٢٣.٢.١٣

تجذّر الانتماء الوطني هو لحمة التراب والشراكة

المنهدس حميد عواد* إنّ الخضّات الأمنيّة والمعيشيّة والسياسيّة المتتالية إضافة إلى الأزمة الاقتصاديّة الخانقة الناشئة عنها التي تُلمّ بلبنان وتحاصره وتعتصره وتتقاذف اللبنانيّين، تجعل كلّاً منهم وخاصّة الودعاء والمحبّين لوطنهم متململين وقلقين ومضطّربين وغاضبين. فالانطباع السائد هو انخطاف من الحاضر وغور في الزمن إلى عصور البداوة حيث إحياءٌ لغزوات القبائل وكرّ وفرّ في شنّ "حروب" متبادلة. هذه الحال هي ذروة الظلم للبنانيّين لأنّها تشعرهم بالغربة في وطنهم وسط بخّات سموم تحريض على التناحر وفرز للمواطنين السذّج قبائل متناوئة ومتناوشة بفعل حُجُب تضليل تشحذ غرائز الحقد وتعطّل العقل وتفكّك أواصر الإلفة و المحبّة. الاستغراق في هذه الغيبوبة يعزل ويهمّش دعوات التيقّظ ويسهّل الإمعان في استغلال الغافلين عن سقوطهم في هوّتها السحيقة ويجعلهم وقوداً لمحارق الأوثان المتألّهة. أضف أنّ الانصعاق بشرارات أوهام ونوبات غرور "حصريّة امتلاك الطّهر وسجلّ أسرار الوجود" وتصوّرها "يقيناً ساطعاً" يبدّد "سراب وخرافات" الرقيّ والإنجازات الحضاريّة يؤدّيان إلى تحنّط الأدمغة بين دفّات "مدوّنات السجلّ العتيق" ونبذ كلّ مستجدّ لأنّه يخرج عن نطاقها ويستحيل تقزيمه و"قولبته" في قمقم المفاهيم الضيّقة. البصيرة النبيهة تكشف أنّ الابتلاء بالتصلّب الناتج عن فذلكات هجينة، "مصدّرة" إلينا لتلقين المتزمتين وإلزامهم بها كسيرة حياة تناقض قواعد الدستور، تشكّل جنوحاً خطيراً عن ميثاق وعهد المواطنيّة الصادقة وجحوداً بنذور التضامن والتعاضد والإلفة وعقوقاً بهناء وخيرات وفوائد الشراكة الوطنيّة. كذلك الانجذاب نحو فلك سطوة "مراجع" خارجيّة ومبايعتها سلطة وطاعة مطلقتين هو انشقاق عن الولاء الوطني وخروج من بوتقة الحياة الوطنيّة لخدمة غريب مفدّى ومبدّى على حساب السيادة الوطنيّة. للأسف لقد بلغ "إرضاع أمهات" بعض المذاهب لرعاياها في لبنان ب"الحليب" العقائدي والمعنويّ والماديّ حدّاً شدّد عصبهم و "أهّلهم" لتشكيل "كيان خاص" مكتفي القدرات ومكتمل الهيكليّة جعله "محصّناً ومدجّجاً بالسلاح في مواقعه الموغلة في التشعّب" ومستقوياً على الدولة اللبنانية ومواطنيها. فهذا "التفوّق" زعزع الأمن واستحوذ النفوذ واغتصب الامتيازات والأملاك وابتزّ المناصب وقضم الحقوق واحتكر المداخيل واحتقر المواهب وجيّر ريع الفوائد لمحظيّه وأغرى الانتهازيّين وأجاز الغشّ والتزوير والتهريب واستباح مؤسّسات الدولة ومرافقها ومعاهد التعليم، فساء الأداء وانحطّ المستوى. وهذا الخلل الخطير المغلّف بتقيّة المواقف وتعرّج التشريع وفجور مطالعات الدفاع عن الباطل هو الذي أربك سياق تعافي الحياة الوطنيّة. فتسرّبه إلى مفاصل الوطن أدّى إلى إحباط جهود البناء الحثيثة وإجهاض النهوض ولجم زخم تدعيم ركائز الدولة وإعاقة تحديث مؤسّساتها وتتويه مساراتها وتكبيل أدوارها ومسخ معايير الكفاءة والجدارة في إناطة المسؤوليّات. كما أفضى إلى إرباك مهامّ القوى الأمنيّة ونقصان التدابير لتحصين القضاء الضامن لتوازن العدالة وإهمال تحفيز أجهزة الرقابة الكفيلة بتأمين جودة وإنتاجيّة الإدارة ومجازاة منصفة ثواباً أم عقاباً. هكذا تمعن طفيليّة الفطر الهجين نخراً وتعيث فساداً وفوضى في هيكل الوطن. أمّا المواطنيّة الأصيلة فتوجّه الجهود وتنسّقها لصبّها في خزّان الخير المشترك الذي يغذّي نمو الوطن و "تروّض" العلاقات الخارجيّة لجعلها روافد لهذا الخزّان. لكنّ الانفصام عنها للانخراط عضويّاً في خدمة مصالح ومخطّطات مرجعيّة خارجيّة مغرورة بالأبّهة ومنكبّة على توسيع رقعة نفوذ سلطاتها المطلقة يطعن السيادة الوطنيّة في الصميم ويستنفر حرّاسها لحشدهم في جبهة متراصّة تتصدّى لهذا الإنتهاك الذي يورّط الوطن في نزاعات داخليّة وإقليميّة مهلكة. وسط الغليان في هذا المرجل ورغم نصائح النأي عن "الأنواء" نشهد انزلاقاً تدريجيّاً لأفرقاء لبنانيّين في لجّة النزاع السوري المأساوي على ضفّتيه يُخشى تفرّعه إلى حرب أهليّة خارج الحدود. ضعف النظام السوري يجعله أشدّ تعلّقاً بالظهير الإيراني الذي عبّر عن أهميّة ووثوق "إرتباطه" بحليفه "مطوّباً القطر السوري كولاية إيرانيّة جديدة" تفوق بأهميّتها منطقة الأهواز. التغلل الإيراني والنزعات التكفيريّة في المدى الجغرافي العربي من منطلق "جهادي" وشدّ عصب مذهبيّ أثار ردّات فعل حادّة لدى الأنظمة العربيّة وأجّج احتقاناً بين المذهبين الشيعي والسنّي بات ينفث دماء ضحايا كثيرة في باكستان واليمن والعراق وسوريا فيما يتمخّض في بلدان أخرى. صراع النفوذ الشرس هذا المضرّج بالدماء لا يخدم بسط الاستقرار في المنطقة. رغم قبول رئيس "الإئتلاف الوطني السوري" معاذ الخطيب بمبدأ حوار يستثني أركان النظام المتورّطين بسفك الدماء تبقى العقدة الكأداء أنّ إيران وروسيا وطبعاً أركان النظام السوري يصرّون على رفض إستبعاد رأس النظام وهذا ما أوصل الوسيط المزدوج التمثيل الأخضر الإبراهيمي إلى طريق مسدود. الحكمة تُملي المثابرة على العمل لإنجاح جهود اشتقاق السبل الآيلة إلى وقف القتال وابتكار أسس حوار بنّاء يصيغ مبادئ بناء نظام جديد متحرّر من القيود التي كبّلت السوريّين ومنعتق من الطغيان الذي خنقهم خلال خمسة عقود ينطلق بسوريا نحو أطر ديمقراطيّة حُرم منها أبناؤها ليتيح لهم مشاركة فعّالة تنتشلها من وضعها المفجع وتنقلها إلى آفاق سلام وازدهار. مؤلم تغلّب الولاء للانتماء المذهبيّ على الولاء للانتماء الوطني لأنّه يشحذ الغرائز العدوانيّة ويشكّل تهديداً وجوديّاً للبنان. الموالون للنظام الإيراني والمؤمنون بمرجعيّته الدينيّة حظوا بدعمه المستمرّ والمنتهز لثغرات ضعف الدولة اللبنانيّة فنفد منها على الدوام دون استئذان سلطاتها. هذا الدّعم ولّد "باسدران" في لبنان خاضع لإيران لكنّه يعتصم في موقع "مقاومة إسرائيل" لإضفاء "العصمة والحصانة" على كلّ أعماله. عبّر بقية الأفرقاء اللبنانيّين عن عدم تقبّلهم هذه البدعة الهادفة إلى السيطرة على لبنان من خارج وداخل السلطة. وحدها الأجهزة الرسميّة مخوّلة ممارسة السلطات السياديّة، والحكمة تقتضي ليس فقط النأي بالنفس عن بؤر التصادم بل إبرام توافق منطقي في لبنان يكون مصدر تبريد لسخونة البقع الأخرى. هناك مؤشّرات تُظهر وعياً جليّاً لمخاطر المرحلة واستلهاماً للوجدان والضمير وانعاطفاً نحو تبدية أولويّة الحرص على المصلحة الوطنيّة والانفكاك عن مظلاّت الهيمنة الخارجيّة المعاكسة لها، فإلى أي مدى يزداد بيكار هؤلاء اتّساعاً وتأثيراً لسحب لبنان من محاور دوّامات الاعاصير لحفظه من مفاعيلها؟ أكاديمي مواظب على استطلاع ملمّ بالشؤون اللبنانيّة*