١٣.٦.٠٩

مراجعة كتاب "سنابل السنين"

بمناسبة صدور كتاب "سنابل السنين" عن دار ABCfacile للنشر لمؤلفه الأستاذ إلياس كساب رئيس المجلس القاري في أمريكا الشمالية، أقامت الجامعة الثقافية في العالم إحتفالاً تكريمياً لتوقيعه، ألقيت فيها هذه المراجعة ضمّنتها إنطباعاتي و مقتطفات منه

حميد عواد*

يستضيفنا اليوم صديقنا العزيز الأستاذ إلياس كساب على مائدته الأدبية الشهية حول طبق متنوع النكهات اللذيذة، مغذٍ للفكر و ملهمٍ للقريحة و مثير لمشاعر الحنين إلى الوطن، عنوانه "سنابل السنين".
صدّر المؤلف كتابه بإهداءٍ رقيق مليء بالعاطفة و التقدير لزوجته و شريكة حياته حنان كما شمل إبنه كميل و إبنته مريام بهذه الإشارة. ثم ختمه بشكر خاص لمجمل أفراد العائلة منوهاً بعرفان جميل لإلتفاف أخوته و أخواته حوله و لرعايتهم جهوده، متوّجاً الشكر بإلتماس بركة و رضى والديه.
لقد إستودع الأستاذ كساب كتابه هذا حصاداً نثرياً و شعرياً يختزن حكمة من عصارة تجارب عاناها و تأملات خبرها خلال محطات من مسار حياته. صاغها من جوارح قلبه و متنها بتحليلات عقله و صهرها بحدة ذكاء و مهارة جواهر نفيسة و سبائك ذهبية إنسكبت في قوالب أدبية أنيقة و بليغة، فضمن لها "عبوراً مقدساً إلى روح القارئ".
لقد فتح قمقمه السحري فخرج منه مارد حكيم يطيب الإستماع إليه، و كسر قارورة عطره ففاح منها شذىً منعشٌ عبقت به الأنفاس. كما فجّر ينابيع مياهه العليلة، فوافاها العطاش للإرتواء، و أشعل الألوان في أضوائه فإجتذب الفراشات و رسم أقواس قزح.
و لأنه موسيقار مرهف نقرَ على أوتاره ألحاناً شجيّة مطربة غنّت على إيقاعها العصافير و تآلف معها خرير المياه و حفيف أوراق الحور.
خواطره و قصائده تبوح بمكنونات فكره و خلجات أحاسيسه حيال قضايا و مواضيع متفرقة تتراوح بين دفء العاطفة العائلية و اللهفة و الحنين إلى الوطن و عشق الطبيعة، إضافة إلى نظرته حول شؤون إجتماعية و وطنية و معضلات أوسع نطاقاً.
في النصف الأول من "سنابل السنين" نثر كاتبنا العزيز باقات من سنابل خواطره البهية، النضرة و الناضجة وبثّ نبضات أحاسيسه الصادقة، فحدثنا عن الغربة و الهجرة، الحب و المحبة، الماضي و الحاضر، الحرية و العبودية...
بعد لفت إنتباهنا إلى أن القيادة الأصيلة تترسخ بالتجذر في قاعدتها، تطرق إلى إيمانية و عنفوانية الإلتزام الوطني فقال:

"عِشْ عزيزاً لا تمالئ، فالقضية تستقيم
مُت شهيداً للمبادئ لا ضحية للزعيم"

ثم أفادنا عن ثلاثة أقانيم مترابطة: عظمة صنّاع التاريخ المحفورة في التحولات التي إشتقتها و عظمة المؤرخين النابعة من أمانتهم في الإخبار عن الأحداث و عظمة القارئ في تفاعله مع ما يقرأ.
و بأسلوب شيّق صوّر لنا النضال إحتكاكاً و شحذاً مدوزنين بين السيف و القلم، و حذرنا من طامة التلوث الأخطر: تلوث الفكر.
و حثنا على النقاوة في التعاطي مع الأخرين و على تفادي الإنبهار بلمعان الشكل لأنه يعمينا عن كُنْهِ المضمون.
و لأنه ناشط لا يهدأ حفّزنا على المبادرة و الإقدام و عمل الخير.

أما النصف الثاني من "سنابل السنين" فمرصّع بقصائد بديعة أطلق أديبنا العنان لقريحته الشعرية و مخيلته الخلاقة و موسيقاه التصويرية في نظمها.
قصيدة "من أنا" بدأها بتعريف ينمّ عن أصالته:

"في الهوى مشرقي، من جبل عنيد أغلّ في جذوري كقدري الوحيد"

و يختمها بصورة الوطن و التراث المنطبعة في ذهنه أنّى توجّه، إذ يقول:

"في الهجر و البعاد تسكنني بلادي محفورة ببالي مآثر الجدود"

تحت عنوان "زمان الهجر" يعبر عن التوق الدائم إلى المنبع المتأجج بإضطراب الإبن القلق الملهوف للإرتماء في أحضان امه. يقول:

"أزرع الروح وعوداً في نهاري أحصد القلب حطاماً في منامي
يا بلادي في حنانيك إهتدائي و هنائي و هدوئي و سلامي"
من قصيدة "يا بلادي" أقتطف بيتاً بطّنه شاعرنا دعوةً لغسل القلوب، حيث قال:

" يا بلادي طهّري القلب المجافي و إفتحي الأبواب حبّاً بالجمال"

جمال الطبيعة مصدر وحي دائم و مناجاة حنونة لشاعرنا الملهم، و قصائده في هذا النطاق تصحّ للغناء. تحت عنوان "أيّها الطير" أنشد:

"و سهول الخصب تحضنها الورود و حفافي الحي تغمرها الدوالي
و ضفاف النهر ملعبها الوهاد و عيون الماء تزخر باللآلي"

و لأنه فنان يعشق الموسيقى، نظم قصيدة على عزف العود و أطرب، فذكرنا بالموشحات إذ قال:

"إحمل العود و غنّ طرباً داعَبَ الشوقُ حنينَ الوترِ
و غدا الحب أميراً ساحراً سارقَ اللحظات حُلوَ السهر"

و تبلغ سمفونية الطبيعة ذروتها بحلول الربيع الذي يدخل البهجة إلى كل القلوب. لذا أشركنا شاعرنا في إحتفاله بالربيع رمز التجدد فدعانا قائلاً:

" حيّوا الربيع و شرّعوا ابوابكم للشمس، للآمال، للآهات
حيّوا الينابيع التي من صفْوِها تَهِبُ الثرى رمقاً لكل حياة
قدر الفصول السحر أنّى حُزْتَه إنّ التجدد من جنى السنوات"

جودة خمرة الحب في قصائد شاعرنا تُسكر قارئها و سامعها. تحت عنوان "أسقني" نظم قائلاً:

"أسقني من خمرة الحب العتيق كأسَكِ المملوءَ شوقاً و هياماً
إن سقينا العمر ورداً و مُداماً تنتشي اللحظات من رشفٍ رقيقِ"

في قصيدة غزلية بديعة عنوانها "لمّا أضمّك" قال:

"تتبارك الشمس على جبهتك يتنزّل الشِّعر إذا الشَّعر إنسدل
يروي حكايات التشوّق و القبل و العطر ينضح من مفاتن قدّك"

الإيمان بالله منطبع في عدة قصائد بين إبتهال: أنت دربي، أنت حبي، أنت قلبي. و مناجاة للذات: "في ثورة الأيام صلّي لا تملّي". وصولاً إلى قصيدة "يا بحر" حيث قال:

" بل وحده الإيمان يجتاز المدى و يطوّع الإعصار إن يتفاقمِ
و إعمل بهدي الله تُمنح نعمة تُغني الشباك بفائض من مغنمِ"

و في قصيدة "موئل المتعبين" يخبرنا أنه في ليالي الأرق المضنية وحدها الصلاة هدّأت روعه و أعانته على الإغفاء من جديد، ليخلص إلى القول:

"هو موئل المتعبين و ملجأٌ فألقوا عليه بحملكم تتصبّروا"

لقد أعطى الشاعر للنقد السياسي و الإجتماعي الثاقب حيّزاً في شعره. فتحت عنوان "ما بالها الصحراء" عبّر عن قلق من تمدد التصحّر الفكري و العقائدي ثم قال:

"خيولنا لم تَعُدْ أصيلة "الموت للموت" غدا بطولة"

و إستطرد منتقداً جعل الطفولة وقوداً و الفكر طريداً و الوقت جموداً و التدمير عيداً و الدين قيوداً.
في قصيدة "سابح في بحر الظلام" حضٌّ على مغادرة الظلمة و نشدان النور و أطلق دعوة للتسامح:

"أيّها السابح في بحر الظلام خفّفِ الروع و بادر بالسلام
.................................. ...................................
لا تبارح موطن الروح و سامح وحده الله كفيل بالأنام"

قصيدة "جئتك بيت لحم" يفتتحها بالتالي:
"يا سيدي أبحث عن مذودك، لم أجده، فلقد تغيّرت المعالم، فكهوف الأرض ملأى بالجماجم"

لكنه يختمها ببشارة الأمل الناضحة من طهر براءة الطفال و توهّج ذكائهم.

ختاماً لنطلق صرخة غضب مدوّية علّها توقظ الضمائر الخدرة و لنلهب الهمم منشدين هذه الأبيات من قصيدة "ما خفّ الحنين":

"شهداؤنا يصطادهم جلادنا لبنان حفّار المنايا جاره
إنّ التوابع للغريب تنازلوا عن ساحنا و الساح له ثوّاره
يا ثورة الأرز الملاحم دبّجي فوق الربوع، فوعدنا نختاره
نقِّي الأديم،تأجّجي و تدجّجي بالحقّ يصدح للمدى أحراره"

عزيزي إلياس، مباركة باكورة كتبك في الأدب المهجري الجديد.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية