٤.١٠.٠٩

شراكة كونية و شراك موضعية

*حميد عواد

تثبت التحولات و التطورات المتلاحقة الحاصلة على مدار الكرة الأرضية ترابط مصالح المجتمعات و الدول، و خاصة طليعييها، و تبرز حاجتها إلى الشراكة في إستنفار الأدمغة و صهر البحوث و تنسيق المساعي لتهيؤ ملائم لجبه التحديات و تذليل العقبات و تقليص الأخطار و مكافحة الأمراض و تثمير المعرفة و تحفيز النشاط و تكثيف الجهود و تسريع وتيرة التطور.
فالأزمات عبرت الحواجز و القارات و عصفت بالعالم كله فلفّه التلوث البيئي و الإحتباس الحراري و الكوارث الطبيعية و التصحر و المجاعة والعطش و سلالات منيعة من الأوبئة.
كما أستنزفه إستعصاء بعض النزاعات المزمنة و المعقدة على الحلول و تيسر التسلّح و تعثر إجتثاث بعض جيوب الإرهاب و أربكه تشابك الأزمات السياسية و الإقتصادية.
و أستفاق من غفلة الإسراف في إستهلاك مخزون وقود الطاقة و تنبه إلى نضوب المصادر الطبيعية.
في هذا الإطار تنجلي بوضوح صورة المواطن الكوني الذي غدت رعايته و حماية حقوقه و الحفاظ على أمنه و سلامته مسؤولية عالمية النطاق إنسانية الجوهر.
فراحة الفرد لا تريح عائلته و مجتمعه فقط و إنما تنعكس إنفراجاً عميماً على البشرية، و كذلك بؤسه تتسرب مفاعيله كالأعاصير و الزلازل إلى كل بقعة و تهزّ كل وجدان.
تستشعر الدول الكبرى، الرائدة في إلتزام القيم الديمقراطية و الحفاظ على الحريات و توفير العدالة و حماية حقوق الإنسان، الحاجة الملحّة إلى بذل المزيد من الجهود بتيقظ و حذر، لتصويب المسار و صقل المعايير و ترسيخ الإنصاف و تركيز الأهداف و توطيد الثقة.
لكن الأنظمة الهجينة "المنزلة" من "الغيب" أو "الهابطة" ب"مظلات" إنقلابات عسكرية قمعية تحكم قبضتها على شعوبها المقهورة و تحرّم عليها التواصل مع العالم "الخارجي" كي لا "يفسد" أفكارها.
و تعمد هذه الأنظمة "المعصومة" إلى إحباط كل جهد تبذله الدول المتحضرة لمد جسور التواصل مع الشعوب المسحوقة أو "المسحورة" ب"ألوهية" الحاكم و تضرب بضراوة كل إنتفاضة شعبية أو نخبوية تثور على الظلم و تحضّ على الإصلاح.
و كلما نجحت في التعسّف أو شُبّه لها النجاح عمدت إلى الإحتفال ب"النصر" و الإعتداد ببطشها بالضمائر اليقظة "المتآمرة" و سخرت من قصر يد الدول الحرة في دعم ضحايا تنكيلها و فشل محاولة "إختراقها".
لقد دفعت فورة نشوة "نجاح" هذه الأنظمة "الفريدة" إلى مدّ سلطانها خارج حدودها و "تصدير" عقائدها و أنماط حكمها و مدرّبيها و مخبريها و سلاحها إلى أنصارها و حلفائها في دول الجوار تحت شعار "التحرير من الإحتلال".
من الأمثلة الحية لهذا النمط من الممارسات وضع لبنان الذي شكلت البلايا التي ألمّت به فرصاً سانحة لنظامي سوريا و إيران كي ينشئا تنظيمات مسلحة ترتبط عضوياً بهما و تكرّس كل "إنجاز" و "توسّع" و "مكسب" لخدمتهما.
و غدا النظام اللبناني الديمقراطي الحرّ، التعددي و النموذجي هدفاً للخلخلة و الإرباك و الكبح من قبل "الخلايا العسكرية الجذعية" الإيرانية-السورية التنشئة كي تبرز نفوذ هذا المحور في لبنان و تبتزّ من الدول العربية و الغربية "المكاسب" لصالحه عند كل إستحقاق دستوري، فيما تثابر على قضم الأرض و نهش مؤسسات الدولة اللبنانية.
ليس صدفة إدعاء الصحف السورية الرسمية بفظاظة أن النظام اللبناني "يحتضر" لأن هذه هي أمنية مرجعيتها.
و كذلك هي إستراتيجية النظام الإيراني من خلال "تخصيب خلاياه" و تحفيز نفوذها و تمددها داخل لبنان بلوغاً إلى بسط "سلطانه" على وطن الأرز الذي عصي على محاولات شرسة و متكررة لتذويبه.
إن التجاذب السياسي الرازح تحت ضغط السلاح الفئوي في لبنان يشكّل ذروة الصراع بين النظام الديمقراطي و النظام الشمولي التعسفي.
لقد كُتب على حرّاس النظام البرلماني الديمقراطي في الوطن إختبار دائم لإثبات تشبثهم بحرية و سيادة و استقلال لبنان و حرصهم على إحترام أحكام دستوره و صيانة مؤسساته.
لقد بذلوا التضحيات الجليلة قهراً و إستشهاداً لدرء الأخطار عن الوطن فيما إلتحق الإنتهازيون بقاطرة حلفاء الأنظمة الهجينة و أرتضوا أن يكونوا مطيّة لضرب نظامه.
الواجب الوطني يحتّم على التيارات السياديّة حشد الطاقات و شد أواصر التعاون و الوقوف جبهة منيعة في وجه تيار التبعية لإثبات حق اللبنانين بالعيش الحرّ الكريم بعيداً عن أطياف الهيمنة.
لقد إنتدبتهم غالبيّة اللبنانيين لإظهار تصميمهم الصارم على منع إسقاط النظام في لبنان و التمسك بالولاء الوطني و تقديم مصالحه العليا على أي مصلحة تناقضها.
إن مخاض تشكيل الحكومة هو مظهر من مظاهر هذا الصراع المضني و لو كان الوفاء للوطن يهدي جميع القوى السياسية لسهل التأليف.
أما طالما إستمرأ "فرسان" المحور الإيراني-السوري لعبة التمسك بحمل السلاح خارج سلطة الدولة اللبنانية و التهويل به في وجه التيارات السيادية لفرض نفوذهم المجيّر و هيمنتهم على مؤسسات و مرافق في الدولة فإن الوفاق يصبح مستحيلاً لأنه يسقط لصالح مشروع توسيع الدويلة على مدى الدولة و الوطن.
إن إرتباط مجموعات لبنانية بعلاقات خاصة و طيبة مع بعض الدول يكون خيّراً إن جُيّرت هذه العلاقات لمصلحة الوطن.
أما رهن الوطن أرضاً و شعباً كرمى لخدمة مصالح رعاة على حسابهما فهو إستعباد.
إن معيار سلامة العلاقة بين الدول هو التعامل الندّي من خلال المؤسسات الرسمية.
أما قيام دولة بتجنيد مقيمين في بلد آخر و جعلهم "قاعدة" عسكرية غبّ أمرها فهو إنتهاك فاضح لسيادة هذا البلد مهما كانت التبريرات.
"الحرس الثوري" متقمّص و كامن في لبنان بإنتظار "نضج" ظروف بسط مشروعه و بين أذرعة النظام السوري "المخيمة" في لبنان ( الناعمة و حلوة و قوسايا) فصائل فلسطينية الهوية سورية الولاء يصف قائدها المطالبة بتسليم سلاحها للدولة اللبنانية بالمطلب الإسرائيلي!
لقد أصبح التسيّب حقّاً مكتسباً و مقياساً للمقاومة!
"يتقبّل" حاملو مشروع "الدولة الفاضلة" النظام الحالي ب"تقيّة" و يقولون أن على الآخرين تقبّل نظامهم متى مالت الغلبة العددية لمناصريهم.
فهل "الإجتهاد" لإنتاج هذه الغلبة بلوغاً للغاية النهائية هو هدف نبيل و مقبول من اللبنانيين؟
ما معنى الشراكة و كم تدوم إذا خطط شريك لتهميش و إزاحة بقية الشركاء؟ ما قيمة الشراكة إذا ضاق صدر فريق لبناني بتنوع المجتمع اللبناني و تميّز نظامه الواجب الوجود في موقعه؟
رغم أوزار الصراعات و الأطماع على لبنان تبقى ألوان الأصالة في تنوع لبنان البشري كتنوع جماله الطبيعي و ثماره الطيبة مصدر خير و إشعاع أغنى مجتمعه و محيطه العربي و العالم، فهل من الحكمة جعل هذه النعمة نقمة و هذا النعيم جحيماً؟
شهداء الوطن يترقبون بشغف تبليغهم أن أرواحهم العزيزة سيّجت الوطن واحة وئام و سلام و رجاء و هناء لأهلهم فيطمئنوا. فمتى تُزفّ إليهم البشرى؟

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية