٢٦.٦.٠٥

مذكرة دولية:مطلوب أنقياء

حميد عواد*

يبهت الكلام، حتى بليغه، في صخب الأحداث الجسام. إغتيالان آثمان زنّرا فترة إجراء الإنتخابات النيابية في لبنان و هزّا من جديد وجدان اللبنانيين:

أولهما، في 2 حزيران، أودى بحياة الأستاذ الملهم و الكاتب المحلل و المفكر المميز سمير قصير الذي حرم غيابه انتفاضة الإستقلال قوة دفع عالية المنسوب.

ثانيهما،في 21 حزيران، صرع المناضل جورج حاوي الذي نشط في السنين الماضية على درب ترسيخ الوئام في الحياة الوطنية عارضاً صيغ حوار على مختلف مراجع شرائح المجتمع اللبناني و الذي حضّ سوريا على ضرورة رفع هيمنتها عن لبنان.
تغمّد الله الشهيدين بفيض رحمته و ألهم محبّيهما الكثر الصبر و السلوان!

يندرج هذان العملان الإرهابيان في سياق سلسلة كمائن غدر و تشفٍ إجرامية تقتصّ من شخصيات لبنانية فذّة انتصرت للحرية و السيادة و الكرامة الوطنية.

كما يُبتغى منها بثّ القلق في نفوس النخب الحرة و زعزعة الإستقرار و تبديد الثقة مثلما تشكّل تحدياً سافراً للمساعي الدولية التي ترعى إعادة تأهيل لبنان على الصعد كافة.

لذلك لا نستغربنّ إذا حدث تدوير (recycling) للإرهابيين اللذين سخرا لهاتين المهمتين وعُثر على أشلائهما في العراق إثر تفجيرين إنتحاريين يخفيان أثرهما.

فيما كان اللبنانيون الأباة يترقبون تبلوراً بارزاً و محكماً لمغازي حوافزهم و تطلعاتهم يوم ساروا مواكب عزّ في 14 آذار، أدار الإستاذ وليد جنبلاط أشرعة سفينته يمّ هبوب الرياح الدولية واعتلى منبر الخطابة و استأثر بأضواء الإعلام و بدأ بتحوير المسار و تضليل المشاهدين و الإلتفاف على طليعة الممانعة و التصدي: التيار السيادي.

الأستاذ وليد جنبلاط كطائر الكوكو يبيض في عشّ بناه غيره.

و الطامة الكبرى ليس فقط نكرانه حق غيره و إنما محاولته انتزاع الموقع من صاحبه.

لا أحد يغفل ثمن التحول ( التكتيكي؟) الذي حمل جنبلاط ألى مقلب معارضة حكم الأجهزة المنبثقة من حامل أختام الشقيقة الذي كان متسلطناً على لبنان من بلاط عنجر.

فقد عاش فترات قضّ مضاجعه فيها كابوس الإغتيال و قد طال أولاً النائب و
الوزير السابق مروان حماده الذي كاد يقضي في أنفجار استهدف حياته لكنه نجا بأعجوبة.

أما هول الكارثة الإرهابية اللاحقة التي زهقت أرواح الرئيس الشهيد رفيق الحريري و الشهيد الخبير الإقتصادي الوزير باسل فليحان و 20 شهيداً آخر فكان هزّة مروّعة ميدانياً و نفسياً.

و لا شكّ أن هاجس التصفية المهيمن على خواطر جنبلاط هو الذي حدا به إلى إرسال ابنه تيمور إلى فرنسا طلباً للأمان.

لكن هذا الإضطراب لا يبرر محاولات جنبلاط السعي الدؤوب لشرذمة الفريق الأساسي من المعارضة سعياً لإتنزاع ولاء شتاته لزعامته.

لقد نجح في إجهاض التحالف مع التيار الوطني الحر آملاً أن يبقى بلا حليف في الدوائرالتي يقتضي فيها عقد تحالفات.

لكن الجنرال عون و أركان التيار اضطروا إلى اتخاذ قرارات صعبة وتجاوزوا عقبات كأداء و أزالوا حواجز شائكة و تخطوا العزلة التي رسمتها مخيلة جنبلاط و حظوا بتأييد كثيف من الناخبين في المتن و كسروان و جبيل و زحلة.

فبلوروا قوة شعبية حرة القرار يشدها التوق إلى العزة و الحرية و السيادة و لا يقوى على شراء ولائها المال و لا تغريها و لا تسترهنها عروض الخدمات.

لقد شاء جنبلاط غداة اغتيال شهيد لبنان الرئيس رفيق الحريري الإستئثار بقيادة إنتفاضة الإستقلال داخل الوطن دون منازع و انكب على تجيير ما أمكن من رصيد المغدور به لصالحه لذا جفل من عودة الجنرال عون و أجّل البتّ بإطلاق الدكتور جعجع من السجن و انتغص من بروز الحريري الإبن كوريث لأبيه.

ركب جنبلاط صهوة القرار 1559 لفترة وجيزة. ثم ما لبث أن طعن به وانقلب عليه "حماية للمقاومة" و روّج لبقاء القوات السورية في البقاع سعياً لإستدرار عفو عن "هجره" الكنف السوري.

و هكذا حوّر مغزى المعارضة و صورها معارضة لهذا القرار التاريخي، ثمرة تضافر جهود أميركا و فرنسا، الذي فرض سحب فصائل الجيش السوري و طواقم مخابراته ( المشكوك بصحة انسحابها حتى الآن) انسجاماً مع مطالب و نضال التيار السيادي بكافة شرائحه في لبنان و في بلاد الإغتراب.

لقد تلمّس الأستاذ وليد جنبلاط رضا حزب الله دعماً لزعامته و قبض الثمن تحالفاً معه في لائحة قضاء بعبدا-عاليه و أمن نجاحها بأصوات أبناء الحزب المذكور.


و هو يطمح اليوم، بعد نجاح 72 نائباً من لوائح تحالفه مع الحريري و كتلة "قرنة شهوان"، إلى "اختيار" من يراه مناسباً لموقعي الرئاستين الثانية و الثالثة قريباً و لموقع الرئاسة الأولى لاحقاً.

و يندرج في هذا السياق مبادرة جنبلاط ألى تأييد "تجديد" إنتخاب الأستاذ نبيه بري رئيساً للمجلس النيابي لولاية رابعة علماً بأنه "نجم ساطع" من نجوم الحقبة السورية في لبنان يتحمل تبعات السلبيات الناشئة عنها!!

و قد أعلن ذلك قبل التشاور مع حليفه سعد الدين الحريري و خلافاً لمشيئة النواب الأعضاء في كتلة "قرنة شهوان" و كأنه يريد فرض قراره على من يفترض أنهم حلفاؤه.

أليس مستغرباً ممن "يطمح" إلى التغيير و الإصلاح و من يتصدى بشراسة للتمديد "نصف" مرة في موقع الرئاسة الأولى أن يكون متحمساً "لتجديد" رابع في موقع الرئلسة الثانية؟ ( حتى و لو أخذنا بعين الإعتبار نصوص الدستور.)

إنّ باع بري، "إبن سوريا" المدلل و "التلميذ" الفخور و الكلي الطاعة للرئيس الراحل حافظ الإسد ( طبقاً لبنود الدستور اللبناني!!!)، طويل جداً.

فثروته و أملاكه يصعب تقصّي مصادرها، و نفوذه طال العديد من المؤسسات العامة و إرادته السنية ملأت ما لا يحصى من المراكز.
لذا من الصعب "فصله" عن السلطة!

و هو بترئيسه على المجلس النيابي "أنعم" عليه دستور الطائف بصلاحيات واسعة فسيطر على اللجان و مهد الدرب لتمرير القوانين التي تخدم "خطه" و جمد أو أحبط تلك التي تتعارض مع مصالحه و مصالح حلفائه.

جنبلاط و بري يلتقيان كديماغوجيين و كقناصي فرص فليس غريباً أن يستقوي واحدهما بالآخر.

كل منهما اشتهر "بأريحيته" كرجل "برّ و إحسان" أغدق الوظائف، و منها الصوري، على مناصريه و "جاد" على حاشيته بمال "الخيّرين"، مال أبناء الوطن المنكوبين المحصل من جنى إرهاقهم و المستدان على حسابهم بأبهظ الفوائد، و ذلك من خلال "الصناديق" و "المجالس" و المؤسسات العامة و الوزارات.
مسيرة الإصلاح و التغيير تقتضي اليوم قطيعة مع اساليب الماضي الملتوية و تفرض إقصاء الفاسدين لصالح المستقيمين المتفانين في خدمة الوطن.

محك صدق النوايا هو تقاطب الخيّرين من نواب مختلف اللوائح فينسقوا طبقاً لقناعاتهم (و لو خالفت الرئيس أو الزملاء في كتلتهم) و يبدأوا باختيار علاّمة تشريع نظيف السجل رئيساً لمجلسهم و شخصية عفيفة غنيّة بالعلم و المعرفة و الخبرة رئيساً لمجلس الوزراء.

عندها يمكن الشروع بورشة إصلاح بنية الدولة و تنقية و فرز السلطات و الصلاحيات و توظيف الطاقة البشرية المختصة و المؤهلة للإقلاع و الإطراد في النمو نحو الإزدهار.

المجهر الدولي يتابع بدقّة مراحل التجديد في لبنان و المجتمع الدولي يتأهب للمساعدة في كل مجال شرط تشكيل حكومة مؤلفة من وزراء مشهود لهم بالنزاهة و الصدق و الشفافية يعدون برامج إنماء ناجحة لإنعاش حركة مؤسسات الدولة و لرفع مستوى حياة المواطنين.

حذار الوقوع في الخطأ لأنه إن حصل سيغرق المركب في رمال الديون المتحركة و سيحرم اللبنانيين فرصة العيش حياة كريمة!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية