٢٤.٤.٠٥

فرحة من رحم المأساة

حميد عواد*

حزن وأسى مهيبان واكبا الشهيد باسل فليحان النائب و الوزير السابق إلى مثواه الأ خير.

وقع الصدمة نكأ جرحاً ما زال طرياً شقه هول كمين الإغتيال الآثم يوم 14 شباط في وجدان اللبنانيين الذين تفانى باسل فليحان في خدمتهم بإخلاص و سعة معرفة وإتقان.

الوجوم و الرهبة جللا الهامات المفجوعة: الأم، الزوجة، عائلة عميد الشهداء الرئيس رفيق الحريري، لفيف من سفراء الدول الكبرى و حشود من اللبنانيين.

الشعب الفرنسي، بلسان رئيسه جاك شيراك، قدّم تعازيه الصادقة و البليغة و عبّر برقة و نبل عن تعاطفه مع عائلة الفقيد.

وحدهما طفلا الشهيد باسل فليحان لا يدركان تماماً حجم الخسارة التى ألمّت بهما و انتقصت من رصيد الوطن قدراً مهماً.

لكن العزاء هو أن انسلاخ أجساد هؤلاء الشهداء عن مواقعهم و محبيهم ما غيب أرواحهم لأنها غدت ذخيرة بددت هواجس الخوف و أزكت مشاعر العنفوان و نفحت أنفاس الحرية و وثقت أواصر المواطنية و أطلقت مسيرة "انتفاضة أبناء الأرز" مواكب سلمية تعبر بصدق و رقي عن الحرص على كشف الحقيقة(حيثيات المؤامرة و هوية المتآمرين) و عن التشبث بالسيادة و الاستقلال في كنف نظام ديمقراطي يرعى حقوق الإنسان و يصون كرامة المواطن.

اللبنانيون و العالم أجمع مصممون على الاقتصاص من محترفي الإجرام الذين يتوسلون الإرهاب لإخضاع الناس الآمنين المسالمين، ليس من باب التشفي و الإنتقام بل ردعاً لمن تسول له نفسه اللجوء إلى مثل هذه الأساليب بعد اليوم.

لجنة اتصال تمهد الدرب أمام لجنة التحقيق الدولية المولجة كشف مرتكبي و مدبري عملية اغتيال الرئيس الحريري و صحبه، آتية إلى لبنان خلال أسبوع، و سيسبقها لجنة أخرى للتحقق من اكتمال انسحاب القوات السورية ليس جيشاً فحسب و إنما مخابرات و عملاء "متجذرين" في دوائر و مؤسسات الدولة أيضاً ( كلام الرئيس بوش خلال مقابلة مع قناة LBC ).

هذا الشغف الحثيث في التدقيق يعبر عن جدية العالم الحر في استئصال شهوة و براثن النظام السوري النازعة لابتلاع لبنان و هضمه، استجابة لما تاق إليه و ناضل من أجله اللبنانيون الأصلاء في سبيل استرجاع حرية القرار و السيادة والاستقلال.

هناك إذن استحقاقات كبرى يتوقعها اللبنانيون بعد مساهماتهم الفاعلة في الإعداد لها:

جلاء نهائي لجيش و مخابرات النظام السوري عن لبنان قبل 30 نيسان (متوقع خلال اليومين المقبلين) مما يجعل هذا التاريخ محطة وطنية مهمة يليق الإحتفال بها.

بعد حرق للوقت الثمين مع عمر كرامي ضغط فريق من قوى المعارضة بدعم فرنسي-سعودي لترجيح كفة تكليف المهندس نجيب ميقاتي تشكيل حكومة إنتقالية، تفادياً لكارثة تكليف عبد الرحيم مراد و منعاً لمحاولة تجاوز المهلة الدستورية لدعوة الناخبين.

هكذا ولدت حكومة برئاسة الأول أثار التحفظات عليها تعيين الياس المر وزيراً للدفاع و أعادة محمود حمود وزيراً ("للمناكفات") الخارجية (نتساءل إذا كانت الدكتورة بثينة شعبان "ستشرف" مجدداً على "تنقيح" مذكراته و خطبه).

و بما أن بعض الوزراء يوحي بالثقة علق اللبنانيون الآمال على إقرار قانون إنتخابي غير مفخخ يعتمد القضاء كدائرة إنتخابية تجري الإنتخابات النيابية على أساسه وتنظم تحت إشراف دولي (الإتحاد الأوروبي عرض خدماته و كذلك فعلت الولايات المتحدة و الأمم المتحدة).

لكن يبدو أن ثغرة المناورات لم تقفل تماماً. فبعد التعجيل باستيلاد الحكومة الجديدة للإلتفاف السريع على عملية قضم الوقت لتخطي المهلة الدستورية (دعوة الهيئة الناخبة قبل بداية شهر أيارلئلا نُنكب بالتمديد للمجلس الحالي ) ، استمرت محاولات استنفاد الوقت بالصيغ الملتبسة و المثيرة للجدل(وقد انتقدها خبراء في علم القانون) ليؤول الوضع إلى خيارين احلاهما مرّ: إما"التسليم" بإجراء الإنتخابات طبقاً للقانون الذي اعتمد سنة 2000 و إلا التمديد.

و طالما أن اعتماد القضاء كدائرة انتخابية هو الخيار البديهي لمن يحرص على تمثيل دقيق و أمين للناخبين، لا يمكن تصنيف المشاريع الأخرى إلا محاولات طمس وقحة للتمثيل الشعبي و إن ألبسها أصحابها شعارات براقة، هم أول الطاعنين بها.

هؤلاء بالذات هم ربيبو أجهزة المخابرات السورية و سماسرتها الذين تواطؤوا معها في الإنقلاب على الوطن و في التنكيل بشبابه الأباة و شاركوها في عمليات الإبتزاز و شفط المال العام و الخاص و احتكار الوظائف و المناصب.

هؤلاء بالذات هم الذين يُستنفرون ضد كل مساعدة دولية للبنان تحت ذريعة التدخل بشؤونه فيما يسمون استباحة النظام السوري لكرامات و مقدرات اللبنانيين و انتهاكه لقوانين و دستور و مؤسسات الدولة اللبنانية، دعماً أخوياً مميزاً.

هؤلاء بالذات هم الذين كفروا بنعم وطنهم و تبنوا تطلعات تتناقض مع بروز لبنان المميز، الحر، الديمقراطي، السيد و المستقل.

هؤلاء بالذات هم الذين "يشهرون" السلاح الديمغرافي في وجه من لا يوافقهم الرأي "لإفحامه" و كأن الحكمة و القوة و القدرة تكمن في الإفراط في الإنجاب دون التنبه إلى خطورة هذا المنحى الآيل إلى الفقر و المجاعة و الجهل و التناحر و المرض و الفناء. هل يبدي هؤلاء حسن النوايا و كيف يمكن اعتبارهم "شركاء"؟

أن النخب المتنورة الرافضة لهذه الإختلالات و هذا السلوك تتقاطب و تشكل هيئات و كتلاً متميزة عن مسيرة المنحرفين و الإنتهازيين، و تؤكد إيمانها بالوطن و ولاءها له منسجمة مع المنضويين في البوتقة الوطنية الجامعة.

مع تصاعد وتيرة الأحداث و تأجج المشاعر الوطنية يترقب مناضلو التيار السيادي بشوق لقاء القيادات التى أبقت جذوة الإيمان بالوطن متقدة والتي أُبعدت و فُصلت عن أهلها عنوة و ظلماً.

مع إنهاء الإحتلال أصبح تصويب ميزان العدل ممكناً و غدا اللقاء قريباً.

ها هو العماد ميشال عون و اللواءان عصام أبو جمرا و إدغار معلوف يتأهبون للعودة إلى ربوع الوطن بعد "سفر برلك" في أسطول جوي حاشد بالمؤيدين.

و ها هم النواب المتعاطفون مع مطالب جماهير التيار السيادي يقترحون تعديل قانون العفو ليشمل الدكتور سمير جعجع الذي اعتقل ظلما و قاسى11 عاماًً من وحشة السجن و غدا الظرف سانحاً لإطلاقه.

سيل من التطورات السعيدة تتلاحق و ولادة جديدة للوطن على وشك الإكتمال فلنبدأ الإحتفال ولو أن ورشة "تنظيف" طويلة و جذرية تنتظرنا.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١٠.٤.٠٥

شق الطريق بحثاً عن الحقيقة

حميد عواد*

ما توفير الغذاء و العناية الصحية إلا تأمين للوقود و الصيانة الضروريين لجهوزية العقل "في الجسم السليم" لتقبل المعارف و لوعي مكانته و دوره في المجتمع الإنساني .

لكن المهمة الأسمى تكمن في جودة إعداد المرء فكرياً و ثقافياً و أدبياً لتنكّب مهام نافعة و مفيدة و منشطة لتقدم المجتمع.

أما إذا وقع "خطأ فادح" ( عفوي أو مقصود) في "البرنامج التأسيسي لتشغيل الدماغ" تحول حامله إلى قنبلة موقوتة إلا إذا حدث تدخل لإصلاح العطل.

يمكن إدراج تدخل العالم الحر، مباشرة أو عبر مؤسساته الدولية، لإصلاح الأنظمة المتخلفة و إعتراض النزعات الهدامة و التصدي للثورات الهمجية، في هذا النطاق، بقصد الإنفتاح و حل النزاعات بأسلوب سلمي، حضاري و بناء.

فتوسل العنف و الإرهاب لقمع رأي حر مسالم أو إلغاء غريم راق هو تعبير وحشي عن إفلاس فكري عجز صاحبه عن المقارعة بالحجة و المنطق.

و ما اغتيال الشهيد رفيق الحريري، الرئيس السابق لوزرات متعددة في لبنان، إلا عمل إرهابي خطير ينمّ عن جموح إجرامي جارف، ظن مدبروه أن العالم الكثير الإنشغال بمكافحة الإرهاب في بقاع متفرقة لن يتفرغ لتفكيك "معتقلاتهم الحصينة" و تحرير أسراهم المتمردين على الظلم، و لم يتوقعوا هذا الإنكباب الحثيث على ملاحقتهم.

الإستنفار العالمي المستمد زخمه من النهوض اللبناني العملاق والنشط بلا فتور، قضى بتشكيل بعثة تقصي الحقائق المنتدبة من جمعية الأمم المتحدة.

و استناداً الى الإهمال المعيب الذي إعترى التحقيق "الرسمي" و العبث المشبوه بالأدلة و إلتقصير الفاضح في السعي لجلاء ملابسات الجريمة، إضافة إلى خطورة شحن الأجواء الممهدة للإغتيال بتسعير التحريض على الشهيد، أوصى فريق تقصي الحقائق في تقريره المرفوع إلى الأمين العام كوفي أنان بضرورة تشكيل لجنة تحقيق دولية للغوص في صلب شبكة الجريمة و سبر كل أبعادها.

و ما أن أحال الأمين العام للأمم المتحدة التقرير إلى مجلس الأمن حتى أصدر هذا الأخيربالإجماع، بعد مداولات تخطت عقبات أثارها بالواسطة ممثلو بقايا السلطة الآفلة ، القرار1595 الذي يقضي بتشكيل فوري للجنة تحقيق (تيمّناً بالحقيقة) مكتملة المهارات بشرياً و التجهيز تقنياً، متمتعة بصلاحيات واسعة النطاق نابعة من "ميثاق إمتيازات و حصانات الأمم المتحدة"، مخولة الولوج بلا عوائق إلى كل الأماكن و الإطلاع على كافة الوثائق و الأدلة التي تجدها مرتبطة "بالجريمة الفظيعة" و مقابلة الأشخاص الذين ترتئي استنطاقهم دون استثناء أحد.

هذه المهمة الموكولة لثلاثة أشهر قابلة للتمديد فترة مماثلة تهدف لمساعدة السلطة اللبنانية في استقصاء كل أوجه "العمل الإرهابي" و كشف هوية مرتكبيه و مدبريه و المساهمين في إعداده و المساعدين على تنفيذه، لتتخذ حينها، حكماً، هذه السلطة التدابير القضائية الملائمة بحق هؤلاء المذنبين.

كما يلزم القرار كل الدول و الفرقاء بالتعاون التام و المطلق مع اللجنة خاصة فيما يتعلق "بالعمل الإرهابي" (الإغتيال).

و ذكر مجلس الأمن في مقدمة القرار بوجوب احترام سيادة لبنان و سلامة أراضيه و وحدته و استقلاله السياسي برعاية سلطة الحكومة اللبنانية دون منازع، كما شجب أعمال التفجير الأخيرة و حضّ كل الأطراف على "الإنضباط" و اعتماد السبل السلمية حصراً لتقرير مستقبل البلد.

لن نعجب إن "يلجأ" بعض "النجوم"، المحشورين بالتصميم الدولي على إماطة اللثام عن فصول الجريمة النكراء، إلى التفتيش عن "ملاذ آمن" خفيّ عن الأنظار، متمثلين بإحدى "نجوم" فضيحة بنك المدينة المتمادية الجذور.

و لن نذهل إن نشط أعضاء لجنة التحقيق في تقفي آثار "مخرجي" فيديو "أبو عدس، و منفذي اشغال الطريق التي أجريت في موقع الإنفجار قبل وقوعه بفترة وجيزة.

و لن نشده إن نبشوا بحذاقة الشهود المتوارية و دققوا بعناية بالغة في مسرح الجريمة و حللوا بمهارة فائقة الأدلة بواسطة تجهيزاتهم المتطورة.

و لن نفاجأ إن "داهموا" الغرف السرية و القصور، داخل لبنان و خارجه، و استجوبوا أربابها.

و لن نستغرب أيضاً إن استنطقوا أصحاب الكسارات و طواقمها ليستفسروا عن مصادر حصولهم على المتفجرات و كيفية التصرف بها و أماكن تخزينها.

و لن نندهش إن استدعوا للتحقيق "وجهاء" و قراصنة و لقطاء شبكة المخبرين التي يُتمت، على تنوع مهامهم و مراتبهم، و سألوهم عن "الخدمات" التي أسدوها مقابل اغترافهم الثروات التي سرقوها من المال العام و الخاص.

كل الدروب سالكة أمام هذه اللجنة و النجاح بلا ريب سيكون حليفها. و لربما تشأ "الصدف" أن تكشف في طريقها جرائم كبرى سابقة بقيت حتى الآن طي الكتمان.

لا يسعني أن أختم حديثي دون التعبير عن اغتباطي بقرب انجاز انسحاب جيش النظام السوري و مخابراته من الوطن، و دون أن أنوّه بفخري و اعتزازي بأبناء وطني الذين عصوا على الطغيان، وثابروا على التشبث بالحرية والسيادة و الإستقلال، و مهدوا الدرب لإخوانهم المكبوتين ليطلّقوا الخوف و يتّحدوا بهم في بوتقة وطنية رائعة نتمنى لمن حنث بها أن يدرك أهميتها و يتنعم بحلاوتها.
حذار المقامرة بهذا الإنجاز الثمين فهو ملك الشعب العظيم.

تحية وفاء للقيادات التي ألهمت الجماهير، منها من غيّبه الغدر و منها من يتأهب لملاقاة المواطنين.

فألمنفيون عنوة عائدون و المسجون ظلماً سيطلقون و العرس التاريخي المنتظر بشوق سيبدأ.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية