق الدولي سرج برامرتس سمحت له بالجهر بهوية عصابة الإجرام ( الذاعة الصيت على ألسنة قادة الدول الكبرى المضطلعين، إضافة إلى اللبنانيين الملمّين بالوقائع و الأدلة ) لتُفضح و تُدان، حينما حذرنا من غدرها في سياق تقريره الأخير، قبل أن تتمكن من إغتيال العميد الركن فرنسوا الحاج الذي استشهد و سائقه الرقيب أول خيرالله هدوان، مضيفَين إلى "مهر" الشهادة المبذول في سبيل العزّة و الإستقلال رصيداً نفيساً.
لقد سجّل هذا الضابط المغوار، خلال الدفاع عن الوطن و حماية أمن اهله، مآثر مشرّفة مضمّخة بدماء التضحية و ممهورة بعرابين الوفاء، و أدار بكفاءة عالية و نجاح عظيم عمليات جيشنا الباسل الذي دوّن ملحمة أُسطورية خلال مواجهة شراذم الإرهاب في "نهر البارد"، المصدّرة إلينا من شرقي الحدود.
فيما مهّد سجلّ العميد الركن فرنسوا الحاج إستحقاق خلافة قائد الجيش العماد ميشال سليمان المنذور لتسلّم سدّة الرئاسة، كمن له محترفو الغدر و الإجرام بُعيد منزله و فجّروا حقد آمريهم في سيارة مفخّخة، فإختصروا سيرته المجلية و أفجعوا أهله و أبناء بلدته و الجيش و الوطن بفقدان بطل ميمون، في الذكرى السنوية الثانية لإغتيالهم قائداً مقداماً و خطيباً ملهماً من قادة "ثورة الأرز" شهيد الحرية و العنفوان الوطني "ديك النهار" المدوّي صياحه في ضمائرنا جبران التويني.
شهداء الوطن الأبرار و أبناؤه الشرفاء يستحقون التطويب كقدّيسين لعظمة تضحياتهم و جلل إبائهم و مهابة صبرهم و قوة شكيمتهم و عمق إيمانهم و سُمُوّ تفانيهم.
فوفاءً بِغَيض من فيض عطائهم وجب الإسراع بإعلان مضبطة إتهام عصابات القتل و شبكات الإجرام المترابطة و سوقهم من اوكارهم و معاقلهم إلى المحكمة الدولية المعدّة خصّيصاً لمحاكمتهم، فيسلم اللبنانيون من شرورهم وينطلقوا بزخم مضطرد في تدعيم ركائز الديمقراطية و السيادة و الإستقلال و إكمال ترميم المؤسسات و إصلاح الإدارات و تنظيم القضاء و فصل السلطات في الجمهورية اللبنانية.
لكن للأسف الشديد إن الذين يعيقون و يحبطون مساعي ترسيخ أُسس الدولة ببتر بعض مؤسساتها و تعطيل ممارسة مهام حيوية لبعضها الآخر و إثارة البلبلة و الشغب و التهديد على إيقاع قرقعة السلاح، يفتحون الدرب واسعة أمام حملة السلاح غير الشرعي و يؤمنون الغطاء للعمل الإجرامي المنظم الممعن في تصفية نخب قيادية من الرعيل الإستقلالي المعاصر.
إن الفصيل الأساسي من الفريق الإنقلابي قد سلخ "رعاياه" عن بقية إخوانهم في المجتمع الوطني كما إقتطع حيزه الجغرافي من أرض الوطن وبنى مؤسساته الخاصة و قواه المسلحة و شبكات إتصالاته بمعزل عن سلطة الدولة لكن مستفيداً من خدماتها و ممولآً و " مرتشداً" من أركان النظام الإيراني الذين شكّلوه و رعوه ليقيم في لبنان حكماً تابعاً لفتاوى فقيههم، عند بلوغ تضخم خلاياه البشرية نسبة تقزّم بقية شرائح الوطن.
يوماً بعد يوم يتّضح أن ولاء حلفاء النظامين السوري و الإيراني داخل لبنان هو مرتبط بمصالح "العرّابين" اللذين يجعلان من لبنان متراساً متقدماً لحروبهما العبثية و ورقة إبتزاز للتفاوض عليها مع المجتمع الدولي الذي فتح أقنية الحوار لمصلحة لبنان و رفض التفاوض على حسابه، رغم إلحاح "متمرّدي" الداخل على" إشباع" شهوات سوريا و إيران على "ولائم شهية" تقدَّم من الدول العربية و الغربية إلى سوريا و إيران (طرح معادلات": سعودية/أمريكا/فرنسا/أوروبا>>>سوريا/إيران).
النظام الإيراني و ملحقه السوري يمارسان "تكسير مزاريب العين" و استعراضات القوة و إستنفار الحلفاء و إنشاء خلايا تكفيرية موتورة داخل الدول العربية و خارجها تقوم بزرع القلاقل و زعزعة الإستقرار (راجع حديث عادل الأسدي القنصل الإيراني السابق في دبي عن "خلايا نائمة" في دول الخليج http://www.alarabiya.net/articles/2007/10/30/41005.html). لقد سربت وسائل الإعلام الإسبانية أنباء عن تحذير وجهه أحد أركان النظام السوري إلى السلطات الإسبانية من مغبّة تسليم تاجر السلاح السوري منذر الكسار، المعتقل في إسبانيا، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، و هو الذي "صدف" الإعتداء على الكتيبة الإسبانية (24 حزيران 2007) في جنوب لبنان غداة إعتقاله. إن مثابرة الثنائي الإيراني-السوري على "التسرّب" و بسط و ترسيخ نفوذهما في دول المنطقة مراهنين على استنفاد صمود المجتمع الدولي في التصدي لأطماعهما يشكّل تحدياً ساخراً يوجب معالجته بصرامة و حسم.
و ما سلوك المسلسين لأوامرهما إلا نسخة عن نهجيهما: حاور و ناور، عِدْ و راوغ، خذ و طالب، قبّح مزايا الآخرين و جمّل عيوبك، تمسكن و ابطش، إطلب الرأفة و افجر، تظلّم و اظلم، جوّع الناس و خُض معركة إطعامهم، عزّز الأذلاء و اقمع الأحرار، إدعم الجهلة و اقصِ المثقفين، أطلق السفاحين و اسجن المفكرين, إرتكب المنكر و انسبه إلى خصمك، نادِ بالسلام و مارس العنف، اغتصب حقوق الغير و طالب بالإنصاف، تطمّع و تعفّف، كرّس إرادتك قدراً لا مردّ له، إصقل شهوتك للسلطة لتبدو مشتهىً وطنياً و قومياً، أضمر الغلبة و اظهر المساواة، فرّق و سُدْ، قسّم و إدّعِ التوحيد.
لذلك ليس غريباً تطابق مواقف التابع و المتبوع أو تكاملها. فنغمة "تطيير" إستحقاق إنتخاب رئيس للجمهورية سمعناها قبل فوات المهلة الدستورية، إذ أكّدها لنا مرتبطون بالمخابرات السورية، قبل التصريح بها لاحقاً من مسؤولين سوريين، و حكوا عن البحث فيها خلال شهر آذار المقبل (ربما خلال موعد القمة العربية ليبتزّ النظام السوري موافقة عربية لإعادة ترسيخ نفوذه في لبنان؟! أم ليستشعر أجواء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لجسّ نبض مقايضة الأمان؟! أم أملاً بإنصراف إهتمام الإدارة الأميركية عن قضايا الشرق الأوسط لصبّها نحو الإعداد لمعركة الرئاسة في أمريكا فيسهل الإستفراد بلبنان؟!).
إن حراك المعارضة في لبنان ما هو إلاّ عوارض التدخل الإيراني-السوري في شؤونه.
و الناس تتساءل: كيف تثق هذه المعارضة بالعماد ميشال سليمان و تؤيّد وصوله إلى سدّة الرئاسة فيما هي ترهن عقد جلسة الإنتخاب بالإستجابة إلى شروط تختص بتشكيل الحكومة و خطّتها (البيان الوزاري) و بتعيين قائد للجيش و مسؤولين أمنيين؟
و ما كانت الحاجة إلى شرط تسمية قائد الجيش طالما كان الخليفة المؤهل لهذا المنصب الشهيد العميد الركن فرنسوا الحاج؟
لكن يبدو أن المأمول هو تضييق نطاق الردع الأمني لأي شغب ميداني يدغدغ احلام الرؤوس الحامية.

يجب أن يدرك المشاكسون أنهم ساهموا بحرمان اللبنانيين من شخصيات فذّة إمتدت إليها يد الغدر و أساؤوا إلى ذكراهم و خانوا أمانيهم، كما حرموهم من نعمة بديهية طال توقهم إليها وهي الإستقرار و الطمأنينة، و حرموهم من خيرة أبنائهم الذين يغادرونهم سعياً وراء عيش كريم و مورد رزق، و حرموهم من فورة إقتصادية توفرها لهم توظيفات فائض أسعار النفط وقد ذكرنا بها مع أسف و مرارة العديد من مسؤولي دول الخليج.
ليكن مفهوماً أن لا شرعية و لا مصداقية لأي مطلب يُرفع كحائل يعيق نهضة الوطن و كحبل يلتفّ حول أعناق أبنائه.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٣.١٢.٠٧

المشعل و البندقية

حميد عواد*


بمكوناتنا المادية و العقلية و الشعورية و التفاعلية، نغتذي من كل بيئة نلجها، فنتأثر بها و نؤثر فيها على قدر تفاعلنا في بوتقتها.
نتدرج في إستقاء المعرفة و إجراء الإختبارات و فهم العلاقات و كشف الأدوار و إستخلاص النتائج و صوغ القواعد و التمرس في التطبيق إكتساباً للمهارات و تحفّزاً لإستنباط المستجدات و إستيلاد الإبداع.
نحكّ معدن الأشياء و نصقل جوهر القضايا، فنفرز الجيد عن العائب برؤية ثاقبة و منطق ناقد، و نُخضع الأحكام لمعايير النزاهة و ألإنصاف و العدالة الرفيقة لإثبات الحق و لنشر المحبة و الإلفة و الخير.
عسى لو يتوفر لكل إنسان عناية عطوفة و تربية خصبة توسّع نطاق معرفته و تنشط فضوله و تنمّي طاقاته.
متى نضجت شخصية المرء، لا حاجة إلى رادع خارجي لضمان سلامة السلوك، فضميره الحي و قيمه الأخلاقية وعقله المتوقد و الراجح كفيلة بإرشاده إلى جادة الصواب.
و لو قُيض لكل إنسان أن يثمّر طاقاته الخيّرة بعيداً عن لجج الجهل و غرائز التعصب و شهوات الإستئثار بالسلطة، و بمأمن عن هذيان "التأله" و أوهام التبرّك بأمجاد حروب "مقدسة"، لكان بالإمكان تفادي النزاعات و الحروب و إنقاذ الكثير من الأرواح و توفير التكاليف الباهظة لتخصيصها للإنماء و الإعمار و الإرتقاء و الرفاهية.
فيما تتركز أنظارنا على الوطن المطعون بحراب الخارج و الداخل، و المحتقن بأجواء الحرد السياسي المشبوه و المترنح تحت وطأة أعباء التعطيل الإقتصادي و التهديد الأمني، يطالعنا سرب من المشاغبين تعتعهم سكر نرجسي، يستقطرون و يستسقون الخمر من عصارة معاناة أللبنانيين فتقشعرّ لعربدتهم الأبدان، و ينتشون بنوبات "العظمة" منشدين قول "الأخطل":

"إذا ما نديمي علّني ثم علّني ثلاث زجاجات لهن هدير
خرجت أجرّ الذيل زهواً كأنني عليك أمير المؤنين أمير"

و قول "المتنبي":

"أي محل أرتقي أي عظيم أتّقي
و كل ما قد خلق الله و ما لم يخلق
محتقر في همّتي كشعرة في مفرقي"

أنظار المعنيين بمستقبل لبنان من أبنائه و أصدقائه تلاحق عقارب الساعة فيما تسابق دورانها جهود حثيثة لمنع زرع الألغام في درب إنتخاب رئيس للجمهورية و تأمين إنجازه في أقصر المهل بعد تعذر إجرائه قبل نفاد المهلة الدستورية.
أبناء العنفوان و العزة الوطنية حريصون على تكملة مسيرة الخلاص من الطغيان التي إكتسبت زخماً و بلغت ذروتها في 14 آذار 2005، شاقة درب الإنعتاق من الكبت و القهر للإنتعاش بنسائم الحرية و الديمقراطية و السيادة و الإستقلال المحيية للبنان، يسعون جاهدين إلى تأمين حصول عملية إنتخاب رئيس للجمهورية في سياق ديموقراطي.
فيما الفريق المناوئ الذي تكدّر و إكتأب لإنسحاب جيش النظام السوري، عبّر عن تعلّقه بهذا "السند" بتنظيم تظاهرة في 8 آذار 2005، و هو اليوم يعمل جاهداً مع حلفائه للضغظ على الفرقاء الرافضين للتبعية للقبول برئيس يؤمن الغطاء لهيمنة المحور السوري- الإيراني بشروط يحاول فرضها حزب مسلّح مزدوج الطبيعة، إقتطع حيّزاً جغرافياً لسلطانه، نظّمه و أداره طبقاً لعقيدته بمنأى عن سلطة الدولة فجفل من محيطه الكثيرون من المواطنين المستهجنين و المتوجسين هاجرين ديارهم بدافع القلق.
لعبة المعارضة ظاهرها تحصيل حصص تغرر ببعض الحلفاء و باطنها إطباق على الوطن بكامله. ظاهرها "تصحيح" التمثيل و باطنها إحباط نهوض الدولة الديمقراطية المدنية. ظاهرها دعم الحلفاء و باطنها التلطي بهم و خطفهم أسرى. ظاهرها الشكوى من الغبن و باطنها "خذ و طالب".
و لم يعد سراً الدفع بإتجاه إلغاء "إتفاق الطائف" بضرب "الحديد حامياً" قبل أن يبرد.
في اللعبة الراهنة يتوسلون بدعة ما عرفها لبنان في إنتخابات رئاسية سابقة هي تهريب "النصاب" الذي إن صحّ في إحباط إقرار مسألة عادية، فهو لا يجوز في عملية محورية هي إنتخاب رئيس للجمهورية.
و بما أن المجلس النيابي تحول إلى هيئة إنتخابية، تقتصر مهمة أعضائه على إنتخاب رئيس بلا تلكؤ عن القيام بواجب المشاركة، يعتبر التقاعس عن القيام بهذه المسؤولية الملحّة إفتعالاً لحالة إنقلابية على الدستور و الجمهورية و خيانة لأمانة التمثيل، تجعل مقاطعة الثلث زائد واحد من أعضاء المجلس النيابي حائلاً دون إنتخاب جوهري لإنسياب و تكامل السلطات، فيما يكفي حيازة المرشح نسبة النصف زائد واحد في الدورة الثانية ليعتبر ناجحاً!
إن التهرب من المشاركة في أسمى مهام المجلس النيابي هو بمثابة إعتزال المحارب من ساحة المعركة.
إن فريق التبعية للمحور السوري-الإيراني يفاوض بشروط راعييه و بتهويل السلاح تحت ستار التوافق و مواجهة الوصاية الدولية (و هي في الواقع الرعاية و الدعم و الحماية الدولية التي يهم تحالف جبهة التصدي لأحكام القرارات الدولية 1559 و 1701 و1757 عزل لبنان عنها ليسهل الإستفراد به).
اما الفريق الإستقلالي فيواجه هذا الهجوم بتروٍّ و حكمة يحوزان بدعم دولي واسع النطاق.
منذ سنة 2004 و حتى الآن حظي لبنان بإحتضان دولي لم يكلّ، فيما المحور السوري-الإيراني يراهن على إثباط العزائم بإختلاق سلسلة نزاعات و عقد و مطبّات تعيق نهوض الدولة و تسهّل إطباقه (عبر "فرسانه" المحليين)على وطن الأرز لخنق حرية القرار و زهق نبضات الديمقراطية و سحق عنفوان السيادة و محق مقومات الإستقلال و الحضارة و الحداثة.
تحت ذرائع حماية عوامل المنعة و التصدي لمشروع "هيمنة أمريكية" و مواجهة إسرائيل، يستنفر حلف النظامين الإيراني و السوري أتباعه في لبنان للإستفراد بهذا الوطن و الإنقضاض على تياراته السيادية، بإفتعال حالات فوضوية و إعتداءات إرهابية و إنشقاقات سياسية و إستنزافات إقتصادية و ترهيب نفسي إعلامي مسنود إلى "رهبة" التلويح بالسلاح.
و ها هم يروجون ل"إقتراب لبنان من حرب أهلية" و يتوقعون "حصول كارثة" في سياق الضغط بإتجاه فرض رئيس للجمهورية يخضع لشروطهم التعجيزية و "يحمي السلاح" من المطالبة بوضعه في الموقع الطبيعي تحت إمرة الدولة.
في غمرة التجاذبات أُجهضت مبادرة خيّرة خلّفت مرارة عند مرجع كلّي الطوبى إضطر إلى رعايتها فأصدر توضيحاً وضع الأمور في نصابها. و منعاً للمراوحة في الفراغ بادر فريق 14 آذار، من باب الحرص على تأمين مناخ وفاقي في عملية إنتخاب رئيس للجمهورية، إلى تزكية قائد الجيش الحالي لهذا المنصب، نظراً إلى حظوته بدعم كل الفرقاء، تقديراً للنجاح الذي أحرزه الجيش في إجتثاث المجموعة الإرهابية من مخيم نهر البارد و في مهام أمنية أخرى، رغم أنه يتطلب إجتهاداً دستورياً قيصرياً لتسويغه.
و كم كنا نتمنى لو يتخلى قاطر المعارضة عن مشروع إسقاط الدولة أو جعلها مسخاً ينازعها صلاحياتها، لكن الدلائل و المطالب لا تشجع.
و طالما بقي المحور الإيراني-السوري ممسكاً بلاعبيه في لبنان و أختزن ذخيرة من حرية الحركة فسيتحول الإستحقاق الرئاسي كطابة غولف تقذف من محطة إلى أخرى حسب المخطط المرسوم لخدمة مصالحه.
ألمطلوب إستنفار كل الطاقات الخيرة لإعادة الرشد لمن أضاعه و لتقويم هذا الوضع الشاذ، ليسهل إستئناف مسيرة الحرية و السيادة و الإستقلال و الإستقرار و الإزدهار.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١٥.١١.٠٧

نصّ الخطاب الذي ألقيته في إحتفال نظمته الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم

بدءاً أودّ أن أعرب عن تقديري لمعدّي هذا اللقاء من مسؤولي و أعضاء المؤسسات المنضوية تحت جناح الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم-فرع تورنتو، بوركت باكورة نشاطاتكم في الحلّة الجديدة.

كما أوجه شكري لكم جميعاً أيها الحاضرون الكرام على إستعدادكم للإستماع إلى خطب هذه المناسبة، فالإصغاء للكلام و لو كان بليغاً صعب فيما الإنتباه و الترقب مسلّطان على الوطن التوّاق إلى التعافي من الجراح و الوثاب إلى النهوض من الكبوات تحت وطأة ضغوط مضنية و في ظل إستحقاق رئاسي مداهم محفوف بالتعقيدات، نأمل أن يتمخض عن إنتخاب رئيس للجمهورية إستثنائي المزايا حكيم موثوق، بارع في التواصل و حازم في القرار و أمين على ودائع الشهداء و حريص على إكمال منجزات "ثورة الأرز" و تطبيق القرارات الموثقة في محاضر جلسات الحوار و في القرارات الدولية التي واكبتها.

لأن كل لبناني بارّ مفطور على نفحات الحرية و العنفوان و حب الوطن و لأن قوة الشكيمة متأصلة في طبيعتنا، ترانا نجسد أسطورة إنبعاث "طائر الفينيق" فنشرئبّ من عصف الإغتيال و ننتفض من بين أنقاض القصف و نثور على التنكيل و القمع و الإستبداد و الإجرام.

درب جلجلة مفخخة بالألغام و الكمائن و الغدر و مضرجة بدماء الشهداء الجبابرة عبرناها و توّجناها ب"ثورة الأرز" المجيدة، فتوثقت بمعمودية الشهادة العظمى عرى الوحدة الوطنية و تغلّبت إرادة الحياة العزيزة التي لا تنفصم عن سيادة وطنية ناجزة و إستقلال راسخ غير مخروق.

الإنعتاق من براثن الوحوش الضارية، و لو مثخنين بالجراح، كان ثمرة تنسيق جهود مشتركة بين اللبنانيين في المقلبين المقيم و المغترب، إذ هبّ اللبنانيون في المغتربات لنجدة أهلهم المنتفضين داخل الوطن على مغتصبيهم و نجحوا في كسب عطف و تأييد و دعم المجتمع الدولي الذي تبلور سلسلة قرارات صدرت عن مجلس الأمن الدولي بدأت بالقرار 1559 و توالت حتى القرارين 1701 و 1757.

كانت قيادة الجامعة اللبنانية الثقافية في طليعة المساهمين في حشد دعم صانعي القرار في الولايات المتحدة الأميركية و أوروبا و أوستراليا و كندا و المكسيك و أميركا الجنوبية. الدور القيادي لتأمين الدعم للبنان، مارسته الولايات المتحدة و فرنسا بمساندة بقية الدول الأوروبية و الدول العربية الصديقة.

فشكراً للدعم الدولي المتواصل الذي رفد نضال اللبنانيين الأحرار الآيل إلى إنتشال لبنان من الغور في لجج المكائد التي إستهدفته.

إن الإنتشار الإغترابي المرموق و المؤثر جعل من الوطن الصغير عملاقاً ضخماً يصعب إبتلاعه.

تنوعت أسباب و ظروف هجرة اللبنانيين، و كانت موجاتها الحديثة مدفوعة بسلسلة الإضطربات و الفتن و الإعتداءات التي تعرض لها لبنان بسبب دوره الطليعي و ضيافته الرحبة و موقعه الحساس الملتهب بإضطرام الصراعات الإقليمية.

المتحدرون من عائلات لبنانية حافظوا على العادات الطيبة التي ورثوها عن أجدادهم و إحتفظوا بحنين عذب يشدهم إلى الوطن الأم لم يتبدد رغم بُعد المسافة و طول الزمن.

تدرّج تقرّب المتحدرين من جذور بلاد الأرز نحو موطن أجدادهم و أنسبائهم مع تفرع القنصليات اللبنانية و مع قدوم مغتربين جدد و مع تطور وسائل النقل و الإتصالات، و بدأوا يشكلون نواد و جمعيات تعزز تواصلهم.

و كحاجة المؤمن إلى العبادة إشتد إلحاح تشكيل مؤسسة أُمّ، حاضنة للجمعيات و النوادي الإغترابية الناشئة لتؤمن التواصل مع الوطن الأم، فأُنشئت الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم سنة 1960 و أُحتضنت برعاية الدولة حتى إنعقاد مؤتمر عالمي في بيروت سنة 1964حيث تسلّم مسؤولياتها المجلس العالمي المنتخب.

كان التنسيق مفيداً و مثمراً بين الحكومات اللبنانية و الجامعة ولو أنها غير حكومية و غير رسمية. و بدأ تنظيم رحلات جوية تحمل المغتربين و المتحدرين من أصل لبناني ليكتشفوا روعة البلد الذي شوّقهم سحر أحاديث أجدادهم لزيارته.

و بدأت المؤتمرات الإغترابية بالإنعقاد في لبنان و المهاجر و قد شاركتُ في المؤتمر العاشر الذي عقد في البرازيل منتصف أيلول سنة 1994 كرئيس للمجلس الوطني في كندا.

في البدء كانت طيبة المتحدرين من صلب الوطن و من المغتربين تدفعهم إلى محض ممثلي الدولة اللبنانية من سفراء و قناصل و مسؤولين و سياسيين، ثقة كبيرة، لكن بعد التلكؤ الرسمي في تلبية مطالب مشروعة تختصّ بالحصول على الجنسية و حقّ الترشح و الإنتخاب، و بعد وقوع لبنان في القبضة السورية بدأ الحذر و الإبتعاد للنأي بالجامعة عن هذه الهيمنة.

لكن ذلك لم يمنع إختراقات و شرذمات أربكت عمل ناشطي التيارات السيادية في دول الإغتراب

بموازاة التسلط على مقادير الحكم في الوطن.

ففي عهد إستتباب الهيمنة العسكرية للنظام السوري على لبنان شعر أركانه بتنامي تنظيم مجموعات ضغط على الحكومات في الدول النافذة في العالم و منها قيادات الجامعة في الولايات المتحدة و أوستراليا و أوروبا و كندا. فكان الرد إفرادَ وزارة للمغتربين أوكلت إلى خادم مطيع لأوامرهم، و إبتداع ما أصطلح على تسميته ملحقين إغترابيين وزعوا على السفارات لخرق الجاليات و تضليلها و ربطها بتوجيهاتهم و للتجسس على نشاطات المغتربين و محاولة إحباط مساعيهم لدى حكومات بلاد الإنتشار.

و لإحكام الطوق إبتدع النظام السوري هيئة إغترابية عربية برئاسة وزير المغتربين السوري مهمتها الترويج لمصالح هذا النظام في دول العالم و بالتالي تسخير موارد وزارة المغتربين اللبنانية البشرية و المادية لهذا الغرض.

لقد قمت من خلال إنخراطي الإغترابي في الدفاع عن حرية و سيادة و استقلال وطننا الأم بحملات إعلامية عبر مقالات نشرتها في الصحف و كتب وجهتها شخصياً كما وجه مثلها رفاق و نشطاء إلى الحكومة الكندية نفضح فيها واقع الحال السياسي في لبنان و تسرب نفوذ المخابرات السورية إلى سفاراته، و نحضها بالتالي على مساندة مساعي إجلاء جحافل كابوس الطغيان السوري عن لبنان، الديمقراطي النظام، وفاء للقيم و المعايير الكندية المبنية على الديمقراطية و إحترام حقوق الإنسان.

إن الطابع الإجتماعي و الثقافي للجامعة لم يحل دون إدراج بنود في أنظمتها الداخلية تتعهد بموجبها الدفاع عن لبنان في المحافل الدولية في حال تعرضه للخطر. و هذا واجب يمليه علينا الضمير و القلب و العقل تجاه أرض الجذور و منابع الخير، و أمانة في أعناقنا حماية الخصائص الحضارية للبنان الغني بشواهد التاريخ العمرانية و بتراث بسطائه و ألمعييه الإنساني و الفكري و المادي، و برصيد أبنائه الثقافي و العلمي و الإجتماعي الذي تشعّب ضخّه نحو مقاصد الأدمغة المهاجرة.

كسمك السلمون سنجوب البحار و المحيطات و نبدأ بعد تجوالنا رحلات العودة إلى المنابع مهما عاكستنا التيارات و المصاعب لكن لنستريح لا لنموت. و عند كل عودة نخاطب الوطن بلسان إيليا ابو ماضي منشدين:

وطن النجوم أنا هنا حدّق أتذكر من أنا؟

أنا ذلك الولد الذي دنياه كانت هاهنا

جذلان يمرح في حقولك كالنسيم مدندنا

أنا من مياهك قطرة فاضت جداول من سنا

أنا من ترابك ذرّة ماجت كواكب من منى

أنا من طيورك بلبل غنّى بمجدك فإغتنى

١.١٠.٠٧

وطن مرصود

حميد عواد*

الأمثال الشعبية تختصر حكمة شعب بلغة بليغة، لكن العبرة تكمن في الإسترشاد بها: "الجار قبل الدار" و " ألف عدو خارج الدار و لا عدو داخلها" ( يتسلل إليها و يمارس إرهابه على أهلها ) و " إن أنت أكرمت الكريم ملكته و إن أنت أكرمت اللئيم تمرد " و "يا ضيفنا لو زرتنا ألفيتنا نحن الضيوف و أنت ربّ المنزل" نعطفه إستدراكاً على المثل الفرنسي : " خذ راحتك و كأنك في بيتك، لكن لا تنس أنك في بيتنا". " Soyez chez vous, mais n'oubliez pas que vous etes chez nous!"
و فيما يتعذر على المرء أن يختار دائماً جيرانه، فيبتلي بشرور الحاسدين و الطامعين و الحاقدين منهم، فمن الظلم أن يفرض عليه "نزلاؤه". لكن للأسف هذه حال لبنان المنكوب ليس فقط ب" نزلائه" و " جيرانه" ، و إنما أيضاً ببعض أهله الذين جحدوا بأفضال وطنهم و نكصوا بعهود الإخاء الوطني فبايعوا الولاء لمرجعيات منبوذة و "محاصرة" دولياً و منفّرة و مقلقة إقليمياً، لخطورة شبقها الجامح أبداً نحو الهيمنة و لتهوّر نهجها و عنف سلوكها و نزف إبتزازها، و لتعنتها في تحريض غريزة العداء على منطق التفاهم و ترويض الناس على الإسلاس لتضليلها.
للأسف الشديد، بين الإرتزاق و الإنزلاق، إرتبطت هذه الجماعات بمخططات مموليها و "ملهميها" و مدرّبيها و إلتزمت نهجها المستهجن، فحادت عن التطلعات و المصلحة الوطنية الجامعة.
و غدا لبنان معترك صراعات دائمة التناسل، دفع اللبنانيون أثماناً باهظة الكلفة لها، كلما وقع إحتكاك يواكب غالباً إحتدام إشتباك الإرادة و القرارات الدولية مع سلوك المحور الإيراني-السوري. كرمى ل"مَونة" هذا الثنائي، ترخص في عيون أغراره كل النعم الطبيعية التي أسبغها الله على لبنان و كل كنوزه الحضارية و التاريخية وكل أرصدته الثقافية و الإنمائية و البشرية و المادية، فيضعوها فجأة على كفّ عفريت، في مهبّ أهواء و مصالح راعييهما.
كيف لا و أصحاب "النخوة" و طفيليوهم المغتذون بنسغهم يتمردون على شرعية و سيادة الدولة ليمعنوا في إضعافها، إنطلاقاً من "إقطاعياتهم" و بؤرهم، حيث تُشنّف آذانهم و تُشبع أدمغتهم بفتاوى و فذلكات تدعي الإمرة و تنتحل العصمة.
لقد عرف لبنان أنماطاً منوعة من المقاومة، منها فلسطينية و منها متكنية بفلسطين (مدعومة من أنظمة عربية أبرزها النظام السوري) إنطلقت إساساً لمحاربة إسرائيل و أُحيطت بهالة من القداسة. لكن ما لبثت أن جنحت عن هدفها، و إنحرفت لمحاربة اللبنانيين (و لو بمساندة فرقاء منهم ) في عقر دارهم فاستثارت مقاومة لبنانية لإنحرافها و استوجبت لاحقاً إستحضار "قوات ردع عربية" ما لبث أن إستأثر بها النظام السوري إرواءً لظمإٍ مزمن في ضم لبنان إلى "حظيرته"، كما حفّزت إجتياحات إسرائيلية لضرب "الفصائل الفلسطينية" في حلبة الصراع اللبنانية.
و بعد إحباط متكرر لتفاهم اللبنانيين فيما بينهم و بعد التمادي في إنهاكهم "نضجت ظروف" إنعقاد مداولات "إتفاق الطائف" و ما أعقبه من صدامات و حسم لها، تخلّت إثره الميليشيات اللبنانية عن السلاح لتنضم إلى مسيرة بناء الدولة. لكن مشيئة النظام السوري المتصرف المطلق بلبنان حينها، إستثنى فصائل مسلحة مرتبطة بإمرته أو متحالفة معه، أهمها فصيل رعته إيران مباشرة خارج الأطر و الأعراف الدبلوماسية (تماشياً مع الإنتهاكات السورية للسيادة) فثقّفه عقائدياً و درّبه عسكرياً "حرسها الثوري".
و فيما شكّل جلاء الإحتلال الإسرائيلي في 21 أيار سنة 2000 ما وراء "الخط الأزرق" مرحلة أولى من التحرير، أنجز صمود شباب الخط السيادي في إعتراضهم السلمي الحثيث على الهيمنة السورية العسكرية، بمؤازرة القرار الدولي 1559، المرحلة المكملة بإنسحاب الجيش السوري في 26 نيسان سنة 2005 من لبنان.
إن المرتبطين عضوياً بالمحور السوري-الإيراني ما إنتظروا طويلاً ليثبتوا لبقية اللبنانيين أن تحالفهم مع المحور المذكور هو أقوى من عرى شراكتهم الوطنية. فكان "الوعد الصادق" و كان الرد الصاعق حرباً تموزية (2006) ضارية مكلفة و مؤلمة. و ما أن صدر القرار الدولي 1701 بعد مفاوضات عسيرة حتى هبّ من كان يراقب بالمنظار، عليه الأمان، جسامة الدمار من برجه العاجي شرقي الحدود ليشتم الحكام العرب و "يزفّ" نبأ البدء بقطاف الثمار السياسية لتضحيات اللبنانيين!
و كان ذلك إيذاناً بإنسحاب الوزراء "المتناغمين" من الحكومة لتجريدها من صفة "المقاومة الدبلوماسية" و تصنيفها "بتراء" و "غير ميثاقية" و "غير شرعية" تمهيداً لمنعها من إتخاذ القرارات و الطعن بها في حال إصدارها.
الهدف الأساس الذي أفلت من قبضة النظام السوري الهارب من الحساب هو إحباط تشكيل المحكمة الدولية الطابع المخصصة لمحاكمة من يثبت ضلوعه في إغتيال الرئيس رفيق الحريري شهيد استعادة السيادة والإستقلال و في سلسلة إبادة سواه من قادة "ثورة الأرز".
لم ينجح مخطط فرط الحكومة للتحكم بإعادة تشكيلها من قبل حلفاء سوريا و إيران و رُسم خط أحمر عربي و دولي منع إقتحام السراي الحكومي، لكن إحتلال الساحات العامة إستمر مسبباً خسارة فادحة للأقتصاد الوطني تجاوزت 22 مليار دولار ( 75 مليون يومياً على مدى اكثر من ثلاثماية يوم) و ذلك تعبيراً عن "الضنّ بأحوال الفقراء" و إفساحاً لإستيلاد "فرص عمل" توقف نزف هجرة الأدمغة (أم المطلوب التخلص من هذه النخب فيسهل التدجين؟).
من غريب "المصادفات" أنه كلما إنتصب سائس من ساسة المعارضة ليتهم فريق الأكثرية بالتآمر لقتل "نجم" من صفوفهم أو كلما "أُعلن" عن محاولة إغتيال فاشلة لأحد المسؤولين منهم، نُصعق بعد حين بفاجعة إغتيال وحشي تستهدف شخصية استقلالية برلمانية أو حكومية. و بديهي أن هكذا عمل إجرامي يستهدف ترويع نواب و وزراء من قادة مسيرة 14 آذار لشلّ نشاطهم و تثبيط عزائمهم و إنقاص عددهم توخياً لفرط عقد الحكومة أو الأكثرية النيابية.
هكذا تحول إتهام أحد سياسيي مسيرة التبعية و الوفاء للنظام السوري (8 آذار) (مؤيداً بإدعاء موازٍ من وكالة أنباء إقليمية) رعيل مسيرة 14 آذار الإستقلالية بالتخطيط لقتل قائد من خطه، إلى نذير شؤم أفضى إلى إغتيال النائب و المحامي انطوان غانم، الكتائبي العتيق السامي المناقب و الطاهر الضمير و الخادم المتواضع الناشط بصمت.
و مثلما سبقت إغتيال النائب و الصحافي الشهيد جبران التويني، "ديك النهار" المقدام و الصدّاح، محاولة إغتيال مسؤول حزبي مرعي من النظامين الإيراني و السوري، نتوجس خيفة أن تكون محاولة إغتيال مشابهة أُعلن عنها مؤخراً، تمهيداً لإرتكاب إغتيال جديد يغيّب وجهاً جديداً من قادة "ثورة الأرز" لاسمح الله.
مع استعار حماوة التوتر بين إيران و المجتمع الدولي حيال ملف التخصيب النووي و التدخل في الشأن العراقي و اللبناني و الفلسطيني يستنفر النظام الإيراني قوته العسكرية ليرفع معنويات شعبه و حلفائه، و يزيد من توثبه لملء و إستيعاب "فراغات" يساهم في خلقها في المنطقة، لكن لايبدو أنه سيصحو من نشوة القوة ليدرك خطورة الإنذارات التي وجهتها إليه مختلف الدول النافذة و نأمل ألا تتأخر الصحوة كيلا تاتي على وقع صدمة قاصمة.
و حبذا لو يكفّ أركان النظام السوري عن المراوغة و يفقهوا كنه التحذيرات التي يوجهها إليهم قادة المجتمع الدولي كيلا يعبثوا بأمن لبنان و لا يتدخلوا في شؤونه و يعيقوا تعافيه، فقد أصبح أمانة في كنف الرعاية الدولية، يحظى بحضانة و حصانة دوليتين.
لقد ذكّر نبأ غارة الطيران الإسرائيلية الأخيرة على موقع في دير الزور التي خرقت وسائط الدفاع السورية و قصفت و دمرت أهدافاً لم يفصح عن طبيعتها، بعملية قصف ورشة بناء مفاعل "تمّوز" العراقي في حزيران 1981، و جاء إطلاق "الجهاد الإسلامي" لصاروخ من غزة على ثكنة عسكرية إسرائيلية و كأنه ردّ... لبعض الإعتبار.
كما بيّن مسار الغارة لأهل هذا النظام أن سبل خرق الأجواء السورية لا تمر بالضرورة عبر "الخاصرة الرخوة" المدغدغة لأحلام الهيمنة الماثلة في مخيلة أهله.
عسى أن تشكل مظلة الأمان الدولية المناخ المناسب لإتمام إستحقاق إنتخاب رئيس للجمهورية ضمن المهل و الآلية الدستورية، قائد لا منقاد، مستقيم الرأي لا يخطئ و لا يحابي، موثوق الإلتزام بحماية الدستور و رعاية الشعب و أحكام القرارات الدولية، قادر على إبتكار الحلول و استنباط السبل الملائمة لتطبيقها.
عندها يراقب عن كثب سلامة ممارسة سلطات الدولة من الجهات المختصّة المؤتمنة دون أن ينازعها طارئ هجين، فيجري التوجيه و النقد و الإصلاح و البناء عبر مؤسساتها لا خارجها و بأسلوب ديمقراطي لا إنقلابي.
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١٩.٧.٠٧

في خضمّ العاصفة: عين على لبنان و عين على القبطان

حميد عواد*


الألوهة مصدر إلهام و هداية لذوي الألباب النبيهة و الإرادات الطيبة: تفيض عليهم بالنعم، فتحفزّ هممهم على عمل الخير و تشحذ نهمهم إلى النهل من منابع المعرفة و تنشّط طاقاتهم على تحصيل المهارات الخلاقة و تقوي قدراتهم على التفوق و التغلب على المصاعب، و تنير لهم سبل خدمة المجتمع البشري للإسهام بتسريع حركة الترقي. هكذا تقضي رعاية العناية الإلهية بمواكبة العمل المثمر للنوايا الطيبة و العزائم النابضة، و بقران جوهر الإيمان بدراية العقل و رجاحة الحكمة و حنان القلب و عفاف الوجدان و نقاء الضمير، و بتعزيز كرامة الإنسان و احتضان حقوقه. أما حجر الناس و حظر التواصل و تحريف العقائد و تحوير المفاهيم و تلويث الأدمغة و تضليل الفهم و إثارة الغرائز و شحن النفوس و زهق الأرواح لا يمت إلى العزة الإلهية بصلة، بل يندرج في سياق تحنيط الطبع الإنساني بطقوس الشعوذة و "رقى" السحر و مراسم عبادة الأصنام. و هذا ما يتوسله مقاولو القتل و التخريب عندما يجندون عميلاً بزي "أمير متدين" ليستقطب بإسم الدين نفراً من السذ ّج، يخدّر عقولهم و يسوقهم "ممغنطين" إلى القيام بأعمال تفجيرية و إنتحارية تخدم غايات هؤلاء الملاعين.
يلوح شبح مخابرات "مألوفة" وراء خلايا إرهابية هجينة متنوعة الأسماء، من "جند شام" "أبو عدس" إلى خلية "شاكر العبسي" المتحدر من "فتح الإنتفاضة" و "المنبعث" (المنعتق) من سجن سوري بعد قضاء عشر ما يحكم به على سجناء الرأي، ليرهبنا و يعبث بأمننا. إعتداءات خليته الإرهابية المتكررة في لبنان إقتضت رداً حاسماً من الجيش اللبناني البطل لإجتثاثها من مخيم نهر البارد الذي حولته معقلاً لهاً. و ها هو جيش لبنان الباسل يكمل المهمة بعد أن أفسح المجال لسكان المخيم بمغادرته و بعد رفض هذه العصابة فرصاً متتالية كي تستسلم، و ذلك كلفه بذل مزيد من الشهداء الأبرار الذين نتألم لفقدانهم و نجلّ تضحياتهم و نتشرّف بإحياء ذكراهم. كذلك نحيّ بخشوع شهداء قوات الأمم المتحدة من الكتيبة الإسبانية الذين سقطوا بإعتداء إرهابي آثم أودى بأرواح ستة منهم. و بالأمس نجا جنود تنزانيون من القوات الأممية من إعتداء آخر استهدفهم. بين تخطيط و إمداد إقليمي نشط، و تبريك من "تورا بورا" يتفاقم الإرهاب في العراق وينثر بعض شظاياه على لبنان. أركان المحور السوري- الإيراني يبدون تعاوناً جزئياً مع بعض المساعي الدولية أحياناً، لكنهم عملياً يحركون حلفاءهم في البؤر المتوترة لنسف هذه المساعي و القرارات الدولية. أهل النظام السوري يلوحون ببيرق العروبة فيما كافة الدول العربية النافذة تعارض نهجهم و سلوكهم. و هم "يجتهدون" ليثبتوا أن الخلاف بين اللبنانيين "غائر" في التاريخ و أن وضعهم سيبقى "هشاً" طالما لم يكلَفوا بإعادة "بسط" "الإستقرار!!!" الذي "نعم" به لبنان خلال عهد هيمنتهم الشاملة ( فحوى لقاء الأسد-بان كي مون) و تواطؤ حلفائهم ما هو إلاّ سند لهذا الإدعاء. يريدون بأي ثمن "وأد" قضية إغتيال الرئيس رفيق الحريري بإحباط تشكيل المحكمةالدوليةالمختصة إذا أمكن و إلاّ شلّها، خاصة و أن المحقق الدولي سيرج برامرتز ثبّت تقييم سلفه و عزا دوافع الإغتيال إلى الخصومة السياسية الواضحة الأطراف. و لأجل هذه الغاية يلعبون اللعبة المزدوجة: تلهّف لمفاوضات سلام مع إسرائيل بإشراف أميركي و إبداء "إستعداد" لفكّ "إرتباطاتهم" الحالية، و في الوقت عينه يؤججون النار في العراق و يسعرون الخلاف و التفجيرات في لبنان، و يلوحون بإطلاق المقاومة في الجولان، مومئين إلى حلفهم الدفاعي مع النظام الإيراني. أما هذا الأخير فمنشرح لإدخاله كفريق نافذ في مساعي حلحلة العقد في لبنان و المنطقة. لكن أعيانه لا يتوانون عن الدفاع بشراسة عن برنامجهم النووي و يحذرون من مغبّة التعرض لبلدهم بإعتداء و يشملون دول الخليج بتحذيراتهم. و يتخلل ذلك "فورات نارية" تفشي مكنوناتهم، كإثارة حسين شريعتمداري ( مستشار لخامنئي) أطروحة ضمّ "البحرين" لإيران مدعياً أن "الشاه" تخلى عنها. هذا في الوقت الذي يدعمون على نطاق واسع الموالين لهم في العراق و لبنان. و تيمناً ب"العراب" الإيراني لا ينفكّ "إبنه الروحي" في لبنان يهول بإقتداره العسكري و "يلفح بوهج ناره" بقية الفرقاء، مندفعاً بزخم لجعل مؤسسات الوطن مسرح دمى سياسي يمسك بكل خيوطها و يوزع أدوارها حسب مقتضيات دعم تمدد نفوذ العراب و حليفه السوري. لذا فالصراع الدولي مع المجرة الإيرانية-السورية هو لمنع الإستفراد بلبنان و دول الخليج و مصير الفلسطينيين و هو صراع حيوي لحماية منابع البترول و نمو و يناع الديمقراطية إنطلاقاً من لبنان. و هكذا بعد نزع القشور ينقشع لبّ الصراع في لبنان: قوى لإنعاش الديمقراطية مدعومة من المجتمع الدولي و قوى مناهضة لها، مسيّرة من اللولب الإيراني-السوري، تؤمن بحصر السلطات تحت إمرة فقيه واحد أحد. من هنا ترتبط إمكانية التوصل إلى تسوية بمدى استعداد الفريق الأخير للتخلي عن عقيدته. أما وضعها في "الثلاجة" فهو رهان على الوقت يرتجى منه رجحان كفة المؤيدين لهذا التوجه. لذا فالمخاض عسير و مطلب "المشاركة" في الحكم بالثلث "المحبط" ينطوي على "قرصنة" السلطات إذا لم يقترن بإتفاق على البيان الوزاري و آلية إنتخاب رئيس للجمهورية. و من الأفضل ألاّ يكون الرئيس "مرقماً" فرجالات لبنان الأفذاذ أكثر من أن يحصروا بدوائر محدودة. و هنا رغم الظروف التي تتحسس خطورتها كل الدول و تحتم إجتراح حلول معقولة للأزمات و الإسراع في تشكيل المحكمة الدولية، نرجو أن يعلن ترشيحه لرئاسة الجمهورية من يملك رصيداً مهيباً من حرية الضمير و تنوع الكفاءات و سعة الأفق و عمق المعرفة و نفاذ البصيرة و دقة التقييم و صواب الأحكام و قوة الإقناع و مرونة الفكر و سرعة الخاطر و شمول التخطيط و الإقدام الحازم عند العزم و جاذبية قدوة رائدة، و سجلاً ناصعاً حافلاً بالمنجزات الناجحة، إذا تكلم نصت الجميع و إذا أمر أطيع. و ربما من المفيد، تجنباً للإتيان برئيس يستجلب اللعنة على طائفته، أن يصار إلى دعوة أكبر عدد ممكن من حكماء الطائفة المارونية للإجتماع تحت رعاية غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير للتداول بأسماء شخصيات قادرة على القيادة في المرحلة الراهنة فتقترح على النواب كمرشحين لسدة الرئاسة. و لا بد من تسجيل ملا حظة حول لغط النصاب المطلوب لعقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية فنقول أنه ذروة الواجب إلوطني أن يحضر الجلسة كل نائب و يقترع حسب وحي ضميره. و في نفس الوقت نشير إلى أن المشترع أقفل الباب على أي محاولة ل"تطيير" النصاب عندما قضى بتحول المجلس هيئة ناخبة مهمتها الوحيدة إنجاز إنتخاب الرئيس، و حين أستوجب حصول المرشح على نسبة ثلثي الأصوات في الدورة الأولى، اسقط من حسابه إمكانية تخلّف أي نائب عن القيام بهذا الواجب الأسمى. و بالتالي إن التهرب من حضور جلسة إنتخاب رئيس الجمهورية هو بمثابة إنقلاب على أسس الدستور و على الجمهورية. كفى لبنان مسخاً لنموذجه الحضاري و تخريباً لمنجزات أبنائه و تنكيلاً بهم و قهراً لهم و تضييقاً لسبل عيشهم لإقتلاعهم من أرضهم. لبنان العريق و أهله الأصلاء بحاجة إلى حماية دولية تسبغ عليه طابع الحياد الإيجابي و تحفظ صيغته كموئل للفكر المثقف، الحر دون تعدّ و المسؤول دون تردد و المنتج دون هدر، و كمحمية لطبيعة خلابة الجمال و لإنسان مصون الحقوق ينصرف للعمل المجدي و للإبداع الخلاّق دون هواجس الغدر و وساوس الأذية.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢١.٦.٠٧

تناسخ الأبالسة

حميد عواد*

عندما تضعف مناعة العيش الرغيد في جنة كانت آمنة إسمها لبنان، فيما ينمو في أعضاء منها سرطان خبيث يمسخ خلاياها مغتذياً من إفرازات هجينة سامة، تدرها أثداء غيلان جائعة تنهش أحشاء الوطن على إيقاع طبول الحرب و أناشيد مبايعة الولاء لقوى الهيمنة، حينئذِ تتناسخ الأبالسة من "الخلايا المختلة" لتخوض "معاركها المبرمجة" جاعلة النعيم جحيماً. وقع لبنان في منطقة موبوءة بالعداوات و مشحونة بالصراعات و ملتاعة بالنهم إلى السيطرة و مضطرمة بالتوق إلى التوسع، فتلقفته هذه الأنواء و استنفدت عافيته الحروب و الفتن، إذ كان لكل سورة جنون أبالستها من عساكر الجوار و "مناضلي" الداخل، "نزلاء" و بلديين. و ها نحن في مرحلة من مراحل عذابات الجلجلة يطبق فيها جيشنا الباسل بعزيمة و ثبات على حفنة من الشذاذ "المتحصنين" في مخيم نهر البارد سرقوا مصرفاً و قتلوا جنوداً استفزازاً و استدراجاً للمواجهة و قد غدروا بهم على الطرقات خارج نطاق وظيفتهم أو في أسرتهم نياماً. و سبق أن قبضت الأجهزة الأمنية الرسمية على مجموعة منهم إعترفت بإرتكاب جريمة تفجير الحافلتين في عين علق و أخرى كانت تعدّ سيارة مفخخة لتفجيرها في زحلة. و المحققون منكبّون اليوم على استقاء مزيد من المعلومات من الذين اعتقلوا من أفراد هذه الشبكة لكشف مخططاتهم و معرفة أهدافهم و مدى تشعب ارتباطاتهم. نذكر جيداً الإنذارات المتكررة التي وجهها إلينا النظام السوري من "توافد" هذه الشراذم "المشتقة" من منظمات برع في فسخها ("فتح الإنتفاضة"، "الجبهة الشعبية-القيادة العامة" وصولاً إلى منظمات و أحزاب لبنانية التسمية...). و ليس سراً أنه هو الذي أطلق زعيمين من زعمائهم بعد "استضافتهما" (تأهيلهما ربما؟!) مدة سنتين في السجن (أحدهما قائدهم، شاكر العبسي، محكوم بالإعدام في الأردن لضلوعه في إغتيال الدبلوماسي الأميركي لورانس فولي سنة 2002) فيما يسجن نخبة من رجال الفكر عشرات السنين لتوقيعهم "إعلان بيروت" أو مطالبتهم بإلغاء حالة الطوارئ و محكمة أمن الدولة، و منح المواطن السوري حرية ممارسة كامل حقوقه السياسية و المدنية! هذا النهج في التحالف و التخاصم يخبّر الكثير عن طبيعة هذا النظام. خلال مرحلة حبس الأنفاس و الإرباك هذه، أضافت عصابة الإجرام- الجليّة التنسيق و البديهية النسب- حلقة جديدة إلى سلسلة الإغتيالات التي استهدفت طليعة موكب الأحرار الثائرين على أسيادها، رعاة الإرهاب و منتهكي الحقوق الإنسانية و مستبيحي الحرمات لإخضاع الأباة و ضمهم إلى مملكة التخلف و التصحر و الإكتئاب، حيث تنحصر الإحتفالات بمراسم الجنازات. لقد ترصد المجرمون النائب و القاضي وليد عيدو، رئيس لجنة الدفاع البرلمانية و الشخصية المرموقة من لفيف قادة 14 آذار، و فجروا سيارة مفخخة لدى خروج سيارته من ناد إعتاد على مراودته، فاستشهد مع أبنه المحامي خالد و بقية مرافقيه، كما استشهد من كانوا في الجوار. كل إنسان نبيل يشجب بغضب هذا العمل الشنيع و يشعر بالصدمة و الأسى و المرارة لفقدان هذه الأرواح العزيزة التي سفك دماءها محترفو الإجرام لصالح رعاتهم و آمريهم الذين يجدون في إضعاف الوطن و تهجير أبنائه و تجفيل المستثمرين انعاشاً لآمالهم في بسط هيمنتهم، لذا يثابرون على زعزعة استقراره بلا هوادة إجهاضاً لجهود إنهاضه و إعادة إعماره. وحدهم الذين إرتبطوا بمحاور التخلف و البؤس الإقليمية يهللون لل"تناقص" في عدد الأكثرية النيابية الحالية و يجعلونها "مادة تندر سمجة" بثتها خطأ إحدى الوسائل المرئية و المسموعة، و هي تنضح بما يجول في خواطر أوساطهم و تضعهم مع من يعارضون إنتخاب بديلين لشهيدين من قافلة شهداء معمودية الإستقلال المستعاد، النائب و الوزير بيار الجميل و النائب و القاضي وليد عيدو، في موقع التواطؤ الموضوعي مع القتلة. الرئيس بري "فاتح" على الإعلام و "مسكّر" على المجلس! فصدّ بهذا الإقفال صيغة المحكمة ذات الطابع الدولي (المختصة بمحاكمة المشتبه بضلوعهم في جريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري و ما يتفرع عنها) علّه يريح أرباب النظام السوري من هذا الكابوس. لكنها "تقمّصت" دولية في مجلس الأمن الدولي بالقرار 1757 القاضي بتشكيلها تحت أحكام البند السابع. و هذا ما دفع النظام السوري إلى رفع وتيرة استنفارحلفائه المحليين و الإقليميين و الدوليين لتطويق مفاعيل هذا القرار رغم نكران علاقته بها و نأيه عنها. و هذا الوضع شحذ توقه إلى و إلحاحه على إنتزاع القدرة على إتخاذ القرار الحر من اللبنانيين ب"الكماشة" السورية-الإيرانية القابضة بفكيها لكبح حركة المؤسسات و لتعطيل كل السلطات وصولاً إلى فرض رئيس للجمهورية طيّع لمشيئته. و إذا قيّض للقحط أن يتمدد، تتحنط الديمقراطية و تتمسّخ العدالة وتجفّ الينابيع و القرائح. و دفعاً لبلاد الأرز نحو التصحّر، يحكم حولها طوق الحصار السياسي و الميداني و الصدامي (الحامي في النهر البارد) و التفجيري بالأفخاخ الملغمة، إضافة إلى تحريض إسرائيل على القصف بإطلاق صواريخ "يتيمة" عليها، و تبرز خطورة و أبعاد الأحداث المتلاحقة على أرض الوطن. و يبدو سيناريو دور "العبسي" كملحق لفيديو "أبو عدس" في لعبة التمويه عن كبار المجرمين. و يأتي قلب الطاولة على "إتفاق مكة" في حسم "حماس" الوضع العسكري في غزة لحسابها رسالة مزدوجة تعبر عن غضب النظام السوري من إقصائه عن سوق المقايضات التي يشتهيها، كما يعطي عيّنة عما يمكن "إنجازه" في "المفارز" و "البؤر" الأمنية "الخارجة" عن "إختصاص" أجهزة أمن الدولة اللبنانية حيث يطوًّق "الأمن الرسمي" إذا تجرأ على عبور "الحدود" و "دخول" "معقل" ما بلا إذن، و "يساق مخفوراً" إلى التحقيق من قبل "الأمن الذاتي" الذي "أتهم" أحد أركانه بالأمس "الآخرين" (بتقليدهم) بإطلاق نداء لإقامة "أمن ذاتي" واصفاً هكذا دعوة بنزعة "تقسيمية"!!! لبنان، متعهّد الحوار و التسامح و الإنفتاح و الإلفة بين أبنائه، لا يجازى بأذية التكفيريين و المتزمتين و المتوحشين و الذبّاحين، و ليتذكر من تخونه الذاكرة أن من يرعى الوحوش و يربيها ينتهي في بطونها. لقد استخرج اللبنانيون وطنهم من بطن الحوت (كالنبي يونان) بدعم دؤوب من المجتمع الدولي، فهل يتوقع الجزارون و الطهاة خدعهم لذبحه و طهوه من جديد ليقدم وليمة لحوتين ما برحا يراودانه؟ الأجدى إطعام الجياع من اللبنانيين بدل التحذلق لجعلهم طعاماً للحوتين الجائعين!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١١.٥.٠٧

"لا تفسخوا الصبي!"

حميد عواد*

فصول درب جلجلة اللبنانيين كثرت و تجاوزت آلامها طاقة الإحتمال البشري. فلماذا كلما ختم فصل فتح المتكنّون ب"مارس"-إله الحرب- فصلاً جديداً من الضيق، يختصر فسحة إلتقاطهم الأنفاس. عملية الخنق هذه تنسق مع بقية "رعايا" و "وكلاء" النظام السوري، و تشفع بإبتهالات طالبي "اللجوء الذمي" الذين سبب لهم سراب العطش إلى السلطة حالة من الإنفصام و الزندقة السياسية. أشبال "الباسدران" يضغطون على اللبنانيين لفرض نهجهم دون هوادة، و لا يوفرون فرصة للتهويل بشدة بأسهم و إثبات رشاقتهم القتالية و لو كان الثمن باهظاً. فالمهم و المجدي، في عرف قادتهم، ليس هناء اللبنانيين بعيشهم، بل تسهيل إمساك "ولي أمرهم" بأزمّة الصراع مع إسرائيل ميدانياً و إيقاد النزاع إشباعاً لظمإ جماهير متعطشة لكسر شوكتها. فبذلك تعزز إيران موقعها شعبياً على الصعيد الإقليمي و تفاوضياً على الصعيد الدولي، خاصة و أن رفضها للقيود الدولية الآيلة إلى منعها من تخصيب اليورانيوم في أجهزتها الخاصة للطرد المركزي يكاد يشعل حرباً. و كي لا يفلت زمام الأمور أستعادت المملكة العربية السعودية المبادرة و رعت اتفاقاً بين طرفي الصراع في السلطة الفلسطينية و إعادت طرح "المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل"، التي سبق و عرضها ولي العهد سابقاً و الملك حالياً عبد الله بن عبد العزيز في القمة العربية التي عقدت في بيروت سنة 2002 ، كما بذلت جهوداً حثيثة لتحفيز الوئام بين اللبنانيين و الإهتداء إلى سبيل الخروج من المأزق السائد. إفتعل هذا المأزق الفريق إياه الذي بقي على سابق عهده في تبادل الخدمات و الدعم مع النظام السوري إضافة إلى إلتزامه المطلق ب"مشورة" الولي الفقيه في إيران. و ذلك معاكسة للمساعي و القرارات الدولية التي تحصن الحرية و الديمقراطية في لبنان و تعضد أبناءه في صون حقوقهم و حماية سيادتهم و استقلالهم. و اللافت أن لبنان أصبح في معادلة "الدمج" الإيرانية الراهنة "العضو المريض" من "الجسم الواحد" مع إيران، إضافة إلى إعتباره "الإقليم المسلوخ" عن "معسكر النظام السوري" بمنظار أركان هذا الأخير. لذا إن لم يكبح "جموح" التحالف الإيراني السوري لن "يُترك" للبنانيين "مرقد عنزة" في وطنهم. و لتسريع عملية "هضم" لبنان، تتواتر عوامل إرهاق كاهل أهله بأعباء هائلة تمهّد لتجريدهم من أرضهم أو سلخهم عنها و غصبهم على الهجرة تاركين وراءهم أرضاً سائبة و إخوة مهيضي الجناح يسهل إفتراسهم. ضمن هذا المخطط تبرز معالم تركيز بنية دويلة "فئوية" مكتملة المؤسسات و "المؤن"، ذات سلطة و قوات "ذاتية" مدججة بالسلاح و مزودة بشبكة مخابرات و اتصالات و أجهزة تنصت خاصة بها، صبّها و قولبها النظام الإيراني في قلب لبنان لتنازع و تقرض سلطات دولته من داخلها و خارجها. و يبلغ إعتداد القيمين عليها درجة يتحدّون معها من يناقض أهدافهم و مسلكهم، و يتوعدونه بالويل و الثبور و عظائم الأمور إن ألحّ على إعتراضهم. و يوحون لمن يدعوهم إلى التماهي في بوتقة الدولة الجامعة أن إنحلال هذه في دولتهم الفئوية هو أهون السبل لإستتباب "الإستقرار". و إنطلاقاً من هذه الذهنية، عندما يدعون للمشاركة في السلطة يتبين أنهم يقصدون إستكمال الإستئثار بها. و عندما يدعون للتوافق فإنما يعنون الإذعان لمشيئتهم. و عندما يؤيدون أمراً ما في المبدأ فإنما يؤشرون إلى عقد النية على تفريغه من المضمون. و عندما يتكلمون عن تغير المعطيات يريدون التنصل من الإلتزامات السابقة. و عندما يلهجون بمطلب إعادة تشكيل السلطة فإنما يقصدون الإنقلاب عليها. و عندما يدعون للتحرير ( المفتوح الآفاق ) يقصدون الكفاح المسلح لا الدبلوماسية المحللة فقط للتفاوض على أراضي حليفهم النظام السوري، و يغدو كل ما يمسونه "مقدساً" ( بقدر ما تقدس إسم "أبي عمّار" خلال تسلطنه على أجزاء من لبنان ). و كأن مشروع تحريرهم يمر عبر، كيلا نقول يتوقف عند، "جلاء" آخر لبناني بارّ "رسولي" أعياه الإرتطام بحائط الفرز "الفئوي" فحمل رضوضه إلى بيئة وديعة آمنة ليبلسم جراحه و يتعافى. و إمعاناً في الترهيب هناك حرص على إبقاء كابوس الإغتيالات ماثلاً في أذهان اللبنانيين عبر عرقلة تشكيل و تجويف المحكمة الدولية الطابع المزمع إنشاؤها لمحاكمة المتهمين في الضلوع في جريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري و صحبه، حماية لرؤوس شبكة الإغتيال و عملائها. هذا "الردع الترويعي" هو إنعكاس لذعر أركان النظام السوري من المضي في إقامة المحكمة. و سلوك التطير الخطر يتمثل في:
1) الإستجارة بروسيا و الصين لتعديل نظام المحكمة للحد من صلاحياتها داخل مجلس الأمن الدولي.
2) حشد الحلفاء في لبنان لنسف تشكيلها.

3) توكيل مكتب محاماة دولي مهمة "إستقراء" و تحليل تقارير المحققين الدوليين ديتلف ميليس و سرج برامرتس.
4) ترويع و زعزعة الإستقرار داخل لبنان بإستثارة الفتن، تذكرنا بتهديد "رئاسي" شهير.
5) إبداء استعدادات "طيبة" لتأدية "خدمات" علنية و سرية للمجتمع الدولي، إضافة إلى سعي شغوف للتفاوض مع إسرائيل، مهّدت له لقاءات سرية لتعلن بعدها عروض "لافتة" حملها وسيط (إبراهيم سليمان) و طرحها داخل الكنيست الإسرائيلي.

تحت شعار الخوف من تسييس المحكمة، يعيق النظام السوري و حلفاؤه في لبنان قيامها من خلال "بتر" الحكومة، ليعتبروها غير شرعية فيعيبوا قراراتها، و عبر "نفي" المجلس النيابي ( و ربما "كتعه" لاحقاً) بمنع إنعقاده كي لا يقرّها. لذا أعيدت إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة لإجراء المقتضى، مشفوعة بموافقة خطية وقعها سبعون نائباً أوصد باب المجلس في وجههم فيما مشروعا الموازنة و تشكيل المجلس الدستوري و ما ينيف عن 150 مشروع قانون حيوي، منها ما يرتبط بتنفيذ إلتزامات باريس 3، تنتظر "عطوفة" رئيس المجلس لوضعها في متناول المناقشة لبتها. و بما أن تشكيل المحكمة أصبح في عهدة مجلس الأمن خارج دائرة الإبتزاز و الإستنزاف رفعت نسبة المقاعد المقترحة على المعارضة للمشاركة في الحكومة العتيدة (17-13) شرط التوافق المسبق على برنامج عملها. لكن الرد جاء بنكران النقاط السبع التي صيغت بإجماع أعضاء الحكومة و التي عدلت على أساسها مسودة القرار الدولي 1701. في هذا الجو المحموم تتقلب "الأمزجة" و معها التصريحات: ما أن تطلق دعوات إلى الحوار حتى يبدد آمالها الإلغاء أو التصعيد. وتعلو صيحات تنادي بإنتخابات نيابية مبكرة مرعية بقانون يضمن أمانة التمثيل ( يتلهف إلى إجرائها من يظن أنه سيحصد الأكثرية) و يستعر وطيس النقاش عن "جنس ملائكة" الرئاسة، فيما همّ "أمّ الصبي" هو بقاء الجمهورية!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٤.٣.٠٧

الأمان في البعد عن الحوتين

حميد عواد*


العلم يبني "صروحاً" لا "حدود" لها
و الجهل يهدم بيوت العز و الشرف
طوبى لمن أدرك غنى الروافد الحضارية الواردة إلى القلب النابض "لبنان"، و وعى رسالته و دوره في تلقيحها و تخصيبها ثم ضخّها إلى مختلف الشعوب المنتشرة في أرجاء المعمورة. فبذل جهده بمحبة و تفانٍ و صبّ عرقه ليجبل الخير بتراب الوطن و يشيد عمراناً و تراثاً و مجداً. و حبذا لو يصحو ضمير من عبث بهذه الإنجازات و حطّم هذه النفائس ليعاني العذاب الذي يستحق. سيُخلّد التاريخ صاغة "تاج الشرق" "لبنان" و سيفضح همجية المسيئين إليه و المنكّلين به. و هل يستحقّ ضعفاء الإيمان المتنكرين لوطنهم و المتألبين عليه سوى الغضب و الإدانة؟ كم مرة خذل هؤلاء أخلالهم كلماانحرفوا إلى مناصرة من غرر بهم ليفكّك أركان الوطن، تسهيلاً لضمّ أهله إلى سوق نخاسته و وَشْمِهم عبيداً و رهائن خاضعين لمجونه و جنونه و تنكيله و جشعه. على إيقاع قساوة التجارب المريرة أدرك كثير من اللبنانيين، الذين شردوا عن السراط الوطني، أهمية الإنتماء إليه و حنّوا إلى دفء كنفهم الطبيعي. لكن رغم هذا التيقظ ظل رعيل آخر محجوراً في كهوف التبشير التضليلي يخضع لترويض منهجي يعطّل العقل و يسلّط الغرائز. و تلقائياً نأى، من ركب موج هذا المدّ، عن بقية مواطنيه، و راح يمارس مع أقرانه"طقوساً خاصة بهم" مستوحاة من مصادر الإرشاد و الإلهام دون إعتبار لهواجس و تطلعات من هم خارج سربهم. كم كانت خيبة هؤلاء عظيمة عندما إنكب "جيّاشو الحميّة" على تعثير مسيرة التعافي تمهيداً لعكسها و سوق اللبنانيين من جديد إلى حظيرة الإذعان و الإذلال "المرعية" بأركان نظامي إيران و سوريا. كل الضنينين بحريتهم و عزّتهم و سيادتهم و استقلالهم ينتفضون في مواجهة هذه الردّة الرجعية و يتساءلون: أي فذلكة تضليلية تسوّغ تفخيخ السلطات، و هي في أوج ترميمها، تحت شعار "إعادة تكوينها"؟ و أي نضال "مقدس" هو ذا الذي يضرب إقتصاد الوطن، في عزّ استعادة انفاسه، تكراراً و دون هوادة؟ و أي خدمة وطنية جليلة تُؤدّى بالعبث الدائم بالإستقرار و إقلاق المواطنين حول المستقبل و تهجير أبنائهم بإنتظام و تجفيل كل مستثمر؟ إن لم تكن هذه مأساة بل جريمة إستنزاف مميت فماذا عسانا نسمّيها؟ و أي روح وطنية سامية هي تلك التي حوّلت لبنان، ب"سحر" الغوغاء و "تهويل" السلاح "الكامن في الظلّ"، عن مسار التعافي و النهوض و الوئام و التكافل، إلى منزلق الإستنفار المذهبي، ل"يُزكّى" لبنان مرشحاً على لائحة الدول المبتلية بالتناحر المذهبي؟ و أي منطق مختلّ هو ذا الذي يهمل طلباً شرعياً لفتح دورة استثنائية للمجلس النيابي تقدم به فريق الأكثرية النيابية قبل بدء الدورة العادية الحالية؟ و الآن مع بدايتها يحرّم دعوتهم للإجتماع في مقرهم الشرعي- و غالبيتهم ملهوفة لمزاولة مهامهم، بعد طول انقطاع، و مناقشة ما يتجاوز مئة و خمسين مشروع قانون و بتّ شؤون حيوية يتصدرها صيغة المحكمة الدولية الطابع المولجة محاكمة المشتبه بضلوعهم في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري و ما يتصل بها- "تلافياً" لإحداث تصدُّع " قد ينشأ" عن ضوضاء الصخب السياسي، فيما يسوّغ إحتلال الساحات العامة لأشهر و يعتبره مأموناً (و مجزياً إقتصادياً للطبقات الكادحة!)! و الأكثر غرابة هو إعتبار الدعوة إلى إنتخابات نيابية مبكرة، مبادرة ملائمة، في الظروف المحتقنة إياها، المسعّرة للنزعات و العصبيات المحرّفة للخيارات و المثيرة للإحتكاكات الخطيرة. ثم كيف يُعقل السكوت عن محاولات تجريد الوطن من الكفالة الدولية الرادعة للطامعين، و الحائلة دون قذفه أمام حوتين سبق أن إبتلعه أحدهما؟ فهي التي احتضنت و كافأت نضال و صمود بنيه السلميين و انتزعته من أحشاء الحوت المفترس. و ها هو الإنقلاب على بنود جلسات الحوار و النقاط السبع و غيرها من بنود القرار الدولي 1701، يجرّ لبنان نحو فاهي الحوتين و يشكل خطراً مصيرياً يتهدد كيانه المتنوع الأرصدة. إن كل مخلص لوطنه يتمنى تضافر جهود كل مواطنيه في تنافس بنّاء لخدمته و يريده قوياً و منيعاً و آمناً و مزدهراً. لكن السبيل القويم للمساهمة الصادقة في نهوضه، هو الإقدام عند اقتضاء بذل الخير و الإحجام عند تحاشي وقوع الشرّ. في الظروف المعقدة و الحساسة التي تلفّ الوطن، الواجب الوطني يقضي بإيلائه عنايتنا الفائقة و مؤازرتنا، لا إعتبارها فرصة سانحة لإبتزاز تنازلات. إنها حقبة استثنائية حرجة تفرض دعم سلطات الدولة و مؤسساتها لا إضعافها و منازعتها نفوذها بمؤسسات ميدانية فئوية. ممارسة السلطات من خلال المؤسسات الشرعية هي جوهر السيادة، و هي لا تُعار و لا تُفوّض و لا يُفاوض عليها. معروفة تماماً الجهات التي تواطأت مع الحوتين الإقليميين المهووسين بإفتراس لبنان لتجريع أبنائه العلقم، و لم تفسخ "تعاقدها" و التزامها معهما بعد. و الكبوات المتتالية التي افتُعلت، للتسبب بخنق سياسي و إقتصادي، ما هي إلا تنفيذ لبنود هذه العهود. لذا فكل صيغة "تسوية" متشابكة مع هذا الإرتباط هي مفخخة. المطلوب إنعتاق من قيود "ذوي القربى" و إعتناق وثيق لمفاهيم الديمقراطية و الحرية و السيادة و الإستقلال، و التمرس في تطبيقها. إذا كانت المحكمة تشكل طوقاً محكماً حول عنق النظام السوري و إذا كانت مطاردة المجتمع الدولي للنظام الإيراني حثيثة لثنيه عن تشغيل أجهزة الطرد المركزي المخصّبة لليورانيوم و لكبح جموح توقه للسيطرة على شعوب و نفط المنطقة، لماذا السماح لهما بالإطباق على لبنان لجعله ساحة المواجهة تحت ذريعة "إحباط الوصاية الدولية"؟ كثير من خطط هذا الثنائي و حلفائه تبرز للمعاينة الدقيقة، لكن المستتر من أسراره وفير. و قد حملها في جعبته الجنرال علي أصغري لاجئاً إلى "الغرب" و متى أفرغها ستنفضح خيوط مؤامرات كانت غامضة و ستنكشف علاقات الضالعين و أدوار التابعين، و سيقول لنا عندها:
قل لمن يدعي في العلم "معرفة"
حفظت شيئاً و غابت عنك أشياء

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١٣.٢.٠٧

صفوا النوايا ليسلم الوطن

حميد عواد*
مراعاةً لأدوار المجموعات البشرية المؤسسة للبنان و تحسباً لخلل في النمو الديموغرافي عبر الزمن، لحظ المشترع اللبناني بنوداً مثاقية في الدستور اللبناني تهدف إلى ضبط إيقاع العيش المشترك. لكن ما لم تكن النصوص وليدة اقتناعات راسخة في النفوس و مقرونة بالنوايا الطيبة لدى الجميع لإحترام العهود الدستورية، فعبثاً يتعب المشترعون و البنّاؤون.
فكيف يهنأ العيش مع بعض "الشركاء" و يُركن لهم، طالما هم "يرهنون الإستقرار" ببسط "رؤيتهم المختلفة" لِبُنْية الدولة؟ و قد "تحسّبوا"، استباقاً لأي معاكسة، بإنشاء مؤسساتهم الخاصة "العاصية" على النقض و "المعصومة" عن النقد. "فتحصّنوا" فيها خارج "الأطر الرسمية" و بمنأى عن القوانين "السارية" على "سواهم"!
و أين هي الوسيلة الناجعة لكبح جماح أي "قبيلة" تخطّط لإبتلاع الوطن (لحسابها أو حساب غيرها)، لأن "أميرها" "يلقّن" "جماعته" أن " الآخرين" جِيءَ بهم "غزاة" و هؤلاء "الأغراب" لا يشاركونهم مشروعهم الخاص بإقامة "الإمارة الفاضلة"؟
و أي "مزامير" تُجدي قراءتها "لتهدئة روع" و "تنفيس إحتقان" مَن أفقده الرشد، "طاعون" الإفتراس و "طاغوت" القوة؟
و ما الوسيلة المنبّهة "لصحوة" " المنوّمين"، "مسمّري الأنظار"، الشاخصين إلى إحصاءات "بورصة الإنجاب"، مترقبين "بشغف" بلوغ "تضخّمهم" "الرقم القياسي" "الحاسم(؟)" و "الماحق" لكل "النِسب الأخرى"، لإعلان "النصر"؟
و هل يُعدّ شريكاً نزيهاً و وفيّاً مَن يتقبل، على مضض "التقيّة"، صيغة الحياة الوطنية، فيما هو "ينتظر بصبر" "نضج الظروف المؤاتية"، لا بل ينشط بلا هوادة لِمَحو فرادتها و تغيير معاييرها و قلب أحكامها، نائياً عن المفاهيم الأليفة للقيم البشرية الجامعة؟
سنّة التوالد العشوائي في مزارع مسيّجة لا تليق بالإنسان. لكنها تشبع جموح عشق السيطرة الناهش غريزة بعض المشعوذين المثابرين على التغرير بالناس و تطويقهم و "المسّ" بعقولهم لتسخيرهم مسوخاً مسلوبي الإرادة. فهكذا يقيّض لكل من هؤلاء أن يتباهى برصيده من "ملكية الرؤوس" و يتبجّح بإستقطابه قطيعاً وافراً، روّضه بنسج الأحلام السحرية و دغدغة المشاعر المثيرة، فجعله طوع بنانه، مستعداً غِبّ طلبه للإنزلاق في الصراعات العبثية و الإندلاق في صناديق الإقتراع يوم الإتنخاب. و أمانة للحق أقول أنه يجب فحص أهلية كل مقترع للتأكد من سلامة ملكاته العقلية و ولائه الوطني و التيقن من معرفته بشخصية كل مرشح و برنامجه و تمتعه بحرية قراره. إذ لا يجوز السماح لموتورين أو مضلّلين أو عقوقين أو مرتهنين بإعطاب محرك الديموقراطية و لولبها. إن "فكّ طوق العزلة" الإجتماعية و الفكرية و الثقافية و السياسية عن "المعتقلين" في "مخيمات" تشريخ النسيج الوطني، المزوّدة "بمستوصفات" الحقن التحريضي و "حقول" التدريب القتالي، لا يحققه كلام هامشي يكتب على الورق و لا "توسيع رقع" نشاط إعاقة دورة الحياة في عزّ إنبعاثها و إنتعاشها. بل يبدأ بالتخلي عن مشروع "إغراق" الوطن بما يشبه"طوفاناً" بشرياً مدججاً بالسلاح و مدرباً على الولاء لمرجعية لا ترتبط به. ثم ينطلق للتركيز على توثيق الشراكة في بناء الوطن عبر تنقية النفوس من الهوس المذهبي و الزندقة الفكرية و هواجس الإعتكاف، بالإستقاء من مناهل الولاء الوطني و الغنى التراثي و الثروة الوطنية و الإقتطاف من الثقافات العالمية و الإغتذاء من القيم الإنسانية الحضارية، و تخصيب الجهود المنشطة للترقي الوطني الشامل. إن النكبات المريرة التي اعتصرت وطننا و كادت تطيح به كنموذج حضاري مميز، فتّحت العيون المغمضة لدى العديد من أبنائه ليدركوا قيمة الكنوز التي يزخر بها. لكن يبدو أن "جوقة" الملتصقين بالمحور "السوراني" لم "تفقه" بعد قدْر الوطن و أهمية حريته و سيادته و استقلاله و ديمقراطيته و حقوق إنسانه. إذ تنظر إليه "بمنظارها" الخاص الذي "يحلل" إلحاقه "بمرجعيتها" و ربطه بحليفيها المداني السلوك و المحاصرين دولياً. و بفضل استجابة أتباع النظامين السوري و الإيراني لأمر تفكيك السلطة في لبنان، لأنها تعصى على سيطرتهما، و تغطية ملتبسي الرؤية السياسية المنساقين في الركب الغوغائي، جاز الإنقلاب على المصلحة الوطنية و دفع الوطن إلى حافة "الإشتباك" الداخلي و استنزاف قطرات العافية من دورة الحياة الوطنية بدل إمدادها بالمزيد. و أوامر التفكيك تتعدى إطار السلطة اللبنانية لتطال المحكمة الدولية الطابع تحت عنوان تأجيل تشكيلها حتى صدور تقرير لجنة التحقيق الدولية النهائي حول مؤامرة إغتيال الرئيس رفيق الحريري المحبوكة بنسيجها خيوط إغتيالات رعيل شهداء الوطن الأبرار الذين استهدفوا خلال السنتين الماضيتين. وعلى درب التفكيك أيضاً تتوغل جهود العصيان الإيراني العنيد ، في الميدان الإقليمي كما على الصعيد الدولي، لمواجهة النقمة العارمة و تنفيس ضغوط القرارات الدولية و إحباط مفاعيلها، و إطلاق الوعيد "بهزم" أميركا في "لبنان"، لإنها تحاول مع المجتمع الدولي ضبط "النهم" الإيراني لتخصيب اليورانيوم و تتصدى لشبق حكام إيران التائقين إلى بسط هيمنتهم على مدى منطقة الشرق الأوسط، المختزنة %60 من إحتياط النفط العالمي و البالغة الأهمية لضخّها معظم الوقود المحرّك لدورة الإقتصاد العالمي. مع تطور الأحداث و انقشاع المواقف يتعرى مطلب الثلث "الضامن" من قشرة المشاركة ليظهر اللبّ الضامر استئثاراً كاملاً بالسلطة لتجييرها إلى أولياء النعمة و الأمر، الطامعين ب"هضم" لبنان. و لا يجد اللبناني الواعي و المخلص، أي مردود إيجابي أو جدوى من هدر الطاقات و إعاقة النهوض و قطع مدد الدعم الدولي المنعش للوطن. فنهج زعزعة الكيان و تهريب السلاح والذخائر- تحت التبن ( أو جنح الظلام) بإتجاه مريب و لوجهة استعمال مشكوك فيها- و تسخير القدرات و المؤسسات لخوض معارك استنزاف طويلة الأمد ضد المجتمع الدولي و ضد الذات، يسندها المحور الإقليمي "السوراني" لحلفائه في لبنان إشباعاً لأطماعه، يؤدي حتماً إلى زجّ الوطن في غيبوبة الإحتضار. إن مناعة الوطن من مناعة مؤسساته الشرعية لا من تشكيل مؤسسات بديلة تنازع الدولة السلطة و تستقوي عليها. كما تُستمدّ من إشاعة الأمن و الإستقرار و الطمأنينة في ربوعه و تحفيز الإنتاج و النمو و الإزدهار. الوطن يستحق التضحية لأجله، و قد بذلها بنوه بسخاء، فإتقوا الله و تيّقظوا لئلا يضحّي أحدكم به!
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية