١٨.٣.٠٦

تفاؤل حذر

حميد عواد*

فيما كان الإعتصام ب"فضائل" الخرس و الطرش و العمى السبيل "الآمن" للعيش بسلام في ظلّ الأنظمة المستبدّة، كانت الألسن طليقة و الأصوات صدّاحة والآذان مشنّفة و العيون شاخصة خلال "ثورة ثقافية" صاخبة و جذابة، ازدهرت في لبنان حتى بداية زجّه و انزلاقه في مهاوي المكائد و الفتن.
لكن، بمثابرة أحراره على النضال والصمود و بذل التضحيات، و بنهوض المجتمع الدولي لمؤازرة اللبنانيين بشكل جاد و حثيث، أمكن انتشال لبنان من حقبة الترويع و القتل و التنكيل و التشويه و الخنق.
بدأ اللبنانيون الأباة يستعيدون أنفاس الحرية مع خروجهم إلى الضوء بعد محاولة وأدهم أحياء.
استجمعوا شتاتاً من قواهم و صهروا تطلعاتهم في بوتقة العزة الوطنية على وهج نيران المآسي التي أحالت أجساد شهداء جبابرة، مشاعل نور.
و هكذا بدأ انبعاث لبنان السيد الحر المستقل من رحم ثورة الأرز بعد مرحلة إنهاك و استنزاف و تهشيم طالت ثلاثة عقود.
المرارة و الأسى يعتصراننا كلما لاحت في البال أطيافنا يوم وقعنا فرائس أطماع حامت حولنا و صراعات التفّت علينا، فضيّعت علينا جيلاً من التقدم سجّل إختراقاً في كل برهة.
و كأنّ الزمن المهدور، خلال دفع الوطن قهقرى، ليس بكافٍ في حساب فرقاء لبنانيين ارتضوا و أيّدوا استرهان لبنان لمشيئة النظامين السوري و الإيراني نظراً لإرتباطهم الوثيق بهما، و استقووا بالدعم والسلاح على قوم ملّتهم و سائر أبناء وطنهم .
فها هم، إلحاقاً بتعديل للدستور تمّ عبره تمديد ولاية رئيس الجمهورية ثلاث سنوات في ظلّ الهيمنة السورية القاهرة، قبل أفولها ( أو ربما خسوفها أو خفوتها)، يسعون إلى عكس دورة الزمن و تعديل مفهوم سيادة الجمهورية، بتشريع استقلالية فصائلهم المسلّحة عن سلطة الدولة.
و لا تُفسّر هذه النزعة إلا إستئثاراً بالتحكم بميزان أوضاع الحدود الجنوبية و جذبها إلى مدار حلفائهم.
لا يخفى على أحد ما يبيّت هذا "الخيار" من تهميش و استهانة بدور مؤسسات الدولة و قواها الأمنية أولا، ثم بشركاء أصلاء لا يتبنونه، خاصة و أنّه ينطوي على محاذير يدفع ثمنها كل أبناء الوطن.
مزارع شبعا أمانة في عهدة الحكومة اللبنانية تعالجها بحكمة و دقة و مسؤولية، ملتزمة القوانين و المواثيق الدولية.
و بموازاة ذلك تتخاطر مع ضمير كل لبناني أصيل حريص على حفظ ذرى الوطن و حقوق أبنائه في كنف السيادة الوطنية الناجزة.
لذا لما نغّص تحريرالجنوب "احتواء" الجيش "الشقيق" لكامل الوطن و استباحته، ليُسخّر معتقلاً و سوق نخاسة، ثابر ربيبو الحرية و العزّة و السيادة و الإستقلال و العنفوان على كفاحهم السلمي حتى تحققت معجزة الجلاء بعد تجذّر الإحتلال و استفحاله و استشرائه ردحاً من الزمن.
و أصبح تلاقي مختلف الفرقاء اللبنانيين ممكناً بعد أن حال دونه من فرّق و ساد.
و غدت محرّمات الأمس قابلة للنقاش اليوم.
فبعد هبوب إعصارات و زلازل حملة إجرامية إرهابية زهقت أرواحاً وضّاءة هدت مسيرة الإستقلال، احتدمت السجالات بين الغازلين في فلك المحور السوري-الإيراني و الناهضين بالمدّ السيادي الإستقلالي لتضع أوزارها على طاولة حوار في المجلس النيابي.
هدأ روع اللبنانيين لما علّقوه من آمال على نتائج الحوار و حظي المتحاورون بتشجيع و تأييد الدول الصديقة و مسؤولي الأمم المتحدة، إذ وُصف اجتماعهم بمبادرة ذاتية ب"اليوم التاريخي".
أعطى فرقاء الحوار أهمية اللقاءات استحقاقها فناقشوا بصراحة و جدية و عمق و شمول القضايا المطروحة.
إثر اثنتي عشر مداولة خلص الملتئمون إلى نتائج مُرضية شملت قسطاً وافياً من الشؤون المعالجة، علماً أن معظمها في ظروف طبيعية، يُعتبر من البديهيات. لكن العنكبوت السوري ما زال يمسك بخيوط سبق أن نسجها في أوكاره اللبنانية، و كلما جذبها سبّب تعثّراً في مسيرة التعافي. خلاصة نتائج جولات الحوار هذه نوردها كما يلي:
1) الموافقة على إنشاء محكمة لبنانية-دولية مختلطة، هي قيد الإعداد، لإحالة المتهمين في جريمة اغتيال الرئيس الحريري عليها. و توسيع مهام لجنة التحقيق الدولية المولجة سبر و استقصاء أغوار هذه الفاجعة لتشمل مسلسل الإجرام الفظيع الذي بدأ باستهداف النائب مروان حمادة (04|10|01) و زرع كمائن الرعب و القتل على مدى العام 2005 بلوغاً إلى الغدر ب"ديك" "النهار" المقدام، الذي تحدى خطر الترويع السائد و قاوم المخرز بعينه و لسانه و قلبه و دافع عن القيم الديمقراطية حتى الإستشهاد، النائب جبران تويني (05|12|12).

2) الإجماع على تكليف الحكومة مهمة سحب السلاح الفلسطيني ( المُسَورَن ) من خارج المخيمات خلال ستة أشهر، تعمل فيها أيضاً على تحسين أوضاع الفلسطينيين الإقتصادية و المعيشية و الإجتماعية و تمهّد للأخذ على عاتقها حماية أمن المخيمات.

3) التوافق على وجوب معالجة أزمة مفهوم العلاقات و نسقها بين النظام السوري و لبنان، و قد استوجب جنوحها الخطر أطلاق تحذيرات متواترة وجّهها المجتمع الدولي للجانب السوري منبّهاً من مغبّة الإغتيال و التحريض و التسليح. و بالتالي انتداب الحكومة للقيام بمساع لتقويمها و تنقيتها و "ضبط مسارها" ضمن الأصول و الحقوق القانونية و "ترسيم" الحدود "المبهمة" ميثاقياً و جغرافياً. إضافة إلى إستقصاء حاسم يبدّد الغموض الكثيف المنصوب حول مصائر اللبنانيين المغيّبين في غياهب السجون السورية. عندها يمكن الإرتقاء بالعلاقات إلى مصاف تلك السويّة و الطيّبة السائدة بين الدول الصديقة التي تتمثل ببعثات دبلوماسية (و ليس (بحملات) عسكرية) ترعى المصالح و حرمة السيادة من خلال السفارات (وليس "أبراج" و "أقبية" أجهزة المخابرات) دون إضمار نوايا خبيثة أو تحيّن الفرص من المستقوي للإنقضاض على المستضعف.

4) ترسيخ قناعة مشتركة بلبنانية مزارع شبعا كمنطقة مورست عليها السيادة اللبنانية حتى منتصف الستينات ( حين طرد جيش السلطة السورية قوى الأمن اللبنانية من مخافرها هناك ليسيطر عليها حتى إحتلال إسرائيل للجولان عام 1967 ) و كملكية عقارية لسكان لبنانيين ( استحصلوا على سنداتهم من أمانة السجل العقاري على مدى العهد العثماني حتى قيام لبنان الكبير) احتكموا إلى القضاء اللبناني ( بروز أحكام صادرة عامي 1927 و 1936) و دفعوا الضرائب في الدوائر اللبنانية سنة 1933 إضافة إلى توفر خرائط (فرنسية 1932 و 1943 و ألمانية) مشفوعة بقرار (318) للجنرال غورو أعتبرها بموجبه جزءاً من قضاء حاصبيا. ناهيك بتفنيد و تعليل مستندات ومواثيق أخرى أثارها في دراسة مشتركة، قُدّمت لرئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة، الدكتور عصام خليفة و الدكتور شفيق المصري و المحامي في القانون الدولي ميشال تويني، الذين خلصوا إلى توصيات و تدابير و سندات قانونية تؤول، في رأيهم، إلى إثبات الهوية اللبنانية للمزارع لدى الأمم المتحدة فتستعاد سلمياً إرتكازاً على الحق و القانون دون المساس بإتفاق الهدنة الساري المفعول منذ عقده مع إسرائيل سنة 1949.

5) استكمال البحث في شأن تناقض سلاح "حزب الله" مع القرار الدولي 1559 و اتفاق الطائف، و النقاش حول جدواه و تلاؤمه و ائتلافه مع سيادة الدولة و توطيد الأمن و ترسيخ الإستقرار و كسر الطوق عن الفئات العلمانية المكبوتة، لإعتماد الحلول الناجعة التي تضمن حرية التعبير و المبادرة و تكفل الإنصاف و التكافؤ و تنعش الإطمئنان إلى الغد. و متى استتبّ النجاح، يتنشّط الإستثمار و يحيا الإقتصاد و ينحسر شبح الفقر و يتبدّد هاجس الهجرة.

6) متابعة درس الخيارات الفضلى لحل أزمة تداول الحكم الناشئة عن الضغوط الهائلة التي مارسها النظام السوري على أعضاء المجلس النيابي السابق لتعديل الدستور ( تكراراً لسابقة مشؤومة) و تمديد ولاية رئيس الجمهورية ثلاث سنوات، غداة إصدار قرار مجلس الأمن الدولي 1559 الذي نصّ على التقيّد بأحكام الدستور صوناً لسياق التغيير الديمقراطي و حفظاً لمقام الرئاسة.
و فيما كان الإنتباه مسلّطاً على أقطاب الحوار إلتمع تأزّم مصدره مجلس نقاش الهيئة الوطنية الخاصة بقانون الإنتخابات النيابية. إذ انسحب المحاميان ميشال ثابت و زياد بارود للتعبير عن إحباطهما و رفضهما المراوحة بين صيغ للقانون متناقضة، فصرّحا بما يلي:
"منعا لأي تأويل، وبعد انقضاء المهلة – الممددة – التي حددها مجلس الوزراء للهيئة الوطنية الخاصة بقانون الانتخابات النيابية.
ولما كنا قد قبلنا المهمة الموكولة الينا، اعتقادا منا بأن هذه اللجنة برئيسها واعضائها مؤهلة لتحقيق المهمة على دقتها وصعوبتها وتعقيداتها.
ولما كنــــــا قد شـــاركنا مدى ستة اشهر ونصف شهر في مداولات الهيئة، وقــــدمنا ما امكن من مساهمات في النظام الانتخابي وتطوير آليات الاقتراع، وانشاء هيئة مستـــــقلة للانتخابات، واشراك اللبنانيين غير المقيمين في التصويت وتفعيل تمثيل المرأة والشباب، وتنظيم الاعلام الانتخابي وضبط النفقات الانتخابية.
وبما ان الهيئة الوطنية رغم النيات الحسنة لرئيسها واعضائها كافة، لم تتمكن من التوصل الى رؤية مشتركة جامعة لتقسيم الدوائر الانتخابية بما يضمن فاعلية التمثيل وصحته لمختلف فئات الشعب اللبناني.
وبما ان التحفظ والمخالفة والاعتراض لم تعد تجدي، في ظل تعدد المشاريع المتناقضة موضوع التداول، ورغبة منا في عدم عرقلة عمل الهيئة، نعلن انسحابنا من عضوية هذه الهيئة، متمنين لها التوفيق في مهمتها وعدم الاكتفاء بتسويات لا تلبي طموحات المواطنين، ولا تفضي الى الغاية التي من اجلها انشئت هذه الهيئة".

و تسرًبت معلومات عن صيغة اعتمد فيها مبدأ نسبية احتساب عدد الأصوات و تأهيل المرشح على مستوى القضاء في ظل تقسيم لبنان إلى 9 دوائر إنتخابية، تزمع اللجنة على عرضه على الحكومة كخيار مفضّل على مثيل لا يختلف في المضمون عنه إلا من ناحية عدد الدوائر و هو 13 دون الحاجة إلى تعقيدات التأهيل على مستوى القضاء.
و يظهر جلياً أن القانون الذي يصغّر الدوائر يحسّن دقّة و أمانة التمثيل. و من يشرئبّ لمعاكسة هذا المنحى يسعى بوقاحة إلى اختزال تمثيل جماعات أصيلة هي من صلب تكوين الوطن.
أما طلب اللجنة من الحكومة تعيين بديلين فلا يليق بموقع رئيسها و أعضائها لأنه ينمّ عن إهمال وعدم اكتراث لرأي خبير و حكيم و منزّه حظي بتأييد شامل من فرقاء لا يستهان بدورهم.
تترافد عوامل التشنّج و التأزّم لتلقي بأحمالها على الهمّ المعيشي الذي يسحق كافة المواطنين. إنّه و إن تُشكر الحكومة على إعداد الكثير من المشاريع الإصلاحية تمهيداً لعرضها على الدول الداعمة للبنان لترصد المبالغ الكافية لتمويلها خلال مؤتمر بيروت-1 الموعود، لا يغفل المراقب بطءأ و تقصيراً في تأهيل و ترشيد مؤسساتها لجعلها مربحة. هل يا ترى تكرّس الحكومة جهداً كافياً "للتنقيّب" عن مصادر دخل مجزية تغني المواطن عن لحس مبرد الضرائب، فتضخّه في عروق الدورة الإقتصادية مشاريع منتجة تؤمن لكل فرد عملاً مناسباً و عيشاً كريماً؟ لا شكّ أنّ باستطاعتها بذل المزيد. واجب عليها إيلاء التربية و الصحة عناية فائقة. فالعقل السليم في الجسم السليم و الغذاء السليم و الإعداد السليم. ألمطلوب تحصيل معرفة و ثقافة و مهارات منفتحة الآفاق تلبّي طموحات طلابها و حاجات سوق العمل. أما صمّام الأمان لتفعيل هذه الطاقات بشكل منتج و بنّاء، فهو التربية الوطنية الصافية التي تطهّر العائلات و العشائر و الملل و الأحزاب من أدرانها و تذيب فواصلها لصالح حزب واحد هو حزب الوطن. و لأجل تأمين الغذاء يجدر بالحكومة دعم قطاعات الزراعة و الصناعة و الخدمات على صعيد استحضار الخبرات و توفير المهارات و الوسائل اللازمة لتجويد الإنتاج و تخفيض الكلفة، و على صعيد تأمين اسواق لتصريف الإنتاج. كذلك يقع على عاتقها إتاحة الفرصة لصغار المدخرين كي يشتروا بمبالغهم المتواضعة سندات الخزينة و أسهماً في المؤسسات الرسمية الحيوية المنْوي بيعها. و لا يغيب عن البال أن السياحة هي بترول لبنان بانتظار تدفّق السائل الأسود المخزون تحت قعر مياهه الإقليمية. و في أي حال، لا يجوز أن يُترك اللبناني فريسة ينهشها العوز، فيضطر إلى بيع أملاكه بأبخث الأثمان و ييأس ثم يهجر وطنه. فيما لو ساد الإستقرار و توطّد الأمان توافدت الإستثمارات متزاحمة و تنشّط الإقتصاد و غزر الإنتاج و لفاض مدخول السياحة وحدها عن متطلبات حياة باذخة ينعم بها كل اللبنانيين.
يأنس اللبنانيون متى تلاقوا في محافل الأفراح و الأتراح كما في مجالس الحوار الشيّقة و المفيدة. لكن كي نجدّد استحقاقنا ميدالية النموذج الفذّ للتواصل الإنساني و الحضاري، يجب أن نخصّص الوطن بحيّز كبيرفي وجداننا و ضميرنا. بالصحوة الوطنية نستفيق من خدر التقوقع في الشرانق و نخلع أغلفتها لننضم إلى موكب الخدمة الوطنية. فلِيسْعَ كل منا في إعلاء شأن الوطن و ِليسْهم في زيادة رصيده، و لنُخْسِئ من يحطّ من قدْره و نكفّ يد من يغرف و يبذّر من حسابه. دعونا نتفاءل بالخير و نعمل له، و على درب كفاحنا لا بدّ أن نجده.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية