٢٤.٤.٠٦

لا تضيّعوا الفرص!

*حميد عواد

سئم اللبنانيون مرارة الصراعات التي جُرّعوها لأكثر من جيل، و قالوا كفى لمن يحاول استدراج المزيد.
فقد أنهكتهم ضراوة الحروب البديلة و المعارك الموكولة و استنزفتهم و استنفدت طاقاتهم.
قاوموا الإعتداءات بالسلاح يوم عجزت الدولة المتفككة عن حمايتهم و تخلى عنه معظمهم يوم أبرم اتفاق الطائف التزاماً بقيام الدولة المرجوة و إطلاقاً لجهود الترميم و النهوض و التنمية.
لكن حساب "حقل" الطائف ما انطبق على حساب "بيدر" النظام السوري الذي اجتهد أربابه بلا هوادة للإيقاع بلبنان فريسة بين أشداقهم.
فتصدّى سلمياً، لكن بصلابة و عناد خارقين، لأطماع هيمنتهم الكلّية على لبنان، الحراس الأشاوس لوطن الأرز، معقل العزة و الحرية و الكرامة و محضن المعرفة و الثقافة و الفرادة، إحباطاً لخنقه و منعاً لإبتلاعه.
و في ذروة مجون النظام السوري الثمل من امتصاص رحيق عافية اللبنانيين و المتلذذ برشف دماء شهدائهم، استفاق العالم الحرّ من غفلته و أدرك خطورة هذا الجموح.
و زاده تيقظاً مرافعات عميقة و شاملة تحثّ على تخليص لبنان، دبّجها لبنانيون مغتربون نافذون لدى إدارات دول القرار في المهاجر.
فتوافقت فرنسا و الولايات المتحدة على ضرورة إغاثة لبنان و إلحاح مؤازرة كفاح أبنائه المتوثّب لإستعادة حريته و سيادته و استقلاله.
و صِيْغَ قرار مجلس الأمن الدولي 1559 (2 أيلول 2004) الذي قضى بخروج الجيش السوري من لبنان.
لكن غداة اتخاذ القرار طُبّقت "رغبة" الرئيس السوري بتعديل الدستور اللبناني و التمديد للرئيس لحود ثلاث سنوات (تجنباً ل "تكسير لبنان على بعض الرؤوس") بتمهيد و تنسيق من جانب "ضابط" إيقاع الأمن في لبنان آنذاك اللواء رستم غزالة (غزالة أكّد "ترتيب" مشروع التمديد في حديث لجريدة "الرأي العام" منذ بضعة أسابيع).
و في دلالة على الأهمية "الستراتيجية" التي تكمن في هذه "الرغبة" شبّه الرئيس السوري إقصاء الرئيس لحود عن سدة الرئاسة بمثابة "فصل لبنان عن سوريا".
رغم تمرير التمديد لم يهدأ غضب القيادة السورية من إصدار القرار 1559 و لم يُشفَ غليلها.
و علا التهديد و الوعيد و ما لبثت أن انطلقت مكائد اغتيال بدأت بالنائب و الوزير مروان حمادة (و قد نجا من الموت بأعجوبة) و انتقلت إلى استهداف موكب الرئيس رفيق الحريري بتفجير هائل قضي عليه و على اثنين و عشرين من مرافقيه.
ثمّ كرّت السبحة على تقّطع لتطال شخصيات إعلامية و سياسية بارزة مناهضة لسلوك النظام السوري كان آخرها النائب جبران التويني شهيد الحرية و شفيع الأحرار.
إذ كان متجذراً في كل محافل الدفاع عن الكرامة الوطنية و القيم الديمقراطية و حقوق الإنسان و منغرساً في شرفة معقل نضاله، صحيفة "النهار"، يقارع الحصار و يحفّز الهمم و يحصّن منبراً للراي الحرّ المضطهد في زمن القمع و التنكيل.
مقتل الرئيس الحريري (14 شباط 2005)، الذي بنى أرصدة ثمينة تحظى بالتقدير و الإعجاب محلياً و عالمياً، فجّر بركاناً من الغضب الشعبي و أطلق إنتفاضة الأرز.
و زخم تدفق حمم هذه الثورة، المتأججة في مرجل من الإتهامات، سرّع خروج الجيش السوري في 26 نيسان 2005.
لا مفرّ من استعراض هذه المراحل لأنها تبرز في واجهة الذاكرة كلما خطر الوطن في البال.
و ما هذا الحضور الدائم لمحطات من مسيرة الإستقلال إلا برهان دامغ على أهميتها و على جلالة التضحيات المبذولة خلال شقّ دربها و على ضرورة اعتقال الرؤوس المدبرة و الأيادي الآثمة المتورطة في سفك دماء الشهداء. يلازم هذا الإنطباع الراسخ في الأذهان هاجس التوجس من إعادة تحريك أوكار الإجرام و التخريب و تحذير من عواقب إعاقة خلع ذيول الحقبة الآفلة و تفكيك شبكاتها.
و مثلما سبق إغتيال الشهيد جبران التويني محاولة إغتيال مزعومة بدت و كأنها تمهيد لإرتكاب الجريمة، نتخوّف اليوم من أن يكون الطرح المشابه نذيراً لإرتكاب إغتيال يحتمل الكثير من التأويل!
رغم ارتياحنا لإنحسار "غارات" أوكار الإجرام نتساءل عن سرّ ركونها فيما يشير حدسنا إلى الإنذارات و المداخلات الصادرة عن مسؤولي دول صديقة للبنان وُجّهت إلى عنوان واحد.
إذن في غمرة غبطة الإنفتاح لا يغيبنّ عن البال أنّ النبيه من الإشارة يفهم فلا يُلدغ من الجحر مرتين.
و يحضرنا في هذا المقام بيت شعر للمتنبي قال فيه:

إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظننّ أن الليث يبتسم (يُؤتمن)

لقد أجمع الفرقاء اللبنانيين خلال مداولاتهم حول طاولة الحوار في المجلس النيابي على ضرورة ترسيم الحدود مع سوريا الذي يشمل شبعا ضمناً، و جعل العلاقات معها كعلاقاتها مع بقية الدول تمر عرفاً و قانوناً عبر سفارتين بمنأى عن ضباب "التمييز" الذي يطوي تحت حجبه نهم ابتلاع لبنان.
إضافة إلى إقرار المبادرة إلى تأمين سحب السلاح الفلسطيني من خارج المخيمات (السوري الولاء) إلى داخلها، توطئة إلى إناطة حمايتها لاحقاً بالدولة.
رغم ذلك يتهرّب مسؤولو النظام السوري من الإستجابة للمطالب اللبنانية فيتذرعون بإستحالة رسم حدود شبعا طالما هي محتلة و يردفون قائلين إنها جزء من الأراضي العربية المحتلة فلا يجوز التحرير الجزئي و إنما الكلي!
و في معرض التملص من التمثيل الدبلوماسي بتبادل السفراء يقولون أن هذا الشأن غير مهم مقارنة مع الإتفاقات المعقودة مع لبنان!
و يبدو واضحاً أن الطرف السوري يربط شبعا بالجولان لتبقى منفذاً "وحيداً" مفتوحاً لمناوشات مع إسرائيل ينتدب المحور الإيراني-السوري حلفاء محليين للقيام بها.
كما أنه لا يريد التقيد بضوابط التمثيل الدبلوماسي لنكرانه إستقلال لبنان (طوبى لحلفائه) رغم أنّ ضرورة التمثيل ليست ضمانة مطلقة لإقامة علاقات سوية.
فإيران مثلاً أسهمت بالمال و السلاح و التدريب على القتال و التوجيه الديني في فرز شريحة من المجتمع اللبناني منفصلة عن الدولة و منفصمة عن بقية الشرائح الوطنية.
و هي جادة في تسليط الأنظار إليها و "تخصيب" نفوذها بتخصيب ترسانة السلاح و تخصيب العقيدة الجهادية و تخصيب التحالفات و تخصيب الموارد و تخصيب الإنجاب إضافة إلى تخصيب اليورانيوم.
و بإقتطاعها نصيباً مهماً من النفوذ لدى الفصائل الفلسطينية عبر مختلف وسائط الدعم أكملت جزءاً مهماً من فسيفساء تبعث في الذاكرة صورة الأمبراطورية الفارسية (فكرة أوردتها في مقالة كتبتها تحت عنوان "بين المطرقة و السندان" و ترجمتها إلى الإنكليزية في بداية سنة 2005).
ما يهمنا في الحقيقة حل كل الخلافات بالوسائل السلمية و تحييد لبنان عن مجرى الصراعات الدامية.
لن نكون جائزة ترضية بعد الآن لأحد و لا نريد أن نكون قاذفة لهب في يد مختلّ يبهجه إشعال الحرائق.
ننشد الوئام و التماسك في "كيانيّة" وطنية فريدة و منيعة لا يفتّتها التزمّت الديني ولا يشتّتها الولاء الهجين لرافعي الشعارات الفضفاضة.
إنّ التفنّن في عرقلة قيام الدولة الديمقراطية الحديثة مهما أُتقن يعجز عن ستر سوء النوايا المضمرة.
وحدهما التعاون الصادق و الإجتهاد في العمل البنّاء مزوّدين بالولاء الوطني هما معيار صفاء النوايا و نقاء الضمائر.
فرنسا و الولايات المتحدة الأمريكية، رغم إنهماكهما في شؤون بالغة الأهمية، يتصدّران طليعة المجتمع الدولي ليثابرا على احتضان لبنان و رعاية مسيرة نهوضه، يقيانها العثرات و يحميانها من الإنتهاكات.
و هما يوجّهان إلى سوريا و إيران رسائل متتابعة للتعاون في تطبيق القرار الدولي 1559 و يحذّرانهما من مغبة محاولات إحباطه ممهلين اللبنانيين فرصة لإيجاد الصيغة الفضلى لتنفيذه.
لذا لم يغفل لارسن في تقريره إلى الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة ذكر سوريا و إيران لتحميلهما مسؤولية أي محاولة إجهاض لهذا القرار.
إن ربط لبنان بتحرير الجولان و حلّ مشاكل القضية الفلسطينية هو مشروع نزاع و خطة منهجية لتفريغ الوطن من غالبية أهله.
و اللبنانيون مدركون لمرامي هذه الخطة و يعرفون أنّ توقيعاً سورياً على محاضر خرائط ترسيم الحدود مع لبنان كفيل بإثبات لبنانية شبعا و استعادتها بأحكام القرار الدولي 425، كما يعون أنّ حقً الفلسطينيين بالعودة هو أضمن متى انتقلوا من لبنان إلى كنف السلطة الفلسطينية.
شكراً لمؤازرة أمريكا و فرنسا و الدول العربية الصديقة.
و حبّذا لو يترفع الفرقاء اللبنانييون عن المهاترات و يوحّدوا الجهود المخلصة لإنجاز مراحل تثبيت الإستقلال و دوزنة التوازن و تأهيل المؤسسات و تصحيح القوانين و إنعاش الإقتصاد.
لآ تضيّعوا الفرص السانحة!
و حذار الإنقلاب على الدعم الدولي و تبديد رصيد المناضلين و تهميش تضحيات الشهداء!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية