١٩.١٢.٠٥

"صيد" آثِم بعد "إنذار" لاغِم:الجسد أشلاء أما الفكر فضياء

حميد عواد*


قرار مجلس الأمن 1559هو إعلان بليغ لإحياء قيم الديمقراطية و حقوق الإنسان في لبنان، و هو فاتحة خير و أمل لنهوض الوطن على مناكب أحراره الذين بذلوا و ما أحجموا عن نفيس العطاء و جليل التضحيات.

كما هو باكورة اهتمام دولي جدّي و حثيث بإقصاء يد التخريب لتمكين تضافر الإرادات الخيرة و تعاون أصحابها على إرساء أسس الرسالة التي نُذر لها لبنان.

و تصديقاً لنيّة المجتمع الدولي وتأكيداً لعزمه و تنفيذاً لقراره، بدا مجلس الأمن و كأنه في حالة انعقاد دائم ليبتكر الحلول و يدعم انعاش دورة الحياة الديمقراطية و يواكب انسيابها عن كثب و يراقب تطور الأوضاع في لبنان و يصدر القرارات المناسبة بالتنسيق مع الحكومة اللبنانية.

فأصدر تباعاً قرارات تتناسب مع ضخامة الأحداث: 1595 و 1636 و 1644.
راهن النظام السوري على احتشاد "رعاياه" و"اللصيقين" به في مسيرة 8 آذار للإلتفاف على أو الطعن ب"شعبية" القرار 1559.

لكن سيلاً بشرياً هادراً تدفق في 14 آذار من منابع العزة و العنفوان المنتشرة في رحاب الوطن و كسف، بتوهج مهابته و نقائه و أصالته و تشعبه، طفرة 8 آذار و أثبت أن شعب لبنان في صميمه متعطش للحقيقة و تائق أبداً إلى الحرية و السيادة و الإستقلال.

هذا الزخم الوطني المشبع بنضالات جيل التيار السيادي و المشفوع بالقرار الدولي 1559 و المتضخم المنسوب منذ اغتيال الرئيس الحريري أجبر النظام السوري على إجلاء جيشه و "واجهة" مخابراته عن لبنان، لكن على مضض.

فسلوكه و تلكؤه في تنفيذ القرارات الدولية ينبئ عن تحيّنه لفرص يعزز فيها "مواطئ أقدامه" في لبنان تمهيداً لتكرار محاولة ابتلاعه.

و لهذه الغاية يحرّك فيه "مواقع مفخخة"، ساهم في إنشائها، لتبديد الضغوط كلما اشتدت عليه و لتوظيف "خدماتها" في النيل ممن أحبط مخططات هيمنته و هيمنة حلفائه و أعوانه على لبنان.

يجمع هذا التكتل على تحويل لبنان ميداناً، مجرّداً من مقومات الدولة، مباحاً للمغامرات العسكرية، و مشرّعاً لأطماع و نفوذ الأنظمة الهجينة المتخلفة، لتختطفه رهينة لإبتزاز المكاسب ، و تجعله سجناًً لأسر الأحرار و مقبرة جماعية لوأد الفكر الحر.

لذلك نراهم يشرئبّون معترضن الدعم الدولي و يشككون بمقاصده و "يجتهدون" في تصنيفه ليصوروه هيمنة بغيضة لا "ترقى" إلى "نبل " مرتبة هيمنة مرجعياتهم.

و الذعر المشترك من "الخرق" الحضاري يدفع بجوقة الأنظمة البائدة إلى شدّ أزر بعضها البعض و إلى إطلاق التهديدات العشوائية من المنابر و إلى سفك دماء "الخصوم" بتفجير الرزم و المركبات المفخخة.

لذا نسمع "مكبّرات الصوت" تردد التهديدات و نشهد "دوزنة لإيقاع" التفجيرات، "تتناغم" مع وتيرة ارتعادات الغضب و الذعر.

و بلغت عبقرية الإبتكار حداً، أصطُنع معه محاولة اغتيال مزعومة تشير تلقائياً إلى جهة معينة أملاً في إبراز "نشاط" مشبوه "آخر"، يشيح النظر عن المشبوه الأساسي في سلسلة الإغتيالات التي عصفت بلبنان. توقيت هذا الحدث كان كنذير يمهّد لإرتكاب جريمة إغتيال النائب جبران تويني، المدير العام ل"النهار" و أحد الأقطاب الإعلامية البارزة بين طلائع المناضلين في سبيل حرية و ديقراطية و سيادة و استقلال لبنان.

حمل الشهيد حب لبنان في قلبه و وجدانه و حاكه مقالات بليغة في صفحات "النهار"، المنبر المرموق من القراء و الجذاب لنخب رجال الفكر، و صاغه جوهرة في المنتديات العالمية و بشّر بقيم الحرية و الإنفتاح و العدالة و الديمقراطية، و شنّ بجرأة لا تضاهى حملات شعواء على هيمنة النظام السوري على لبنان طالت مباشرة اركانه، و انتقد بصرامة بيادقه الذين تواطؤوا معه في ترويع المواطنين و تورطوا في التنكيل بالعاصين عليه، ليتكافؤوا حصصاً مختلسة من الموجودات والمداخيل و الديون.

شاء جبران أن يكون قائداً قدوة لشباب وطنه، فانطلق بنشاط لا يستكين يحفّزهم على الإنخراط الفاعل في الحياة الوطنية ليشكلوا "حكومة ظل"، و لاقاهم في المنتديات و خصّهم ب"ملحق الشباب" في "النهار" و ساهم في دفع مسيرة نضالهم في زمن القمع حتى نضج "ثورة الأرز".

"حتى الصوت يوّدّي" أبعد، أطلقه جبران عالياً بصريح العبارات الدالّة و قوّى "بثّ" "النهار" باستضافة كتاب سوريين و عرب متنورين.

أبرز هؤلاء، بين المعارضين لنظامهم، أطلّوا من منبر "النهار" و عبروا عن آرائهم في الإصلاح المرتجى في سوريا و عن تصحيح العلاقات مع لبنان، فاعتبر النظام السوري المدير العام ل"النهار" مناوئاً لدوداً، و كان نصيب بعض هؤلاء الكتاب السجن، أمّا نصيب نصيرالحق و راعي الرأي الحر جبران ابن غسّان تويني، فكان الإستشهاد على مثال جدّه المؤسس جبران.

إثر تبلغه خبر الفاجعة، اضطر الأب- المفكر الفذّ و العريق، و الركن السياسي الحكيم والخبير، وعميد الصحافة الحرة، و الديبلوماسي المحنّك و المتفوق- إلى الهرع من فرنسا بعد مراسم تكريمه (وسام جوقة الشرف برتبة ضابط) إلى مراسم دفن آخر أبنائه العائد لتوّه من هناك!

"شُطب" اسم الشهيد جبران تويني من لائحة "المرشحين" للإغتيال ليكتب بأحرف من ذهب في قائمة شرف أسمى التضحيات المبذولة في سبيل عزة لبنان، المدوّنة في سجلّ تاريخه و المحفوظة في ذاكرة الأجيال تخليداً لعطائه و تفانيه.

لا يتّسع عقل المجرمين للغة الحوار و لا يتقنون سوى القتل. عجزوا عن مقارعة جبران بالحجج فمزقوا جسده أشلاء ليشفوا غليلهم، لكنهم ما محوا كلماته و لا ألغوا فكره و لا طمسوا منجزاته.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٥.١٢.٠٥

شتّان بين التغريد الأصيل و ترديد الهديل الناشز

حميد عواد*


عادت "الحمامة الزاجلة" هسام هسام إلى "قنّها"، بعد "تسكّعها" على "نوافذ" إعلاميين و تطفّلها على بعض المراجع و "تحرّشها" بلجنة التحقيق الدولية، المولجة كشف حقيقة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، و تبليغها الرسائل "العنقودية" المفخخة التي لُقِّنتها في "عشّها"، لتحاول تفجيرها عن بعد، عبر موجات الأثير، للطعن بمصداقية تقرير ديتلف ميليس.

و كأنّ هذا التقرير بصلبه و رمّته مبني على ادعاءات هسام، فيما هو حصيلة جهود جبّارة بذلها طاقم من النخب العالمية (100 من الإخصائيين مدعومين بأحدث التجهيزات و 40 من القضاة) المشهودي الخبرة و المعرفة الذين تمحّصوا في معلومات مئات (500) من الشهود و آلاف (60000) من الوثائق و الأدلة.

و التوسع في التحقيق ما زال جارياً و سيبلغ ذروته قريباً في جنيف، خلال "الإستماع" إلى أجوبة 5 ممن كانوا من "صنّاع الأحداث" في لبنان.

إن مجرّد عودة هسام إلى بلده سوريا مطمئنّاً و "ظافراً" من مهمّة "عرض بضاعته" "الفوّارة" هو دليل قاطع على أنه لم يكن "منشقّاً" و أن ما قام به هو مسرحية معدّة سلفاً.

إنها محاولة طريفة للتشويش على مجرى التحقيق تُساق مع جملة مناورات يعمد إليها النظام السوري للتنصّل من أحكام القرار 1636 و لتجنّب "شرب كأس" إجراء تحقيق عميق و دقيق، طليق من "الضوابط"، مع أركان مخابراته.

الحقيقة لا يمكن تجاهلها أو طمسها أو تشويهها، و التعاون من أجل كشفها يصبّ في مصلحة كل بريء اتُّهم خطأً أو افتراءً.

و طالما لا يعقل أن يشكك النظام السوري في التحقيق الدولي ظناً منه أنه على صورة و مثال التحقيقات التي يجريها محققوه، فلماذا إذن الخوف و التطيّر من تحقيق جدّي و نزيه متعدد الجنسيات و المهارات؟

و لماذا التسويف و المراوغة؟

و لماذا الخروج عن طور الإتزان و القول إن من لم يكن "عبداً" لنا فهو "عبد" لغيرنا؟

و لماذا استنفار "مكبرات الصوت" داخل لبنان و "استيلاد" "مواكبة نارية" "ضخمة" على الحدود كادت تشعل حرباً نزع فتيلها و طوّقها مسعى دولي؟

و لماذا تعليق هوية مزارع شبعا ضائعة بين حلاوة الكلام و حجب وثائق ترسيم الحدود؟

هل هو شغف بهوس "نيرون"؟ أم هي رقصة الطائر المذبوح؟

المجتمع الدولي مع غالبية اللبنانيين و السوريين يتمنون لو يتمكن النظام السوري من فكّ قيوده و خلع ذهنية الإستبداد و نهج الترويع و إنقاذ نفسه بالإنفتاح على شعبه و الإنطلاق به نحو رحاب الحرية و الإبداع و الإزدهار.

و نظراً للمنحى الخطر الذي يسلكه هذا النظام حالياً لا بدّ من تحذيره من مغبة العبث بأمن لبنان و توجيه النصح لحلفائه عندنا بتقديم المصلحة الوطنية على أي هوى آخر.

فاللبنانيون بأمس الحاجة إلى الأمن و الإستقرار و تركيز الجهود البناءة و منع إحباطها كما الإستفادة من الفرص الملائمة و الإقلاع عن هدرها.

و معيار التوافق الوطني لن يكون بالتنكّر لحقوق اللبنانيين في معرض خدمة أهداف الآخرين المسيئة إلى الوطن.

الإحتفاظ بالسلاح خارج سلطة مؤسسات الدولة هو نذير بتقويضها مهما كانت المبررات و هو استضعاف للعُزًل و وسيلة ضغط تمارس عليهم لترجيح كفة حامله، بصرف النظر عن وجهة تسديد فوّهته.

و لتعزيز الطمأنينة و رفع "وزر" حمل السلاح عن كاهل المتمسكين به، ندعو المجتمع الدولي إلى تعزيز قدرات لبنان الدفاعية و تشكيل مظلة أمنية واقية تحظّر و تردع أي نوع من الإعتداءات عليه.

لا مناص من الإلتزام بما لم ينفذ بعد من القرار الدولي 1559، فقد برِم روّاد الإستقلال اللبنانيون من الإعاقة التي يسببها لهم وكلاء التبعية الذين يحملون سلاحهم ليكونوا ذراعاً ل"حلفائهم" الإقليميين، غير آبهين برغبة شركائهم في المواطنية التائقين إلى الإنعتاق و الإنطلاق والسلام.

إننا نتساءل: حتى متى يستمر " الهديل الناشز خارج السرب" بدل ال"التغريد" في فضاء الولاء للوطن؟ و متى تكتمل الصحوة الوطنية؟

نأمل أن تتّسق الوان الأطياف اللبنانية و أن تتناغم ذبذباتها كأمواج الضوء الشمسي و ألا تُفرز، و أن "تتدوزن" اصوات كل المنشدين في جوقة الإلفة الوطنية على إيقاع النبض الوطني الأصيل!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٢.١١.٠٥

الإستقلال: وثبة من الديجور إلى النور

حميد عواد*

أراد روّاد النهضة و التحضّر، من اللبنانيين الطامحين، أن يشيّدوا صرحا للثقافة الخلاّقة و مختبراً للديمقراطية في واحة خصبة، و منبراً للفكر المجلّي و معقلاً للحرية الرشيدة و محضناً لنضج و تكريم الإنسان، و موئلاً للوئام النموذجي و محراباً للعدالة النزيهة، فتأنّوا في بناء لبنان.

رسالة المحبة و التنور و الإنفتاح و التسامح هذه، بدل أن تلقى التجاوب الطيب من المحيط القاحل المتعطش للإرتواء، استهدفت بسهام طغاته و فاتحيه على مر العصور.

لقد برهن صفوة اللبنانيين و قدوتهم، عبر تاريخهم الحافل بمحطات التحدي الخطرة في مواجهة العدوان و مقاومة الإحتلال و رأب التصدعات، أنهم متشبثون باستقلال وطنهم و جديرون به.

فقد بذلوا تضحيات جسام بلا حساب، بشجاعة و تفانٍ و صبر وعزّة و إباء، و برعوا في حشد طاقات التصدي للإحتلال و تغلبوا على المكائد و الكبوات بتيقظ الضمير، مزودين بذخيرة التفاهم و التضامن، و مستنيرين بوهج العنفوان و الوفاء المتوقدين في وجدانهم الوطني.

كلما تضافرت الجهود و اتسع نطاق الوفاق، كلما تزخّمت القوة الضاغطة لأبناء الوطن.

المثال الحي على ذلك محطة الأمس الإستقلالية التي أدت إلى الإنعتاق من نير الإحتلال السوري إذ تمّ جلاء الجيش السوري عن أرض لبنان في 26 آذار المنصرم.

تمّ التمهيد لهذه الخطوة المجيدة بمسيرات نضالية شبه دائمة نظمها أبناء التيار السيادي على مدى 15 عاماً حتى أبرمتها الإرادة الدولية في قرار مجلس الأمن 1559.

و ما سرّع بلوغ الهدف هو اتساع المدّ السيادي في خضمّ الغضب الشعبي الذي فجّره وأجّجه إغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، فتدفق السيل البشري في 14 آذار هدّاراً.

لقد بلغنا مرحلة إعادة تثبيت ركائز الإستقلال، فلنحرص على تنقيتها من رواسب التبعية و الإنتهازية التي علقت ببعض النفوس، و لنطهرها من نوايا الرهان على خصب "الخمائر" البشرية النشطة بهدف "طمس" أقانيم التنوع اللبناني المميز الإبداع، و لنميط عنها عمى التقوقع في عزلة بعيداً عن التناغم مع الشركاء و التفاعل مع حركة التطور، و لنجنبها الإنزلاق في زندقة مريبة تنحطّ إلى مستوى خيانة الوطن.

الإستقلال الراسخ هو ضمان لحياة حرة و كريمة و هانئة و زاهرة. و هو يستمدّ قوته من صلابة إيمان المواطن بعظمة وطنه و من قدر الجهد المبذول و العطاء الموفور لتدعيم مناعته.

و لبنان مدعاة فخر و اعتزاز لكل لبناني أصيل و وفيّ. فهو متحف تاريخي و حضاري و جنّة طبيعية غنّاء و تراث فكري و ثقافي غنيّ و مهد لإنسان متوقد و متوثب ضاقت بطموحه الأرض فإنتشر في أقطار الكون حاملاً قيم الشهامة و شغفاً بالمعرفة و ولعاً بالإكتشاف و تعطشاً للعمل المنتج و الخيّر و المجدي. لبنان المتواضع عظيم بمنزلته في سجل التاريخ و بعلو المراتب التي تبوأها أبناؤه.

و الوطن الصغير بمساحته كبير بمقلبيه، قوي بجناحيه المقيم والمغترب. فتناسق حركة الجناحين مكّنه من التحليق مجدداً في أجواء الحرية و الإستقلال.

نحتفل اليوم بذكرى الإستقلال بفرح و حبور و فخر بعد انقطاع لسنوات انقلبت فيها معانيها من عرس إلى مأساة.
فَتَحية إجلال لشهداء الإستقلال الأبطال الذين ما استهابوا الموت كُرمى لإنبعاث الحياة.

و تحية تقدير لكل قائد كرّس نضاله لإستعادة الإستقلال فاضُطهد و ضحّى في سبيله.

والشكر الجزيل لمجموعات الضغط الإغترابية التي صبّت جهوداً حثيثة و مثمرة لنصرة لبنان في المحافل الدولية.

و بورك المناضلون الأباة من أبناء وطني، الذين تحدّوا القمع و التنكيل بجرأة و شجاعة مدهشتين في ساحات المواجهة داخل الوطن، ليحيوا الأمل بالحرية و يدعموا الحق بالإستقلال.

و بعد، إدراكاً منا لأهمية الإستقلال في منعة و استقرار الوطن، و تقديراً للتضحيات التي بُذلت من أجله، لِنقطعْ على انفسنا عهداً و ميثاق شرف بألاّ نفرّط أبداً بهذه الأمانة الغاليةّ!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١٣.١١.٠٥

1636: زاد جديد للغوص إلى "قعر" الحقيقة

حميد عواد*


لم يدرك "أسياد" الإستبداد، الذين أطبقوا على الوطن ردحاً من الزمن، استباحوا فيه حقوق أهله بِنَهَم و شراسة و شره، أن المجتمع الدولي سيستفيق، بعد سبات مديد، ليستجيب لإنتفاضة ضحاياهم الأباة و يحزم أمر زجرهم و جلائهم عن موائد عربدتهم.

بدأ الحساب بقرار الكونغرس الأمريكي ( SALSRA ) و أنتقل إلى أروقة الأمم المتحدة، فأصدر مجلس الأمن بِتبنٍ أمريكي-فرنسي-أوروبي قراره المبرم 1559 الذي استوجب سحب الجيش السوري و مخابراته من لبنان و نزع أسلحة المليشيات فأذن ب"قطع أرزاق" – و مصدر قوة و نفوذ- المستأثرين بلبنان و شعبه، فقرروا "قطع عنق" شخصية مرموقة محلياً و دولياً اعتبروها ضالعة في صنع القرار.

ف"استلّوا سيوفهم" و أمروا بإشعال صواعق متفجراتهم ( المحشوّة في هيكل مركبة الميتسوبيشي كانتر المسروقة من اليابان و "المهرّبة" – بتواطؤ من؟- إلى الزبداني فحمّانا ل"تجهيزها") بموكب رئيس الوزراء رفيق الحريري في 14 شباط الماضي "عشقاً" بالتشفي و شبقاً بالإرهاب.

قضى الرفيق و باسل فليحان و 21 آخرون شهداء للوطن على مذبح الحرية و السيادة و الإستقلال. و تقديراً لجسامة الخسارة و دلالة على خطورة مرامي هذه الجريمة الإرهابية التي تتخطى الإطار المحلي لتهدد الإستقرار و الأمن العالميين، أصدر مجلس الأمن قراره 1595، القاضي بتشكيل لجنة تحقيق دولية لكشف شبكة المتورطين فيها، استناداً إلى المعلومات التي وفرتها لجنة استقصاء ترأسها بيتر فيتزجرالد، رئيس الشرطة الإيرلندية.

انتُدب لهذه المهمة الشاقة و المعقدة المحقق البارع ديتليف ميليس رئيساً لفريق من 30 محققاً و ما يقارب 70 خبيراً في مختلف حقول العلم الجنائي، فباشر مهامه في 16 حزيران.

و بعد تنقيب متأنّ و كشف شامل في مسرح الجريمة و فحص دقيق للعينات المأخوذة و إستماع إلى ما يقارب 400 شاهد و تمحيص في عشرات الآلاف (بين 60 و 70 ألفاً) من الوثائق و الأدلة المكتوبة و الصوتية المسجلة و المصورة التي جمعت من أماكن دُهمت، سكنها أو ارتادها مشبوهون و بعد تحليل عميق و ربط منطقي للمعلومات و الوقائع و الأدوار، رست الشبهات على رؤساء الأجهزة الأمنية في لبنان و شركاء لهم من المدنيين عقب جلسات استنطاق طويلة و متكررة، فاعتُقلوا.

و لأنه كان للأمن في لبنان "توأمه" السوري "المتفشّي" ب "العيون" و"الآذان" في كل مكان و مقام، يمسك الأزمّة و يوزع الأدوار و الحصص و يضبط إيقاع حياة الناس على جرْس نزواته حتى آخر لحظة سبقت انسحابه مع جيشه في 26 نيسان الماضين قبيل انقضاء المهلة المحددة في القرار 1559، توجه ميليس إلى سوريا بحثاً عن "الخبر اليقين".

لكن "إشراف" "خبراء" في القانون من الجانب السوري على جلسات "الإستماع إلى الشهود" أحبط الإستقاء المجدي للمعلومات.

صاغ ميليس خلاصة أبحاث فريقه و استنتاجاته، ظاناً بضلوع قوّاد الجهازين الأمنيين "التوأمين" اللبناني و السوري في التخطيط و التنفيذ لعملية إغتيال الرئيس الحريري. و رفع تقريره في 21 تشرين الأول إلى الأمين العام للأمم المتحدة الذي سلم بدوره نسخاً منه إلى ممثلي الدول الأعضاء في مجلس الأمن.

و بعد مداولات مكثفة و إستبدال الإشارة الصريحة إلى عقوبات إقتصادية و سياسية بتدابير لاحقة تتخذ في حق سوريا (نزولاً عند رغبة ممثلي روسيا و الصين و الجزائر) في حال عدم استجابتها لمطالب لجنة التحقيق، التي تصر على الإختلاء بالشهود منفردين خارج سوريا، توصلوا إلى صياغة للقرار 1636، مشفوعاً بالبند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حظيت بالإجماع خلال جلسة الإثنين التالي التي حضرها وزراء خارجية هذه الدول. و هذا ما شكل جرعة قوية للغوص نحو كبد الحقيقة.

أشاد هؤلاء في مداخلاتهم بجهود ميليس و فريقه و ببطولة و إباء و شجاعة الشعب اللبناني و أعربوا عن تعاطفهم لما كابده من عذاب و أكدوا إلتزامهم بدعمه و تصميمهم على مواكبة مسيرة تعافيه ليهنأ بمستقبل زاهر. كما حذروا سوريا من التدخل في شؤون لبنان أو العبث بأمنه و استقراره مباشرة أو بالواسطة و حضّوها على الإستجابة لمتطلبات التحقيق لا الإكتفاء بالتعاون الشكلي أو الإدلاء بمعلومات مضللة.

ضمّن ميليس تقريره الكثير من المعلومات التي ألقت الضوء على مراحل التحضير للجريمة و وجد أن إحداثيات مواقع مكالمات الهواتف الخليوية، المتبادلة بين المترصدين بالموكب المستهدف، ترسم طرق العودة إلى قصر قريطم المحتمل سلوكها. و كشف أن هذه الهواتف استعملت حصراً للإتصال فيما بينها و تم إلغاء خطوطها حال إرتكاب الجريمة.

كما حصل على كثير من التسجيلات لمكالمات هاتفية بين مسؤولي الجهازين "التوأمين" و بينهم وبين سياسين مرتبطين بهم (و كم من "القناديل" نحتاج للتفتيش عنهم!) إرتباطاُ وثيقاً.

و يمكن القول أن "البصمات" الصوتية أضافت مزيداً من الدلائل الدامغة إلى ما جمعه ديتليف ميليس و هو لم يكشفها كلها حرصاً على استكمال التحقيق باستنطاق "حميم" و عميق و شامل يتوق إلى إجرائه مع "أباطرة" شبكات التجسس السوريين المشتبه بهم في إعداد المكيدة الإرهابية الشنيعة.

هاجس إخفاء معالم الجريمة و "مصادر" معلوماتها راود بلا شك الكثير من الخواطر، و كنت واحداً ممن توجّسوا حصول انتحار أو استنحار أو سيناريو إخفاء أو اختفاء على أمل "التقمص" في بؤرة أو معقل للإرهاب.

لاحقاً سقط أحد الجنرالات انتحاراً فتخوفنا من تجدد سريان "وباء غامض" حصد سابقاً ، و خلال أسبوعين، العديد من الجنرالات في جيش الإتحاد السوفياتي أيام البطش و "التطهير".

التمرد على الإرادة الدولية الجامعة صعب لأن عواقبه وخيمة فالأسلم أن يسلّم المشتبهون ( دون انقلاب أو عصيان) بشكل سرّي إلى لجنة التحقيق في موقها في المونتيفردي لإكمال حبكة الحقيقة.

لقد آل النظام السوري الآن إلى وضع checkmate فكيفما تحرّك سينفرط عقد اركانه و الخلاص يكمن في "تطعيمه" بشخصيات سورية متنورة و منفتحة تضمر رؤية للإصلاح و تعقد العزيمة على الإنطلاق به، و ما أغنى سوريا بكفاءات من هذا الطراز.

ختاماً أود أن أتوجه إلى من جعل موضوع الرئاسة في لبنان وجباته اليومية، لأقول أن السجالات الإعلامية الحامية لن ترفع قدر مطلقيها و لن ترجّح كفّة انتخابهم لهذا الموقع أو تزيد حظوظ مرشحيهم و لن تعزّز مواقعهم في الكتل التي يُهمّشون فيها.

فاحترام الأصول الديمقراطية التي بذلت في سبيل استعادتها التضحيات النفيسة يقضي بالإحتكام إلى القوانين و الدستور عند استحقاق ما. فبالروية و التأني و التبصر و التوافق و التنافس الشريف تتحرك مسيرة الحياة دون عثرات.

و عذراً، لا يتهافتنّ "الخيّاطون" لتحديد "جوخة" الرئاسة و تصميم زيّها و تفصيل بزّتها. فتوقد الذكاء و سعة المعرفة و غنى التجربة و القدرة على استخلاص العبر و موهبة استنباط الحلول و نظافة الكف و نقاء الضمير و صفاء النية و الوفاء بنذر الولاء للوطن، هي الأساس.

لبنان زاخر بالشخصيات الفذة و عند الإقتضاء يطرح كل مؤهل مشروعه و يبرز إنجازاته و يلقي الضوء على سيرته و تاريخه و يبرهن مدى مساهمته في مسيرة الخلاص الوطني.

و أخيراً نرى من واجبنا تبليغ من أربكوا مناصريهم و محازبيهم بتصريحاتهم الإنفعالية أو الإستفزازية أن يحجموا عن البلبلة و أن يعمدوا إلى لملة الصفوف و ترسيخ الوئام و تنسيق الجهود، و إلا سيجدون أنفسهم بعد حين يصيحون و لا يسمعون سوى صدى صيحاتهم لأن الناس تكون آنذاك قد سئمتهم و هجرتهم!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١٤.١٠.٠٥

حان وقت الفرج

حميد عواد*


ليس كثيراً أن يتململ و يئنّ شعب لبنان الصابر والصامد بعد أن طوى ثلاثة عقود قياسية من العذاب، عانى و قاوم خلالها كل أنواع الإرهاب و العنف والقهر والتنكيل و الظلم و النزف.

فكم من مرة ضُرّج بالدماء و تهاوى و تلاشت قواه حتى خُيّل للبعض أشباح الزوال، وسرعان ما تفاجأوا بانتفاضة شعبه من بين الأنقاض كالمارد الجبّار المنتصر على الموت.

لقد حُمّل أهوالاً تفوق طاقة البشر فبذل جهوداً خارقة للتغلّب عليها و التخلّص من أعبائها و تجاوزها حتى استعاد أنفاس الحرية و السيادة و الإستقلال.

من حق هذا الشعب أن يقول كفى امتحاناً لجَلَده و صبره و صلابته! و أن يلج ّ على القيّمين على شؤونه في كافة مؤسسات الدولة كي يسرّعوا وتيرة إنعاش دورة الحياة الطبيعية ليستكين القلق و يتنشط الذهن و يتوهّج الأمل و تتحفّز الهمّة و تتشابك السواعد و تتكامل المنجزات.

و من الواجب الملحّ على الحكومة أن تستنهض النخوات و تحفّز المواهب و تستنفر القدرات، و أن تتزوّد بكل الطاقات و الإمكانات الضرورية و الإمدادات المتوفرة لترعى مواطنيها بعناية فائقة هم بأمسّ الحاجة إليها.

لم يبخل المجتمع الدولي، وفي طليعته الولايات المتحدة و فرنسا، بالدعم الفعّال لنضال شعب لبنان، فمكّنه من الإنعتاق من قبضة النظام السوري مسترجعاً، بحكم قرار مجلس الأمن الدولي 1559، حرية القرار و مقدرات السيادة و الإستقلال.

وتقديراً لوضعه الحرج الناتج عن إنهاك و استنفاد منهجي لطاقاته المادية و البشرية خلال حقبة الطغيان الآنفة الذكر، عرض المجتمع الدولي كل أشكال المساعدات مقابل مسح لحاجات لبنان و خطط مجدية لمعالجتها و لإصلاح و تأهيل مؤسسات و إدارات الدولة، و مشاريع تنموية تحرّك العجلة الإقتصادية و تولّد أجواء الإزدهار.

فمن حق اللبنانيين أن ينعموا بالأمن و الإستقرار.
و من واجب الحكومة تأهيل أجهزة و كوادر القوى الأمنية للقيام بهذه المهمة على أكمل وجه، مما يستلزم إزالة كل تنظيم عسكري خارج نطاقها، تطابقاً مع أحكام القانون الدولي المذكور أعلاه.

و من حق اللبنانيين أن يحتكموا إلى قضاء نزيه وعادل.
و من واجب الحكومة أن تزوّد سلك القضاء بمستلزمات الإستقلال و المناعة بعد تنقيته من طفيليين، فرضهم عليه النفوذ الشاذ، يوم سطا على الحكم، ليحرف مسار العدالة.

و من حق اللبنانيين أن يحصلوا بإنصاف على فرص العمل التي تلائم كفاءاتهم فلا يضطرون إلى الهجرة، و أن تتوفر لهم و لعائلاتهم العناية الصحية مجاناً أو بكلفة زهيدة، و أن يتأمن لأبنائهم العلم و المعرفة و الإختصاص، وهي ذخر النجاح مستقبلاً، بأقساط متهاودة.
و من واجب الحكومة أن توفر متطلبات هذه الحاجات و تطورها.

و من حق اللبنانيين أن يسترجعوا الأصول الخاصة و العامة التي أغتصبت، مالاً و أملاكاً.
و من واجب الدولة أن تحصل للمواطن و لها الحقوق المسلوبة من سارقيها.

و من حق اللبنانيين، مزارعين و صناعيين، أن يتمكّنوا من تصريف إنتاجهم.
و من واجب الحكومة أن تقدم لهم الإرشاد و تفسح سبل القدرة على المنافسة و أن تفتح لهم الأسواق لبيع بضائعهم.

و من حق اللبنانيين أن يمارسوا مقومات مواطنيتهم السياسية و المدنية.
و من واجب الحكومة أن تمنحهم وسائل الإنخراط الفعلي في النشاط السياسي و سواه و أن تعد لهم قانون انتخاب ملائم لأمانة التمثيل.

و للمغتربين حق المشاركة النافذة في الحياة الوطنية على تنوع روافدها و منها المشاركة في الأنتخابات النيابية ترشحاً و اقتراعاً.
و من واجب الحكومة أن تكتنز بهذا المخزون الخيّر فتصفّق بجناحين و تحلّق.

و كي تحوز الحكومة ثقة المواطنين و احترام الدول يتحتّم عليها الحرص على اجتثاث الفساد و تطبيق مبدأ الثواب والعقاب و اعتماد معايير الكفاءة بتجرّد و عدل و تقديم الخدمات بتفانٍ و شفافية.

عندها يغدو تقصير أي مواطن في تسديد واجباته تجاه عائلته الكبرى،الوطن، خطيئة لا تغتفر.

فلا يجوز التهرب من دفع الضرائب و أيفاء الرسوم، و لا التلكؤ عن العمل المجدي، و لا الإحجام عن ممارسة الإلتزامات الوطنية بصدق و نزاهة و إخلاص، و لا النكوص بالتضامن في سبيل الوئام و الكمال، و لا الجحود بصفاء الولاء للوطن.

و هذا ليس إلا نذر وفاء يصبّ خيره في صلب الكيان الوطني الكلي ليُضخّ من جديد في خلاياه الأساسية الأصلية المتمثلة بأبنائه المواطنين.

كل الآمال معقودة على النجاح.

أما النجاح المرجو، في هذه المرحلة الإنتقالية الحرجة، فلا يجترحه إلا الفرسان الأطهار. فهلاّ تقاطبوا !

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٣.١٠.٠٥

قريباً تزول الألغام يا مي

حميد عواد*


من خارج "جدول" الإغتيالات "المتداول"، "انتخب" مهووسو الإجرام مي الشدياق لخطفها من الواجهة الإعلامية و لإنتزاعها من قلوب المعجبين بشخصيتها الذكية و الجذابة.

ذلك أن لبنان، محضن التاريخ المتوّج بالأرز الخالد، و وطن العزة و الكرامة و العنفوان، و محفّز الطموح الجامح و التنقيب الشغوف عن المعرفة، و موئل الإنسان الخيّر و الخلاّق، و منتدى الثقافة الصاخب، و منبت الثمار الطيبة، و منتجع الضيافة الكريمة، و معقل الحرية الصامد، شُرّع قسراً لغزوات قبائل متخلفة شرسة، صُدّت معظم أصولها عنه، لكن بعد أن أمعنت في نهش أحشائه، ثم "توارت" مخلّفة وراءها فروعاً تيتّمت دون أن تتخلى عن إرث ممارسة الإجرام الذي دربها عليه أهلها.

لا يضاهي تصميم اللبنانيين على التخلص من بؤر التخريب و الإرهاب و التفجير و القتل، و على الإنطلاق بورشة الإصلاح و التأهيل، إلا حمّية و همّة المجتمع الدولي الهارع إلى المساعدة لأنه أصبح "أم الصبي".

لقد دفعت نجمة الإعلام المتألقة مي الشدياق ضريبة باهظة الكلفة، ثمن الرأي الصادق و الجريء و الحر الذي لقي صدىً طيباً في مسامع مشاهديها.

استهدفها الجزّارون، عبدة رموز العنف و السحق والسحل، لأنها تمثل قبساً نيّراً من شمس 14 آذار الوضّاءة.

تعطشوا إلى جرعة جديدة من دم طيّب لأنهم أدمنوا على هدر الدماء الزكية لينتشوا بها.

أرادوا افتعال صدمة جديدة ليهزّوا بها وجدان محبّي لبنان الحر و الديمقراطي الفذ. فاختاروا مي العصامية المناضلة التي رافقت الناس عبر شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال منذ تأسيسها، فتبوأت، عن استحقاق، موقعاً مميزاً في المؤسسة و في قلوب الناس.

شاء لقطاء أسياد الإرهاب أن يغطّوا فظائع من تبنّاهم فامتثلوا لأوامرهم و استمروا في التورط في حلقة الإغتيالات الجهنمية، فكمنوا للنمرة مي و فجّروا عبوتهم تحت سيارتها، فاقتطعوا نصف أطرافها.

هذا التفجير الآثم فجّر جام غضب عموم الناس و الشخصيات التي برز بينها مسؤولون في الإدارة الأمريكية و في جمعية الأمم المتحدة، إضافة إلى الرئيس الفرنسي الذي خصّ مي برسالة تعاطف معها عبّر فيها عن "حزنه" لإصابتها البالغة و عن أدانته "لوحشية" الجناة و عن تمنياته لها "بالسلامة".

ظنّ عملاء أساطين "القبضة الحديدية" أن الإرهاب الجوال يشيح الإنتباه عن ذنوب و معاصي آلهتهم "فيُظننّ أن "الإثم" حيث يُنظر".

لكنً ثلاثة آلاف صفحة من التحقيقات في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، حصيلة استقصاءات و تنقيبات المدعي العام ديتليف ميليس و فريقه الدولي، يضاف إليها فصول جديدة عن "عجائب ممالك الخليوي" و "صندوقها الأسود" ستكشف ليس فقط حبكة "أُمّ جرائم الإغتيال" و إنما سلسة أسرار عن مسلسل الجرائم التي سبقتها و لحقتها.

رغم اتخاذ الحكومة اللبنانية بعض التدابير النافعة كتكثيف الدوريات، لوقف تسلل المارقين عبر الحدود مع سوريا، و حشد عناصر من الجيش على مداخل بعض البؤر "المحيّدة" عن سلطة القانون و التوسع في مداهمات مواقع الشبهات، فإن متطلبات التصدي للوضع الأمني المعقّد تفوق قدراتها.

و لتعويض هذا التقصير طلب رئيس الحكومة فؤاد السنيورة مزيداً من الدعم الدولي الجاهز غبّ طلب الحكومة. حتى أن الرئيس الدوري لمجلس الأمن عرض عليها توسيع صلاحيات فريق التحقيق الدولي لتشمل سلسلة التفجيرات المتلاحقة إن طلبت ذلك رسمياً.

شغف المجتمع الدولي لإنتشال لبنان من كبوته و لإنعاش ديمقراطيته و تزخيم رسالته الحضارية، بزّ اهتمام حكومته و لم يهدأ رغم انشغال كل من دوله بمشاكلها الداخلية ( يكفي التذكير بأضرار و ضحايا الإعصارات في الولايات المتحدة ليزيد تقديرنا و امتناننا لإدارة الرئيس بوش ).

و ما تشكيل اللجنة الدولية التأسيسية لمساعدة لبنان خلال اجتماعات نيويورك و عزمها على الإنعقاد لاحقاً في بيروت خلال شهر تشرين الثاني إلا دليل على جدية المثابرة.

و بما أن السعودية و مصر هما شريكان أصيلان في هذه اللجنة نتساءل عن جدية و جدوى وصف البعض هذا المنحى "بالتغريب". و كأنه جرّد هاتين الدولتين العريقتين من عروبتهما ( جعلهما "ممنوعتين من الإعراب") ليحتكر لنفسه امتياز "التعريب".

هؤلاء ارتضوا و تمسكوا بوصاية النخّاسين حتى إخراجهم بقرار دولي من لبنان (1559) و ما زالوا يحنّون إليها، فيما هم يدأبون على التشكيك و التريّب بنزاهة النخوة الدولية لمؤازرة قيامة لبنان السيد الديمقراطي الحر المستقل، و لحفظ كرامة و حقوق الإنسان فيه.

كأن الإصرار على إبقاء لبنان ساحة مباحة لسفاكي الدماء هو ذروة الوفاء لأفضال الوطن عليهم.

سألت مي أمها على وقع الصدمة: لماذا أنا؟

لكنها متى استعادت وعيها كاملاً تعرف أن استهدافها هو حلقة في سياق استدراج فاشل لبثّ مشاعر التفرقة،
و محاولة خائبة لزعزعة الإستقرار،
و تجربة عبثية لإحباط الحضانة الدولية،
و تحريض سافر على مناهضة و استعداء المجتمع الدولي،
و تهديد دائم لإرعاب المواطنين و إرهاب السياسيين و إبعاد أو حجر القياديين، كما هو دعوة لإستقدام و إستقطاب مزيد من الموتورين،
و هو قبل كل شيء ابتزاز دموي لتعديل نتائج التحقيق الدولي.

الثمن الباهظ الذي قدًه المجرمون من قدّك يا مي زاد "مهر" خلاص و تعافي الوطن قيمةً و جمع اللبنانيين، في بوتقة محبتك، بعروة الولاء له.

درب الإنقاذ و البناء شاقّ لكننا مشيناه مصممين على النجاح بمواكبة و مساعدة الأصدقاء. سنزيل الألغام خطوة بعد خطوة و لن نخاف.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١٠.٩.٠٥

كل الشعاب تفضي إلى عنجر فدمشق

حميد عواد*

قلّما إنصبّ الإهتمام الدولي على قضيّة و انكبّ على معالجتها بوتيرة حثيثة، مثل إنهماكه الشغوف في انتشال لبنان من خاطفيه، و مثل انخراطه الجدّي في التنقيب عن الأدلة و كشف المتورطين في مؤامرة إغتيال الرئيس رفيق الحريري العالمي الرصيد.

إن الإهتمام الذي تستأثر به تحريات المحقق الألماني ديتليف ميليس و فريقه المتعدد الجنسيات المولجين بفكّ ألغاز هذه الجريمة الإرهابية، فاق بأشواط الإستقطاب الذي حظيت به قصص من مخيلة أغاتا كريستي و إيان فليمنغ و أخرى من الواقع كقصة "الثعلب" و عمليات "كارلوس" الإرهابي و الذين "طوروا" أساليبه من السلفيين.

اليوم، غداة إنحسار إعصار "كاترينا" الكاسح عن "نيو أورليانز"، يتحسب النظام السوري لهبوب إعصار "ديتلف" المقبل عليه بدفع دولي قوي الزخم.

إذ يتوجس من تحقيقاته و يتخوّف من معلوماته لئلا تطيح بأركان حزب البعث و تجرف معها كل معالمه من مواقع الحكم في سوريا.

"قطاف" ديتلف ميليس أرسى شبهات في لبنان على رؤساء سابقين لأجهزة أمنية، "متورطين إلى حدّ ما" (حسب ميليس) في المؤامرة، و حثه على الذهاب إلى دمشق "لإكمال الصورة".

فهذا الإستقصاء هو"شيء أساسي في إرساء الحقيقة"، من خلال استنطاق مديري الشبكات الأمنية التي كانت مطبقة على لبنان، و التي انكفأت عنه "رسمياً" في 26 نيسان المنصرم، بناءً على مقتضيات قرار مجلس الأمن 1559.

اللبنانيون مرتاحون إلى تطابق مكتشفات ميليس مع ما خبروه في معاناتهم من تعسف "منظومة" " جهاز الأمن و الإستطلاع".

فهم يتذكرون موقف الرئيس الحريري الرافض بإصرار التجديد للرئيس لحود.

و يعرفون أن الإذعان لهذا المطلب السوري لم يكن مجرد استجابة "لتمنٍ" أخوي.

فقد رشح أنّ وقائعه مسجلة بالصوت في "قلم حبر" أهداه الرئيس شيراك إلى صديقه ليستخدمه في آخر لقاء "خاطف" عقده مع الرئيس بشار الأسد و فيما تلاه خلال "استضافة" اللواء رستم غزالي له في عنجر.

و المضمون كان أسرّ به الفقيد إلى المقربين منه و تسرب إلى وسائل الإعلام، كما ذكره بيتر فيتزجيرالد في تقريره الأولي.

و اللبنانيون يعلمون أن الرابطة الوثقى بين رؤساء الأجهزة الأمنية "اللبنانية" و لواء عنجر لا تسمح لهم بالمبادرة المنفردة.

سبق أن روى الشهيد الواقعة "الطريفة" التي كشف فيها كيف كان "المسؤول" عن أمنه الشخصي "يبلّغ" أدق التفاصيل عن أخباره إلى "مرجعيته" في عنجر.

و بعدما بدد اليقين الشك "أعفى" الفقيد رئيس حرسه من مهمته.

و هو الآن موقوف للإشتباه بتورطه في ارتكاب الجريمة.

اللبنانيون يدركون أنّ انسحاب عسكر النظام السوري من لبنان يشكل بداية أفول القيادة السورية لأن لبنان كان مصدراً حيوياً لإمدادها بمقومات البقاء.

لذلك كان صدور قرار مجلس الأمن الدولي 1559 بمثابة صدمة عنيفة هزّت فرائص أركان هذا النظام.

و بالتالي فإنّ إغتيال الرئيس الحريري يمكن إدراجه في سياق الإنتقام منه بعد أتهامه بالإضطلاع في بلورة هذا القرار من قبل "أنصار" النظام السوري.

و هذا ما وصفه فيتزجيرالد باجواء التحريض على ارتكاب الجريمة.

لقد خرجت إلى دائرة الضوء و قبل الإغتيال الآثم مسألة "اختفاء" طن من المتفجرات من أحد مخازن الجيش السوري من البقاع و عادت لتبرز من جديد بعد هذه المجزرة الشنيعة.

و كشفت تقارير عن صفقة شراء مواد شديدة الإنفجار من شركة سلوفاكية فتحركت مخابرات هذا البلد للتدقيق في صحة الخبر و عُلم أن هكذا صفقات لا تعقد إلا مع دول.

كما نشرت صحيفة "النهار" منذ أيام خبراً مفاده أنّ رئيس شركة نفطية خلال نزوله إلى مطار بيروت ( قبيل ارتكاب الجريمة النكراء ) استُوقِف في المطار ليُسأل عن محتويات كيمائية كان
ينقلها في قنان داخل حقائبه.

فسارع إلى الإتصال بقريب له ( مسؤول أمني) و خلال دقائق حضر هذا المسؤول برفقة مسؤول أمني سوري مزّق المحضر المتعلق بإحضار هذه المواد و غادر الثلاثة المطار مع الحقائب دون أفساح المجال لأحد بالتدخل.

ما يطفو أمام الناظرين و ما يستخلصه المتبصرون هو غيض من فيض ما يعرفه المحقق ديتليف ميليس.

لكن الخبر اليقين عن دقائق هذه المؤامرة الشائكة سيبقى في عهدته حتى يحين موعد الجهر به.

فبفضل التفويض المطلق الذي محضه إياه مجلس الأمن في نص القرار 1595 تمكّن من الإستماع إلى مئات الشهود و استنطاق المشبوهين و الحصول على وثائق و تسجيلات صوتية من مصادر و دول مختلفة.

و بفضل حنكته و حذاقته و احتراف طاقمه و تطور التقنيات الموضوعة في تصرفهم جمع و حلل و ربط مكونات اللغز.

لعل أهم المصادر هي من الضباط السوريين الذين شغلوا مناصب حساسة في اجهزة المخابرات السورية ثم "اعتزلوا" و غادروا سوريا.

رغم أن جعبة ميليس مليئة بالوثائق الدامغة التى قد تكفي لبناء مقتضيات الإدعاء فمن الطبيعي أن يصرّ على مقابلة أركان المخابرات السورية.

لسان حاله قول أبي النوّاس ( مع استبدال "خمر" ب "خبر") :

أسقني خمراً و قل لي هي الخمر
و لا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهر


لقد سرّع استشهاد الرئيس الحريري في جلاء الجيش السوري عن لبنان، أما نتائج التحقيق فيبدو أنها آيلة إلى إنهاء عهد حكم حزب البعث في سوريا!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٨.٨.٠٥

مخاض العبور نحو الأمان

*حميد عواد


أيّ انتكاسة، أمنية كانت أم سياسية أم اقتصادية، و إنْ توقظ فظائع شتى في ذاكرة اللبنانيين، الفائقة الحساسية و المثقلة بالهموم و الآلام، تبقى عاجزة عن النيل من قوة تمرّسهم في تذليل الصعاب.

رغم كلفة عالية جداً في الأرواح و الممتلكات دفعها اللبنانيون خلال ثلاثة عقود، حافظ سليلو الإباء و العنفوان على رباطة جأشهم و صلابة صمودهم و تصميمهم على تجاوز المحن.

و كثفوا وتيرة نضالهم حتى قُيّض لتضحياتهم أن تثمر بدعم دولي تفكيكاً لآخر طوق من أطواق الهيمنة و الإحتلال بسحب أفواج الجيش السوري و طوابير "من" مخابراته إلى مواقعهم الطبيعية داخل بلدهم "طبقاً" لقرار مجلس الأمن الدولي 1559.

لقد خُيّل لأركان النظام السوري و قوّاد جيشه أن لبنان سيبقى أسيرهم و ان "امتياز" التصرف المطلق بشؤونه سيُطوّب لملكهم إلى الأبد.

فمارسوا نفوذهم على "رهائنهم" اللبنانيين بقساوة "غريزية" لا رادع لها، و غدا كل انتهاك مباح.

و انتقلت عدوى التنكيل و العبث بكرامة و أرواح اللبنانيين من رأس الهرم إلى أسفله و إلى المقربين و الأقربين.

الكل يذكر "خطبة" "الحجّاج" "المحرجة" خلال حفل خطوبة ابن الرئيس عمر كرامي عشية التجديد للرئيس الهراوي.

و الكل يذكر كيف "تصرّف" إبن "الحجّاج" و حرّاسه بإبني أخت الشيخ بهجت غيث عندما انزعج من ضحكهما خلال وجودهما إلى طاولة مجاورة لطاولته في أحد مطاعم منطقة الروشه.

و الكل يذكر كيف أصبح انتحال صفة "مخبر"، جواز عبور يومي للسارقين و غطاء ارتكاب متكرر للمجرمين.

"المآثر" المشهودة و السرّية لكل "حجّاج" تولّج "الأمن و الإستطلاع" في لبنان كَوَت السياديين و "غسلت" بحممها السياسيين و اخترق سيلها كل الميادين و تركت بصمات لا تمحى و لا تموّه، أما لسان حال صاحبها فقول المتنبي:

إي مكان أرتقي أي عظيم أتّقي
و كل ما قد خلق الله و ما لم يخلق
محتقر في همّتي كشعرة في مفرقي

لكن يبدو أن طيف الشهيد الرئيس رفيق الحريري يراود بإلحاح مهاجع "الحجّاجين" الذين اغتيل في كنف رعايتهم الأمنية اغتيالاً مدوّياً، لأنهم يتطيرون لتبلغهم استدعاء من المحقق الدولي ديتليف ميليس فيجفلون من المثول أمامه لإستجوابهم.

و كي لا يبقى لبنان "متنفساً" لإحتقاناتهم على الحدود أم في الداخل من الملائم أن يبادر الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة كوفي أنان إلى الطلب من مجلس الأمن، إما إحالة القضية إلى محكمة الجنايات الدولية، أو إنشاء محكمة دولية خاصة تقاضي من يثبت ضلوعه في هذه الجريمة الإرهابية الخطيرة.

و يرجّح أستاذ القانون الدولي في جامعة ستراسبورغ، الدكتور دريد بشراوي الإحتمال الأول محللاً:

"وهناك فرضية ثانية، هي الاكثر ترجيحاً، تقول بأن يعتبر مجلس الامن الدولي اغتيال الرئيس الحريري جريمة ضد الانسانية، لأنها كانت في اطار خطة منهجية للقضاء على مجموعة معينة وضرب الوحدة الوطنية واثارة الفتن والحروب الاهلية التي بدأت مع محاولة قتل الوزير مروان حماده واستمرت مع اغتيال الصحافي سمير قصير والامين العام السابق للحزب الشيوعي والتفجيرات الاخرى. فتحال الجريمة برمتها ذلك على المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي."

عندها يسهل فك ألغاز عمليات اغتيال أخرى طالت حياة شخصيات مرموقة عديدة و تُرفع تدابير الحماية الإستثنائية التى أقيمت حول شخصيات سياسية مُستهدَفة، أقعدت بعضها في مساكنها و أبعدت بعضها الآخر خارج حدود الوطن لتنأى بها عن مرمى الخطر.

لقد حاز تعاون لبنان مع لجنة التحقيق الدولية على تنويه تقديري في التقرير الإجرائي الذي أعده ديتليف ميليس و قدّمه إلى الأمين العام كوفي أنان.

و نحن إذ نثني على إقدام الأجهزة الأمنية على كشف ثلاثة مخازن للأسلحة و المتفجرات بدا أنها "خارج الإستعمال" نحضها على المثابرة و مداهمة "الأوكار" الناشطة في تعكير الأمن، و نرى أن نقصاً في اتخاذ تدابير الرقابة و الحماية الإحتياطية من غدر المجرمين، ما زال يعرّض أرواح و ممتلكات المواطنين و المقيمين للخطر و يخرّب موسم السياحة و يقوّض الإقتصاد و ينفّر المستثمرين.

و هذا الخلل يؤكد ضرورة إنتقاءٍ متأنٍ لرؤساء أكفياء أوفياء للوطن يضطلعون بمهام رئاسة الأجهزة الأمنية بعين ثاقبة يقظة و ضمير حي.

و التفكير في الضرر الإقتصادي الفادح، الناتج عن زعزعة الأمن، يقودنا إلى شكر سمو ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز على "تطميننا" بدوام الدعم لمسيرة تعافي لبنان، و يحفزنا على تقدير وزير الطاقة القطري عبد الله بن حمد العطية على لهفته الصادقة، التي أبداها خلال لقاءاته المتتالية مع مراجع سياسية و روحية في لبنان، حيث دعا إلى الإحجام عن المهاترات الإستفزازية ( خاصة و أن البعض استغلّ زيارة "شعلة الحرية" لينفش ريشه و يطلق سهامه ) والإقدام على مبادرات ترسّخ الوفاق.

كما حثّ الحكومة على الإفادة من فائض السيولة في الدول النفطية، الناتج عن ارتفاع أسعار البترول، فتسهّل سبيل المستثمرين بتبسيط المعاملات الإدارية و سن قوانين ثابتة و واضحة تحوز ثقتهم و تضمن توظيفاتهم في ظل وضع أمني مستقر.

و كي يستقر الأمن لا بد من إعادة تأهيل وتنظيم الأجهزة الأمنية لتتمكّن الحكومة من الإمساك بناصية الأمن دون منافس أو شريك فتبسط سلطتها على كامل أراضي الجمهورية اللبنانية، مدعومة بالضمانات الدولية التي تحصّن و تصون لبنان بعد الإنخراط الفاعل في تحريره.

إذن من يحرص على بناء دولة القانون و المؤسسات لا ينازع الدولة على الأمن "بجيشه" الخاص.

و من يسعى إلى تعزيز الوحدة و الإستقرار لا "يخطف" الأجيال الناشئة و يحجرها في عزلة عن أصوانها ليلقنها عقائد إنفصالية.

و من يريد ترسيخ الثقة و الوئام و يتطلع إلى مستقبل مشرق، لا يشجع الإنجاب العشوائي الكارثي العواقب، لينتشي بالإقتراب من "النصر" الآيل إلى السقوط في هاوية الفقر و الجوع والمرض و الجهل و التناحر.

يُبنى الوطن على أساس صفاء النوايا و الوئام والولاء النزيه للكيان، والإجتهاد في تأمين كل مقومات النهوض و التنمية، بشرياً و مادياً و حضارياً، التي لا تزدهر إلا في بيئة السلام.

و لا يقوم على قاعدة إعداد مشاريع حروب ضروس تستنفر العصبيات و تستهلك الإنسان و العمران.

لبنان بجناحيه المقيم و المغترب يملك الرغبة في والقدرة على المساهمة في إحلال العدل و السلام، فإذا تعذّر على حامي الوطيس، المتعطشين إلى خوض معارك في ساحات الوغى، تبريد هممهم، ليفتشوا عن ميادين خارج هذا الوطن لأنه أعيد تكريسه موئل حرية و سلام و إزدهار.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون البنانية

١٠.٨.٠٥

و 9 آب 2001: ذروة العذاب في تسلق قمم الحرية 7

حميد عواد*


في 7 آب 2001 تمخّض الغضب، المحتدم في سريرة السلطان الأمني المهيمن على الوطن حينذاك، عن حملة انقضاض شرسة على مكاتب "التيار الوطني الحر" و تيار "القوات اللبنانية" في انطلياس و جلّ الديب، خلال اجتماعين متزامنين لمسؤولين فيهما.

فكان "الصيد" وفيراً إذ صودرت "الوثائق الثبوتية" المكتوبة والمطبوعة و المخزونة في ذاكرة الحواسيب (الكومبيوترات) و سيق قسراً و تعسفاً رئيس هيئة التنسيق في التيار الوطني الحر اللواء نديم لطيف مع الحاضرين من معاونيه إلى " التحقيق" في عقر حصن "الدفاع" عن الوطن، المحاذي "للمدرسة" التي تخرج منها.

و كم كان حرياً "بالساهرين" على أمن الدولة و القيّمين على رمز حماية الوطن و صون عزة المواطن، بدل الإفتراء و نسب التهم الباطلة جزافاً، تكريم اللواء لطيف و تكريم نظرائه، أكانوا ضمن أركان التيار الوطني الحر أو خارجه، ممن يجسدون القدوة المثلى في التزام رسالة "الشرف و التضحية و الوفاء".

و أسوة برفاق النضال السابقي الذكر، اقتيد المحامي إيلي كيروز و سلمان سماحة من مسؤولي تيار "القوات اللبنانية"، مع صحبهم من المجتمعين معهم، إلى "القلعة" عينها التي "استضافت" لسنين عديدة قائدهم الدكتور سمير جعجع أسيراً متزهداً.

و من هناك بدأت رحلة "الإستنطاق" القهري و نسج وهم "التآمر" على "أمن الدولة" و "تأليف جمعيات سرية" و "تعكير (صفاء؟!) العلاقات مع دولة شقيقة" كَتُهم دبّجها خيال الخبث الخصب ليزج بالأحرار الشرفاء الأبرياء في غياهب السجون.

و لما هبّ أبناء و أنصار التيارين في 9 آب استنكاراً للظلم المرتكب بحق رعيل إخوانهم المحتجزين خلافاً للقانون و اعتصموا سلمياً أمام قصر العدل، محراب العدالة و الإنصاف، و المظلة الواقية لحقوق المظلومين و الضابطة للإنتظام العام وفقاً للقوانين، استحضرت "عناصر أمنية" بحلل مدنية تغلغلت في صفوف المعتصمين.

و تحت أنظار وزير العدل المرتبك و المدعي العام التمييزي ( الذي يصعب تمييزه عمن يرافقه في زيارات المجاملة) الحليف القضائي المميز للنظام الأمني، و على مرأى المحامين ( و بينهم من نال نصيباً من الضرب كالمحامي زياد أسود) و نقيبهم، انهالت سواعد الجلادين و أقدامهم على المعتصمين لكماً و ركلاً مبرحين كوحوش ضارية تنهش طرائدها، لتختتم مأثرتها المشهودة و الموثقة بالنص و الصوت والصورة، بعد إشباع غليلها، باعتقال الضحايا ثم اتهامهم لاحقاً "بالإعتداء على رجال الأمن".

هذه الهجمات الهمجية التي هزّت الضمائر الحية، و ما تلاها من اعتقالات عشوائية جائرة، صُممت خصيصاً للإقتصاص من الأحرار، بإدانتهم بأحكام ظالمة صادرة عن محاكم عسكرية تجاوزت اختصاصها، و عاقبتهم سجناً مريراً و كفالات باهظة الكلفة.

والهدف الأساسي المنشود كان اجتثاث جذور المناعة في وجه الإذلال والتدجين، و الإجهاز على خميرة الإنتفاضة الوطنية لإستعادة القرار الحر و استرجاع الإنسياب الديمقراطي لعمل المؤسسات و انتشال السيادة الوطنية المسلوبة و استرداد الإستقلال المغتصب من براثن الهيمنة العسكرية السورية.

عزاء هؤلاء الأحرار الأباة هو أن تضحياتهم لم تذهب سدى بل ساهمت في استنهاض و تمدد الصحوة الوطنية و في اختراق حواجز الخوف و "حقول الألغام"، و قد كلف عبورها حياة شهداء أعزاء مرموقين نفتقدهم و نتمنى أن يكشف فداؤهم من خلال نتائج التحقيقات الجارية هوية الضالعين في الجرائم المرتكبة فينالوا عقابهم و يسلم الناس من شرورهم.

لقد نضجت ثمار بذلهم في خضم هذه التضحيات المحفورة في الذاكرة فتآزرت الجهود الآيلة إلى شق درب الإنعتاق من طوق النظام السوري الذي فكّ في 26 نيسان 2005، و أزيلت بذلك عقبة هائلة من وجه إقامة علاقات ندية لتعاون و تنسيق بنائين يغلان خيراً عميماً على شعبي سوريا و لبنان.

كل الشهماء الأبرار الذين تفانوا و استبسلوا في سبيل إنقاذ حرية و ديمقراطية و سيادة لبنان جديرون بالتكريم.

و ما مبادرة قائد النضال والرائد في بذل التضحيات العماد ميشال عون إلى تكريم كوكبة من هؤلاء في ذكرى بارزة من محطات نضالهم، إلا عربون حدب صادق يبلسم الجراح و وسام تقدير يشهد لتوقد عنفوانهم الوطني.

أما و قد اقتصر إحياء الذكرى، أمس، على "التيار الوطني الحر" فنتمنى لو تُهيأ الظروف لإنضمام "القوات اللبنانية" في إحياء ذكرى النضال المشترك المرة المقبلة.

فيما تنتعش الذاكرة و تضطرم العواطف في تطواف حنايا الأهوال التي لفّت كفاح الأبطال، تتألق تضحياتهم السخية كأمثولة بليغة في التربية الوطنية و كإرث نفيس تحفظه الأجيال في أعماق الوجدان.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٩.٧.٠٥

قوة الجامعة و ضعف المسخ

حميد عواد*

في زمن تطييب الجراح ما زلنا نجد من يتلذذ بنكئها. مما يجعلنا نتساءل: هل يصحّ إحياء مآسي الإستبداد المتلاشي و المنحسر حديثاً عن وجدان اللبنانيين الذي يتردد فيه صدى أنين آلام يودون نسيانها؟

من ذا الذي يتطوع اليوم، في ذروة موسم الإنعتاق، لإرواء غليل أركان النظام السوري، المتعطش إلى إخماد جذوة "انتفاضة الإستقلال" و إحباط مفاعيل القرار الدولي الملزم 1559، سعياً لإسترداد "الإمتيازات" الجوهرية التى انتزعها في ذروة سطوته العسكرية على لبنان؟

بين إحكام الحصار على الحدود و تحريك البيادق في الداخل و "استيراد" و "استنفار" سذج ومتطفلين على التمثيل الإغترابي من الخارج، يستميت النظام السوري المترنح "للإنبعاث" من جديد و اكتساح الوطن "بلباس مدني" توثباً لإحكام الطوق حول اعناق اللبنانيين لسوقهم إلى حظيرة الطاعة.

لم ينس اللبنانييون بعد، مرارة غزو مخابرات هذا النظام لمؤسساتهم و وسائل إعلامهم و نقاباتهم و أحزابهم و أنديتهم الإجتماعية و منتدياتهم السياسية، التي هيمنت عليها و استغلتها و جيرتها لترسيخ نفوذها.

هذا الجموح الجارف لتوسيع "فتوحات" القيادة السورية لم يعرف حدوداً زمن استباحة الوطن، بل إشرأبّ و تناسخ في سفارات سوريا و "رديفاتها" اللبنانيات و في أوساط "ملحقيها"، مستهدفاً هبوب أبناء بلاد الأرز في المغتربات حيث نهضوا للدفاع عن كرامة و حرية و حقوق أهلهم و للذود عن سيادة و استقلال و ديمقراطية وطنهم الأم لبنان.

لقد خاض المغتربون نضالاً حثيثاً و متنامياً لإحباط تسلل نفوذ النظام السوري إلى أوساطهم و كرّسوا جهوداً جبارة في محافل دول إقامتهم لإسقاط الصفة التمثيلية عن مأموريه المتحصنين بالصفة الدبلوماسية.

لكن خدر المجتمع الدولي أجّل استحقاق المردود الإيجابي لهذا الكفاح حتى اكتملت الصحوة على وقع تفجيرات إرهابية غادرة داخل البلدان الحرة، الحاظية بالدعم و الأرجحية في اتخاذ القرارات الدولية. عندها نضجت العزيمة الدولية على التصدي الإستباقي للإرهاب و لداعميه، إثر استيعاب مدى خطورته.

في هذا الظرف تعاظم تآزر كوكبة من الشخصيات المرموقة، سياسيين و اختصاصيين و مهنيين و مفكرين،ممثلي أندية و منظمات إغترابية، في حشد الدعم لتحرير لبنان من القبضة السورية.

لقد تنكب المسؤولية في انتشال الجامعة الثقافية في العالم من الضعف و التفتيت اللذين أغرقها فيهما تطاول النفوذ السوري، نخبة من المثقفين المتنوعي الإختصاص المحترمين و المسموعي الكلمة من جالياتنا و في دوائر الحكومات في الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا و أوروبا و أستراليا و المكسيك و الأرجنتين وفنزويلا و البرازيل. فبدأوا بتأهيلها و تنظيمها و تفعيلها بدءاً من تاريخ انتخاب مجلس عالمي في المكسيك عام 2001 وصولاً إلى انتخاب المجلس العالمي الجديد خلال المؤتمر الذي عقد في سيدني أوستراليا أواخر شهر أيار المنصرم.

تمرس طاقم مسؤولي الجامعة في لعب دور محوري في استقطاب الدعم للبنان، كما ساهم مساهمة واسعة النطاق في حشد تأييد جالياتنا لإعادة انتخاب الرئيس بوش، الذي لبى دعوات لحضور مهرجانات إنتخابية نظمها أعضاء من قيادي الجامعة و شكرهم و خصّ أصدقاءه الشخصيين بينهم بكلمات امتنان صادقة.

نسّق هذا الفريق المميز الجهود مع الإدارة الأمريكية و ساهم في رسم الخطوات الآيلة إلى فك طوق الإحتلال السوري عن لبنان. فانطلق الردع الديبلوماسي من الكونغرس الأمريكي بقانون "محاسبة سوريا و استعادة سيادة لبنان" وصولاً إلى أروقة الأمم المتحدة و إصدار قرار مجلس الأمن 1559 الذي لفظ الحكم المبرم بسحب جيش سوريا و مخابراتها من لبنان دون إبطاء و بحل المليشيات اللبنانية و غير اللبنانية و ببسط سيادة الدولة اللبنانية على كل أراضيها بقواها الأمنية الذاتية دون منازع.

لم يهدأ نشاط مندوبي الجامعة الثقافية في العالم خلال هذه الفترة، الحاسمة في تقرير مستقبل لبنان، فكان لهم اجتماعات شبه متواصلة مع مسؤولي الإدارة الأمريكية و سفراء الدول النافذة في جمعية الأمم المتحدة.

لقد اغتنموا الفرصة المتاحة ليعبروا عن مدى تعلق المغتربين بوطنهم الأم و عن توق اللبنانيين إلى الحرية و تشبثهم بالسيادة و الإستقلال و تمسكهم بالديموقراطية و احترام حقوق الإنسان، و قدموا الإقتراحات المدروسة و المجدية و الشورى المفيدة التي كان لها الأثر الإيجابي في صياغة القرارين التاريخيين المذكورين أعلاه.


بعدما بلور أركان الجامعة الثقافية في العالم شخصية مميزة و فذة للإغتراب اللبناني حظيت بإعجاب و تقدير واعتراف المراجع الدولية و تبوأت مرتبة عالية في حساب عواصم القرار تنطح المدير العام لوزارة المغتربين الموروث من حقبة الهيمنة السورية المتحكمة بسلوكه و وجه دعوة خارجة عن صلاحياته إلى رموز إغترابية راكدة و مغمورة، نفض الغبار عنها لإنتحال صفة التمثيل الإغترابي أملاً بأن يعلق بعض من ذراته في العيون و الأذهان المشوّشة.

أما منقشعو الرؤية و صافيو الأذهان فيدركون أنّ القيادة الحالية للجامعة الثقافية في العالم اكتسبت شرعيتها من تواصلها الدائم مع المرجعيات الدولية التي اعتمدتها ممثلاً كفوءاً للإغتراب اللبناني، كما استمدت أصالة تمثيلها من التأييد العارم الذي عبر عنه المغتربون اللبنانيون في الإستجابة لدعواتها لتكثيف النضال في سبيل تحرير لبنان و من الإلتفاف حول تحركاتها و الإنخراط في مؤتمراتها و من الإفتخار بضلوعها في إننتزاع الإستقلال المسلوب و الإرتياح لإلتزامها بمطالبهم العادلة، كحق المشاركة في انتخاب أعضاء المجلس النيابي و حق استرجاع الجنسية لمن فقدها و حق اكتسابها لمن تحدر من أصول لبنانية.
إذن رصيد قيادة الجامعة الثقافية في العالم، المنبثقة من مؤتمر سيدني، كبير في ضمائر و قلوب اللبنانين و عال بمقاييس الدوليين، علماً و معرفة و خبرة و صدقاً و تفانياً. و بالتالي فإن ما ستتمخض عنه خواطر السيد جمعة "المسكونة" و "المرصودة" بهواجس "التمنيات" "الأخوية" لا يتعدى انتاج "جنين" غير شرعي في "مختبره" (مؤتمره) غير مكتمل الأعضاء و الأوصاف، لا قدرة له على التمثيل و لا طاقة له على التأثير.

لقد نصح وفد من الجامعة الشرعية سافر إلى لبنان بتحاشي المهزلة لكن يبدو أنّ طنين "الوشوشات" الشامية قد صم الآذان.
قضية إيجابية واحدة يمكن أن تسهم فيها هيئة (الجنين الناقص)"التشبه" بالجامعة الثقافية في العالم ألا و هي فتح المعابر السورية أمام البضائع اللبنانية، ذلك لأنّ العاصمة الوحيدة المفتوحة في وجه أعضائها هي دمشق!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٠.٧.٠٥

الحصار

حميد عواد*


الرجوع ( و لو متأخراً ) عن الخطأ فضيلة.

خاصة إذا أنتج هذا الخطأ ظلماً ناجماً عن حكم قضائي، أُستثتي من مفاعيل العفو العام، ثم بُنِيَ على استنباط الأدلة أو التلاعب بها، و ارتكز على اختلاق الحيثيات، و استند ألى "استقراء" شهادات شهود أُخضعوا للقهر و الإبتزاز، و أدلوا "باعترفاتهم" تحت وطأة الضيق ( Duress ).

مما يكفي لإعتبارها باطلة إن "تنبّه" القضاء إلى عنصر الجبر هذا.

للأسف "سها" القضاء عن هذه العيوب في محاكمة الدكتور سمير جعجع فوقع خطأ جسيم و أُرتكب ظلم في حقه توخّى مدبروه أن يُسحق المظلوم تحت ثقله.

لكن خسئ الظالمون الخبثاء و سقط رهانهم على انهيار الدكتور جعجع داخل السجن الذي زُجَّ فيه تعسفاً.

فقد صمد بعزيمة صلبة عصيت على قساوة ظروف أسره الطويل.

و ها هو، بقلب طافح بالحبور و عيون متألقة بالأمل، يتأهب لمغادرة السجن "الحصين" ليتنشق نسائم الحرية معانقاً زوجته ستريدا الهارعة إليه من مجلس الأمة "لخطفه" إلى منتجع خارج الحدود، لقضاء فترة نقاهة ضرورية للتعافي قبل العودة لملاقاة الرفاق و المؤيدين و للترحيب بالمهنئين.

لقد خاضت ستريدا جعجع نضالاً حثيثاً و مضنياً لإطلاق زوجها من السجن، إلى أن تكللت جهودها بالنجاح، بعدما تهيأت الظروف المؤاتية لتحريره، إثر انسحاب الجيش السوري من لبنان طبقاً لقرار مجلس الأمن 1559.

مما أتاح استعادة حرية القرار و التحفّز للبدء بورشة الإصلاح و تأهيل السيادة و الإستقلال بعد إجراء انتخابات نيابية حرة على قدر ما أتاحه قانون ال 2000 العائب.

و مع زخم التغيير المستجد في صلب المجلس الجديد المنبثق من صياغة تحالفات فريدة، أمكن استصدار قانون عفو عن الدكتور جعجع مقروناً بآخر يشمل المتهمين بأحداث الضنيه و مجدل عنجر.

فهنيئاً لمن يستحق الحرية متى جيّرها لخير مجتمعه و مبروك للدكتور جعجع عودته الميمونة إلى المسرح السياسي.

كلما ارتسم في الأفق إرتياح للتطورات الإيجابية لا تلبث أن تكمده حوادث مفتعلة بخبث و لؤم أو تعصف به تفجيرات إرهابية مجرمة.

إن "الإشتباك" الذي وقع على تخوم منطقتي عين الرمانه و الشياح ( 18 تموز) لا يمكن أن يكون عفوياً و لا بدّ أن يكون معدّوه و المحرضون على افتعاله ينتسبون إلى الوكر ذاته الذي دبّر و حرّض على ارتكاب حادث "ضهر العين" ( 2 تموز) المؤسف.

بديهي و محتقر مقصد مثيري الإحتكاكات المتكررة هذه، فهم يهدفون ألى أشعال نيران خلافات من شراراتها، علّها تصيب هشيماً يسعّرها و يوسّع رقعتها.

"يرفد" شرّ هؤلاء أذى الغوغائيين المتهورين الذين "يمتشقون" سلاحهم و يضغطون على الزناد لإطلاق ( رشق ) "زلغوطة" "ابتهاجهم" التي تحصد برصاصها أرواح ضحايا مساكين.

و من وحي "شرّ البليّة ما يضحك" تحضر ألى ذهننا طرفة ذكية المدلول عن لسان صحافيين كانا يغطيان أخبار مشاورات الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة فؤاد السنيورة مع الكتل النيابية، عندما وجّه أحدهما ملاحظة إلى المسؤول الإعلامي في المجلس النيابي ( إحزروا إنتماءه) قائلاً: "ليش بتضلّك معصّب؟" فإستبق الصحافي الآخر ردة الفعل قائلاً: " إذا معصّب هيّنة، بس كل شي و لا "يبتهج"! "

بعد الإبتسامة نعود إلى العبوس و نسأل: من يحتفظ بالسلاح ( و المتفجرات و السيارات المسروقة! فتّشوا عن مخازنها و مرائبها! ) و لأي هدف؟

ثم حتى متى تستمر مهزلة تبوؤ زعماء مليشيات مناصب رسمية دون تفكيك مليشياتهم و تسليم سلاحهم للسلطة التى هم شركاء فيها؟

بفضل "نشر" أمثال هؤلاء أزلامهم تحولت بعض مؤسسات الدولة و بعض كليات الجامعة اللبنانية إلى "ثكنات" خاصة يحظّر دخولها على "الآخرين".

قرارات الدولة و أمن المواطنين لا يجوز "تلزيمها" أو تجييرها "لمنظمات" ( ذات مآرب) خاصة.

هذه بدع اختزال تحبط استراتيجية الدولة و تعطل عملها و تنقض سيادتها و تقامر بمستقبل أبنائها و تضرّ بالمصلحة الوطنية العليا.

هناك تشابك بالغ التعقيد بين هذه المنظمات "المخضرمة" و البؤر الأمنية "المستضافة" و تلك "المنسية" "سهواً" وراء المنجلين عنا و تيك المتسللة إلينا عبر الحدود مع سورية المشرعة للمهرّبين ( فيماأرتال شاحنات نقل البضائع و المؤن مشلولة على الأبواب الرسمية للعبور تنتظر "الفحص الأمني" الدقيق!).

من خلف ستر هذا الخليط الأمني العجيب، يترصد زارعو العبوات الناسفة و السيارات المفخخة تحركات الناس و الشخصيات السياسية لينصبوا الكمائن و يزهقوا الأرواح، ناشرين الرعب و الخراب، متحدّين الرعاية الدولية لنهوض لبنان، ، مستقطبين مزيداً من نخب المحققين الدوليين ليضطلعوا بحل ألغاز
الجرائم المرتكبة.


آخر حلقة من سلسلة الجرائم الإرهابية هذه كانت محاولة اغتيال وزير الدفاع في الحكومة المستقيلة و نائب رئيسها الياس المر بتفجير سيارة مفخخة في منطقة النقاش بتاريخ 12 تموز.

لحسن الحظ اقتصر الضرر على إصابات غير مميتة ألمّت بالمر و مرافقيه، فيما قتل للأسف البالغ عابر سبيل بسيارته هو المربّي خالد مورا.

لقد أثارت هذه الجريمة النكراء غضبنا و استهجاننا كما حركت في وجداننا مشاعر التضامن مع ذوي الفقيد مؤاساة لهم في محنتهم الأليمة.

فالعزاء و الصبر لعائلة مورا و التهاني للوزير المر و كافة الجرحى بالنجاة مع التمنيات بالشفاء العاجل.

إنّ الإسراع في جلاء خيوط هذه الجرائم تباعاً و كشف شبكة الضالعين فيها و إحالتهم إلى القضاء هو الوسيلة الرادعة و الحاسمة لقطع دابر الإجرام كما هو صمام الأمان و مبعث الطمأنينة للمواطنين القلقين.

فحبذا الإنباء عن كشف مبين!

ليس الهاجس الأمني هو الكابوس الوحيد الذي يحاصر المواطنين فالخناق الإقتصادي يشتد حول اعناقهم و المبادرة "الودية" لأركان النظام السوري "بتقنين" عبور الشاحنات المكدسة بالبضائع و المتوجهة إلى دول الخليج زاد الوضع تأزماً.

هذا الإستغصاص المتعمد هو شبه إغلاق للحدود القصد منه الإقتصاص و الأذية.

أما التذرع بإجراءات أمنية فهراء يكذبه حركة التهريب النشطة بالإتجاهين التي يستوفى منها "رسوم" ( جعالات ) مخفضة عبر مئات المعابر غير الشرعية.

و إذا كان من خطر فهو تسرب الأسلحة و المتفجرات باتجاه لبنان و ليس العكس.

و غريب أن ترتسم حدود المياه الإقليمية السورية بوضوح في أعين المسؤولين السوريين فتعتقل قواتهم البحرية صيادي سمك لبنانيين زعمت أنهم اصطادوا في مياهها، فيما "يعصى" عليها تبيان الحدود البرية و لا تبذل أي جهد لتوثيق ترسيمها رسمياً.

اللبنانيون يتوقون ألى جلاء الغموض عن الحدود الجغرافية و إزالة الإشكالات عن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

و المراقبون يتساءلون إذا كان التقدم الذي أحرزه ديتليف ميليس في استقصاءاته و تحرياته هو الصاعق الذي كهرب "عرّابي" أمن النظام السوري و المحفّز لإتخاذ تدابير "الحصار" الإقتصادي للبنان .

أما الحصار الأدهى فهو "إعادة تمركز" قوى " الإعاقة و الفساد" و"الجرف السياسي" للخزائن و القرار، في مواقع جديدة و بحلّة جديدة.

فلا عجب ألا يحصل "الإنسجام" في التشكيلة الوزارية الجديدة إلا بإقصاء شريحة أساسية من التمثيل الشعبي، عريقة في إلتزامها الوطني، متجذرة في النضال الذي أفضى إلى استعادة الحرية و السيادة و الإستقلال، متشبثة بصدق و تصميم و تخطيط ( برنامج ) بإستئصال الفساد و الإصلاح و التغيير.

الكفاءات ضرورية للقيام بأعباء الحكم، لكن سيطرة الذهنيات العقيمة و الجشعة عليها تحبط الجهود البناءة و تطيح بالإنجازات.

أما بعد، فيصعب التصديق أن الحكم الصالح "يُدشن" بإقصاء طلائع الإصلاحيين! لذا عمره كعمر الكذب، قصير!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٦.٦.٠٥

مذكرة دولية:مطلوب أنقياء

حميد عواد*

يبهت الكلام، حتى بليغه، في صخب الأحداث الجسام. إغتيالان آثمان زنّرا فترة إجراء الإنتخابات النيابية في لبنان و هزّا من جديد وجدان اللبنانيين:

أولهما، في 2 حزيران، أودى بحياة الأستاذ الملهم و الكاتب المحلل و المفكر المميز سمير قصير الذي حرم غيابه انتفاضة الإستقلال قوة دفع عالية المنسوب.

ثانيهما،في 21 حزيران، صرع المناضل جورج حاوي الذي نشط في السنين الماضية على درب ترسيخ الوئام في الحياة الوطنية عارضاً صيغ حوار على مختلف مراجع شرائح المجتمع اللبناني و الذي حضّ سوريا على ضرورة رفع هيمنتها عن لبنان.
تغمّد الله الشهيدين بفيض رحمته و ألهم محبّيهما الكثر الصبر و السلوان!

يندرج هذان العملان الإرهابيان في سياق سلسلة كمائن غدر و تشفٍ إجرامية تقتصّ من شخصيات لبنانية فذّة انتصرت للحرية و السيادة و الكرامة الوطنية.

كما يُبتغى منها بثّ القلق في نفوس النخب الحرة و زعزعة الإستقرار و تبديد الثقة مثلما تشكّل تحدياً سافراً للمساعي الدولية التي ترعى إعادة تأهيل لبنان على الصعد كافة.

لذلك لا نستغربنّ إذا حدث تدوير (recycling) للإرهابيين اللذين سخرا لهاتين المهمتين وعُثر على أشلائهما في العراق إثر تفجيرين إنتحاريين يخفيان أثرهما.

فيما كان اللبنانيون الأباة يترقبون تبلوراً بارزاً و محكماً لمغازي حوافزهم و تطلعاتهم يوم ساروا مواكب عزّ في 14 آذار، أدار الإستاذ وليد جنبلاط أشرعة سفينته يمّ هبوب الرياح الدولية واعتلى منبر الخطابة و استأثر بأضواء الإعلام و بدأ بتحوير المسار و تضليل المشاهدين و الإلتفاف على طليعة الممانعة و التصدي: التيار السيادي.

الأستاذ وليد جنبلاط كطائر الكوكو يبيض في عشّ بناه غيره.

و الطامة الكبرى ليس فقط نكرانه حق غيره و إنما محاولته انتزاع الموقع من صاحبه.

لا أحد يغفل ثمن التحول ( التكتيكي؟) الذي حمل جنبلاط ألى مقلب معارضة حكم الأجهزة المنبثقة من حامل أختام الشقيقة الذي كان متسلطناً على لبنان من بلاط عنجر.

فقد عاش فترات قضّ مضاجعه فيها كابوس الإغتيال و قد طال أولاً النائب و
الوزير السابق مروان حماده الذي كاد يقضي في أنفجار استهدف حياته لكنه نجا بأعجوبة.

أما هول الكارثة الإرهابية اللاحقة التي زهقت أرواح الرئيس الشهيد رفيق الحريري و الشهيد الخبير الإقتصادي الوزير باسل فليحان و 20 شهيداً آخر فكان هزّة مروّعة ميدانياً و نفسياً.

و لا شكّ أن هاجس التصفية المهيمن على خواطر جنبلاط هو الذي حدا به إلى إرسال ابنه تيمور إلى فرنسا طلباً للأمان.

لكن هذا الإضطراب لا يبرر محاولات جنبلاط السعي الدؤوب لشرذمة الفريق الأساسي من المعارضة سعياً لإتنزاع ولاء شتاته لزعامته.

لقد نجح في إجهاض التحالف مع التيار الوطني الحر آملاً أن يبقى بلا حليف في الدوائرالتي يقتضي فيها عقد تحالفات.

لكن الجنرال عون و أركان التيار اضطروا إلى اتخاذ قرارات صعبة وتجاوزوا عقبات كأداء و أزالوا حواجز شائكة و تخطوا العزلة التي رسمتها مخيلة جنبلاط و حظوا بتأييد كثيف من الناخبين في المتن و كسروان و جبيل و زحلة.

فبلوروا قوة شعبية حرة القرار يشدها التوق إلى العزة و الحرية و السيادة و لا يقوى على شراء ولائها المال و لا تغريها و لا تسترهنها عروض الخدمات.

لقد شاء جنبلاط غداة اغتيال شهيد لبنان الرئيس رفيق الحريري الإستئثار بقيادة إنتفاضة الإستقلال داخل الوطن دون منازع و انكب على تجيير ما أمكن من رصيد المغدور به لصالحه لذا جفل من عودة الجنرال عون و أجّل البتّ بإطلاق الدكتور جعجع من السجن و انتغص من بروز الحريري الإبن كوريث لأبيه.

ركب جنبلاط صهوة القرار 1559 لفترة وجيزة. ثم ما لبث أن طعن به وانقلب عليه "حماية للمقاومة" و روّج لبقاء القوات السورية في البقاع سعياً لإستدرار عفو عن "هجره" الكنف السوري.

و هكذا حوّر مغزى المعارضة و صورها معارضة لهذا القرار التاريخي، ثمرة تضافر جهود أميركا و فرنسا، الذي فرض سحب فصائل الجيش السوري و طواقم مخابراته ( المشكوك بصحة انسحابها حتى الآن) انسجاماً مع مطالب و نضال التيار السيادي بكافة شرائحه في لبنان و في بلاد الإغتراب.

لقد تلمّس الأستاذ وليد جنبلاط رضا حزب الله دعماً لزعامته و قبض الثمن تحالفاً معه في لائحة قضاء بعبدا-عاليه و أمن نجاحها بأصوات أبناء الحزب المذكور.


و هو يطمح اليوم، بعد نجاح 72 نائباً من لوائح تحالفه مع الحريري و كتلة "قرنة شهوان"، إلى "اختيار" من يراه مناسباً لموقعي الرئاستين الثانية و الثالثة قريباً و لموقع الرئاسة الأولى لاحقاً.

و يندرج في هذا السياق مبادرة جنبلاط ألى تأييد "تجديد" إنتخاب الأستاذ نبيه بري رئيساً للمجلس النيابي لولاية رابعة علماً بأنه "نجم ساطع" من نجوم الحقبة السورية في لبنان يتحمل تبعات السلبيات الناشئة عنها!!

و قد أعلن ذلك قبل التشاور مع حليفه سعد الدين الحريري و خلافاً لمشيئة النواب الأعضاء في كتلة "قرنة شهوان" و كأنه يريد فرض قراره على من يفترض أنهم حلفاؤه.

أليس مستغرباً ممن "يطمح" إلى التغيير و الإصلاح و من يتصدى بشراسة للتمديد "نصف" مرة في موقع الرئاسة الأولى أن يكون متحمساً "لتجديد" رابع في موقع الرئلسة الثانية؟ ( حتى و لو أخذنا بعين الإعتبار نصوص الدستور.)

إنّ باع بري، "إبن سوريا" المدلل و "التلميذ" الفخور و الكلي الطاعة للرئيس الراحل حافظ الإسد ( طبقاً لبنود الدستور اللبناني!!!)، طويل جداً.

فثروته و أملاكه يصعب تقصّي مصادرها، و نفوذه طال العديد من المؤسسات العامة و إرادته السنية ملأت ما لا يحصى من المراكز.
لذا من الصعب "فصله" عن السلطة!

و هو بترئيسه على المجلس النيابي "أنعم" عليه دستور الطائف بصلاحيات واسعة فسيطر على اللجان و مهد الدرب لتمرير القوانين التي تخدم "خطه" و جمد أو أحبط تلك التي تتعارض مع مصالحه و مصالح حلفائه.

جنبلاط و بري يلتقيان كديماغوجيين و كقناصي فرص فليس غريباً أن يستقوي واحدهما بالآخر.

كل منهما اشتهر "بأريحيته" كرجل "برّ و إحسان" أغدق الوظائف، و منها الصوري، على مناصريه و "جاد" على حاشيته بمال "الخيّرين"، مال أبناء الوطن المنكوبين المحصل من جنى إرهاقهم و المستدان على حسابهم بأبهظ الفوائد، و ذلك من خلال "الصناديق" و "المجالس" و المؤسسات العامة و الوزارات.
مسيرة الإصلاح و التغيير تقتضي اليوم قطيعة مع اساليب الماضي الملتوية و تفرض إقصاء الفاسدين لصالح المستقيمين المتفانين في خدمة الوطن.

محك صدق النوايا هو تقاطب الخيّرين من نواب مختلف اللوائح فينسقوا طبقاً لقناعاتهم (و لو خالفت الرئيس أو الزملاء في كتلتهم) و يبدأوا باختيار علاّمة تشريع نظيف السجل رئيساً لمجلسهم و شخصية عفيفة غنيّة بالعلم و المعرفة و الخبرة رئيساً لمجلس الوزراء.

عندها يمكن الشروع بورشة إصلاح بنية الدولة و تنقية و فرز السلطات و الصلاحيات و توظيف الطاقة البشرية المختصة و المؤهلة للإقلاع و الإطراد في النمو نحو الإزدهار.

المجهر الدولي يتابع بدقّة مراحل التجديد في لبنان و المجتمع الدولي يتأهب للمساعدة في كل مجال شرط تشكيل حكومة مؤلفة من وزراء مشهود لهم بالنزاهة و الصدق و الشفافية يعدون برامج إنماء ناجحة لإنعاش حركة مؤسسات الدولة و لرفع مستوى حياة المواطنين.

حذار الوقوع في الخطأ لأنه إن حصل سيغرق المركب في رمال الديون المتحركة و سيحرم اللبنانيين فرصة العيش حياة كريمة!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٤.٥.٠٥

إنتعشت الآمال فلا تنغصّوها

حميد عواد*

إن نجاح أي حوار بين فرقاء متبايني الآراء يتطلب، إضافة إلى الذكاء و الحنكة في إدارة الحوار، تمتع كل منهم بوعي و حسن نية و نزاهة و صدق و صراحة و منطق تحليلي و سعة معرفة و عمق تبصر و قابلية لفهم الآخرين و و استعداد مرن للتصحيح و التعديل عند الإقتضاء و حس مرهف في التمييز بين الأفضليات و التزام مخلص ببلوغ صيغة وفاق.

و الحوار على الصعيد الوطني ينطلق من مبادئ محورية تشكّل جوهر الحياة المشتركة للأمّة و صكّ وجودها و ترسم الأطر التي تمّ التوافق عليها، فتصاغ بنوداً في الدستور تستمدّ منها روحية القوانين و تشكل معياراً لصلاحية أو بطلان التشريعات و التدابيرالمنوي إتخاذها.

و الدستور ليس قالباً جامداً بل يجوز إعادة النظر به ليتلاءم مع سياق تطور الحياة المعاصرة و ليستجيب لمتطلبات تحسين فرص مرعييه في الإرتقاء إلى مستوى أفضل، لكنه ليس مطيّة لأي فريق يرغب في تعديله، ساعة يشاء، تنفيذاً لمصلحة خاصة أو فئوية تستسيغ هدر أو قضم أو استغلال المصلحة العامة.

في حقبة إطباق الهيمنة السورية على لبنان أُسر الوطن و أُخضع لشتى أنواع التنكيل والإستباحة المنهجية لمقدساته و لم يسلم الدستور و لا العيش المشترك و لا الحوار ولا حقوق الإنسان من الإنتهاك.

و لولا صمود عصب الممانعة- التيار السيادي- في انتفاضه الأبي على الذل و عصيانه على التدجين طيلة هذه المدة لما أستحوذ تحرير لبنان على الدعم الدولي المقونن و لما سنحت الفرصة لشركاء فاعلين من أبناء الوطن للإنضمام تدريجياً إلى موكب الحرية و السيادة و الإستقلال.

أما ذروة التضامن الوطني فتبلورت في مسيرة 14 آذار عقب اغتيال الشهيد المستهدف رفيق الحريري الذي غيّب معه أرواح الشهداء باسل فليحان و 18 مرافقاً.
إن إيذان قرار مجلس الأمن 1559 بحتمية و قرب جلاء جيش النظام السوري و مخابراته عن لبنان شجع المكبوتين المترددين على خرق حواجز الخوف و على إطلاق العنان لحناجرهم تعبيراً عن استنكارهم لهذا الإجرام الشنيع الذي "رعاه" عراب المخابرات المافياوية المتربص "بالمنشقين" و المترصد أنفاس كل الناس من بلاطه في عنجر.

في "إنتفاضة عنفوان أبناء بلاد الأرز" المباركة توحد إيقاع الأصوات على المطالبة بالحرية و السيادة و الإستقلال و جلاء عسكر و مخابرات النظام السوري ومعرفة الحقيقة عن الكامنين وراء مؤامرة الإغتيال.

و ما لبثت أن توالت الأحداث وفق طموحات أحرار الضمير و الفكر، إذ أخلت طوابير النظام السوري الأراضي اللبنانية في 26 نيسان و أُنشئت لجنة التحقيق الدولية في قضية اغتيال شهيد لبنان الرئيس رفيق الحريري بموجب القرار 1595 و هي تتهيأ للمجيء إلى لبنان خلال اليومين المقبلين و الكل يترقب تقرير لجنة التحقق من الإنسحاب السوري من لبنان التي لا بد أن تتطرق إلى ضرورة رسم الحدود بين البلدين لحسم قرارها. و ذلك يتضمن حسماً لموقع مزارع شبعا و تحديداً لمصير سلاح حزب الله.

إنجازات مجيدة كهذه، هي ثمرة نضال باسل و تضحيات نفيسة، لا يجوز تنفيس زخمها أو تشتيت صفوف فصائلها أو تحوير مسارها او الإستئثار بقطف جناها.

إن عودة العماد عون، القائد البارز في مسيرة التحرير التي جند لها التيار الوطني و حلفاؤه و أصدقاؤه، مع رفاقه إلى الوطن هي "مدّ" خيّر و معين ضروري لبناء لبنان المعافى و المعاصر.

فليس ما يبرر "الجزر" الذي قابله به الأستاذ وليد جنبلاط متذرعاً باتهام الرئيس عون باحتكار المعارضة و النزعة إلى ترؤسها في الوقت الذي غزل هو حبكاته الإنتخابية مع الحليف سعد الدين الحريري بمنأى عن بقية الحلفاء.

هل نتوقع ردة فعل مماثلة حين يطلق الدكتور سمير جعجع من "صومعته" خاصة بعد زيارة العماد عون له تكريساً للتضامن معه و نبذاً لأخطاء الماضي؟

في ذروة "التطيّر" الجنبلاطي انتقلت العدوى إلى الحريري الذي قال أن الطاولة التي تجلس عليها المعارضة يجب أن تكون "دائرية" ( بلا رئيس).

صحيح أن العماد عون انتقد الزعامة الإقطاعية تقليدية كانت أم مالية سياسية ثم كنّى جنبلاط و الحريري برستمين غزاليين.

و ما ردة الفعل هذه إلا تعبير عن امتعاض العماد عون من تنكر منتقديه لأصول التحالف : فمن ناحية لم يبادرا إلى إقرار قانون الإنتخاب المشتق من قانون 1960( القضاء دائرة انتخابية كما طالبا أساساً) و من ناحية ثانية لم يتشاورا (في البدء) مع أطراف المعارضة على خوض الإنتخابات على أساس برنامج عمل ( كان جنبلاط ينادي به ثم عاد و أغفله) قبل البحث في لوائح المرشحين.

إن "التكرم" بمقعد هنا و مقعد هناك من جانب واحد لا يفي بشروط الشراكة المتكافئة.

بعد انحسار التراشق الإعلامي و عودة البحث إلى طاولة المناقشات نأمل أن يلتزم المتحاورون الأصول التي ذكرناها في مطلع هذا الكلام فلا يقف أي تفصيل حائلاً دون الاتفاق على خوض الإنتخابات ضمن لوائح موحدة، و لو بقانون عائب "نام عنه نواطير" السلطة حتى لحظة الحشر.

و كم كنا نتمنى لو أقر قانون سليم عادل يسمح للمغتربين أيضاً، و جلّهم من الملتزمين بقضايا الوطن، أن يمارسوا حقهم في انتخاب ممثلين أكفياء لينوبوا عن كل أبناء بلاد الأرز في إدارة دفة الدولة.

لا شك ان إنصباب الإهتمام الدولي على إجراء الإنتخابات بمواقيتها خوفاً من الوقوع في المجهول سهّل نفاذ قانون انتخابات سنة 2000.

فقد ذكر الحريري، و هو الذي تحادث مطولاً مع مسؤولي الإدارة الأمريكية، محذور تشكيل حكومة عسكرية، فيما ربطت اجتهادات أخرى العجلة بتقنين حصص معينة و بتغطية قرارات مهمة ستتخذها السلطة المنبثقة عن الإنتخابات.

مهما كان الدافع إلى هذه الحمية نتمنى أن يخفف الإقتراع الكثيف من مساوئ هذا القانون و أن يحكّم كل مقترع ضميره بصفاء داخل الغرفة السرية (و ليس خارجها) ليحسن الإنتخاب.

فينبثق عن هذا الإستحقاق غالبية من النخب الكفية العالية المناقب القادرة على حل المشاكل الشائكة و تنقية و تأهيل و فرز السلطات و تحصين القضاء و تحسين فرص العلم و العمل والعناية الصحية و التربية المدنية الراقية.

فإن نجحت يحتل الإنتماء إلى الوطن أعلى مرتبة في حياة المواطن، و تحوز دولة الديمقراطية و التفاعل الحضاري هذه على ثقة المجنمع الدولي المستعد للسخاء بشتى أشكال المساعدات لدعم نموها حتى ذروة الإزدهار.

لقد انعشت أجيال لبنان الآمال بمستقبل مشرق فحذار أن تنغصوها!

* مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٤.٤.٠٥

فرحة من رحم المأساة

حميد عواد*

حزن وأسى مهيبان واكبا الشهيد باسل فليحان النائب و الوزير السابق إلى مثواه الأ خير.

وقع الصدمة نكأ جرحاً ما زال طرياً شقه هول كمين الإغتيال الآثم يوم 14 شباط في وجدان اللبنانيين الذين تفانى باسل فليحان في خدمتهم بإخلاص و سعة معرفة وإتقان.

الوجوم و الرهبة جللا الهامات المفجوعة: الأم، الزوجة، عائلة عميد الشهداء الرئيس رفيق الحريري، لفيف من سفراء الدول الكبرى و حشود من اللبنانيين.

الشعب الفرنسي، بلسان رئيسه جاك شيراك، قدّم تعازيه الصادقة و البليغة و عبّر برقة و نبل عن تعاطفه مع عائلة الفقيد.

وحدهما طفلا الشهيد باسل فليحان لا يدركان تماماً حجم الخسارة التى ألمّت بهما و انتقصت من رصيد الوطن قدراً مهماً.

لكن العزاء هو أن انسلاخ أجساد هؤلاء الشهداء عن مواقعهم و محبيهم ما غيب أرواحهم لأنها غدت ذخيرة بددت هواجس الخوف و أزكت مشاعر العنفوان و نفحت أنفاس الحرية و وثقت أواصر المواطنية و أطلقت مسيرة "انتفاضة أبناء الأرز" مواكب سلمية تعبر بصدق و رقي عن الحرص على كشف الحقيقة(حيثيات المؤامرة و هوية المتآمرين) و عن التشبث بالسيادة و الاستقلال في كنف نظام ديمقراطي يرعى حقوق الإنسان و يصون كرامة المواطن.

اللبنانيون و العالم أجمع مصممون على الاقتصاص من محترفي الإجرام الذين يتوسلون الإرهاب لإخضاع الناس الآمنين المسالمين، ليس من باب التشفي و الإنتقام بل ردعاً لمن تسول له نفسه اللجوء إلى مثل هذه الأساليب بعد اليوم.

لجنة اتصال تمهد الدرب أمام لجنة التحقيق الدولية المولجة كشف مرتكبي و مدبري عملية اغتيال الرئيس الحريري و صحبه، آتية إلى لبنان خلال أسبوع، و سيسبقها لجنة أخرى للتحقق من اكتمال انسحاب القوات السورية ليس جيشاً فحسب و إنما مخابرات و عملاء "متجذرين" في دوائر و مؤسسات الدولة أيضاً ( كلام الرئيس بوش خلال مقابلة مع قناة LBC ).

هذا الشغف الحثيث في التدقيق يعبر عن جدية العالم الحر في استئصال شهوة و براثن النظام السوري النازعة لابتلاع لبنان و هضمه، استجابة لما تاق إليه و ناضل من أجله اللبنانيون الأصلاء في سبيل استرجاع حرية القرار و السيادة والاستقلال.

هناك إذن استحقاقات كبرى يتوقعها اللبنانيون بعد مساهماتهم الفاعلة في الإعداد لها:

جلاء نهائي لجيش و مخابرات النظام السوري عن لبنان قبل 30 نيسان (متوقع خلال اليومين المقبلين) مما يجعل هذا التاريخ محطة وطنية مهمة يليق الإحتفال بها.

بعد حرق للوقت الثمين مع عمر كرامي ضغط فريق من قوى المعارضة بدعم فرنسي-سعودي لترجيح كفة تكليف المهندس نجيب ميقاتي تشكيل حكومة إنتقالية، تفادياً لكارثة تكليف عبد الرحيم مراد و منعاً لمحاولة تجاوز المهلة الدستورية لدعوة الناخبين.

هكذا ولدت حكومة برئاسة الأول أثار التحفظات عليها تعيين الياس المر وزيراً للدفاع و أعادة محمود حمود وزيراً ("للمناكفات") الخارجية (نتساءل إذا كانت الدكتورة بثينة شعبان "ستشرف" مجدداً على "تنقيح" مذكراته و خطبه).

و بما أن بعض الوزراء يوحي بالثقة علق اللبنانيون الآمال على إقرار قانون إنتخابي غير مفخخ يعتمد القضاء كدائرة إنتخابية تجري الإنتخابات النيابية على أساسه وتنظم تحت إشراف دولي (الإتحاد الأوروبي عرض خدماته و كذلك فعلت الولايات المتحدة و الأمم المتحدة).

لكن يبدو أن ثغرة المناورات لم تقفل تماماً. فبعد التعجيل باستيلاد الحكومة الجديدة للإلتفاف السريع على عملية قضم الوقت لتخطي المهلة الدستورية (دعوة الهيئة الناخبة قبل بداية شهر أيارلئلا نُنكب بالتمديد للمجلس الحالي ) ، استمرت محاولات استنفاد الوقت بالصيغ الملتبسة و المثيرة للجدل(وقد انتقدها خبراء في علم القانون) ليؤول الوضع إلى خيارين احلاهما مرّ: إما"التسليم" بإجراء الإنتخابات طبقاً للقانون الذي اعتمد سنة 2000 و إلا التمديد.

و طالما أن اعتماد القضاء كدائرة انتخابية هو الخيار البديهي لمن يحرص على تمثيل دقيق و أمين للناخبين، لا يمكن تصنيف المشاريع الأخرى إلا محاولات طمس وقحة للتمثيل الشعبي و إن ألبسها أصحابها شعارات براقة، هم أول الطاعنين بها.

هؤلاء بالذات هم ربيبو أجهزة المخابرات السورية و سماسرتها الذين تواطؤوا معها في الإنقلاب على الوطن و في التنكيل بشبابه الأباة و شاركوها في عمليات الإبتزاز و شفط المال العام و الخاص و احتكار الوظائف و المناصب.

هؤلاء بالذات هم الذين يُستنفرون ضد كل مساعدة دولية للبنان تحت ذريعة التدخل بشؤونه فيما يسمون استباحة النظام السوري لكرامات و مقدرات اللبنانيين و انتهاكه لقوانين و دستور و مؤسسات الدولة اللبنانية، دعماً أخوياً مميزاً.

هؤلاء بالذات هم الذين كفروا بنعم وطنهم و تبنوا تطلعات تتناقض مع بروز لبنان المميز، الحر، الديمقراطي، السيد و المستقل.

هؤلاء بالذات هم الذين "يشهرون" السلاح الديمغرافي في وجه من لا يوافقهم الرأي "لإفحامه" و كأن الحكمة و القوة و القدرة تكمن في الإفراط في الإنجاب دون التنبه إلى خطورة هذا المنحى الآيل إلى الفقر و المجاعة و الجهل و التناحر و المرض و الفناء. هل يبدي هؤلاء حسن النوايا و كيف يمكن اعتبارهم "شركاء"؟

أن النخب المتنورة الرافضة لهذه الإختلالات و هذا السلوك تتقاطب و تشكل هيئات و كتلاً متميزة عن مسيرة المنحرفين و الإنتهازيين، و تؤكد إيمانها بالوطن و ولاءها له منسجمة مع المنضويين في البوتقة الوطنية الجامعة.

مع تصاعد وتيرة الأحداث و تأجج المشاعر الوطنية يترقب مناضلو التيار السيادي بشوق لقاء القيادات التى أبقت جذوة الإيمان بالوطن متقدة والتي أُبعدت و فُصلت عن أهلها عنوة و ظلماً.

مع إنهاء الإحتلال أصبح تصويب ميزان العدل ممكناً و غدا اللقاء قريباً.

ها هو العماد ميشال عون و اللواءان عصام أبو جمرا و إدغار معلوف يتأهبون للعودة إلى ربوع الوطن بعد "سفر برلك" في أسطول جوي حاشد بالمؤيدين.

و ها هم النواب المتعاطفون مع مطالب جماهير التيار السيادي يقترحون تعديل قانون العفو ليشمل الدكتور سمير جعجع الذي اعتقل ظلما و قاسى11 عاماًً من وحشة السجن و غدا الظرف سانحاً لإطلاقه.

سيل من التطورات السعيدة تتلاحق و ولادة جديدة للوطن على وشك الإكتمال فلنبدأ الإحتفال ولو أن ورشة "تنظيف" طويلة و جذرية تنتظرنا.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١٠.٤.٠٥

شق الطريق بحثاً عن الحقيقة

حميد عواد*

ما توفير الغذاء و العناية الصحية إلا تأمين للوقود و الصيانة الضروريين لجهوزية العقل "في الجسم السليم" لتقبل المعارف و لوعي مكانته و دوره في المجتمع الإنساني .

لكن المهمة الأسمى تكمن في جودة إعداد المرء فكرياً و ثقافياً و أدبياً لتنكّب مهام نافعة و مفيدة و منشطة لتقدم المجتمع.

أما إذا وقع "خطأ فادح" ( عفوي أو مقصود) في "البرنامج التأسيسي لتشغيل الدماغ" تحول حامله إلى قنبلة موقوتة إلا إذا حدث تدخل لإصلاح العطل.

يمكن إدراج تدخل العالم الحر، مباشرة أو عبر مؤسساته الدولية، لإصلاح الأنظمة المتخلفة و إعتراض النزعات الهدامة و التصدي للثورات الهمجية، في هذا النطاق، بقصد الإنفتاح و حل النزاعات بأسلوب سلمي، حضاري و بناء.

فتوسل العنف و الإرهاب لقمع رأي حر مسالم أو إلغاء غريم راق هو تعبير وحشي عن إفلاس فكري عجز صاحبه عن المقارعة بالحجة و المنطق.

و ما اغتيال الشهيد رفيق الحريري، الرئيس السابق لوزرات متعددة في لبنان، إلا عمل إرهابي خطير ينمّ عن جموح إجرامي جارف، ظن مدبروه أن العالم الكثير الإنشغال بمكافحة الإرهاب في بقاع متفرقة لن يتفرغ لتفكيك "معتقلاتهم الحصينة" و تحرير أسراهم المتمردين على الظلم، و لم يتوقعوا هذا الإنكباب الحثيث على ملاحقتهم.

الإستنفار العالمي المستمد زخمه من النهوض اللبناني العملاق والنشط بلا فتور، قضى بتشكيل بعثة تقصي الحقائق المنتدبة من جمعية الأمم المتحدة.

و استناداً الى الإهمال المعيب الذي إعترى التحقيق "الرسمي" و العبث المشبوه بالأدلة و إلتقصير الفاضح في السعي لجلاء ملابسات الجريمة، إضافة إلى خطورة شحن الأجواء الممهدة للإغتيال بتسعير التحريض على الشهيد، أوصى فريق تقصي الحقائق في تقريره المرفوع إلى الأمين العام كوفي أنان بضرورة تشكيل لجنة تحقيق دولية للغوص في صلب شبكة الجريمة و سبر كل أبعادها.

و ما أن أحال الأمين العام للأمم المتحدة التقرير إلى مجلس الأمن حتى أصدر هذا الأخيربالإجماع، بعد مداولات تخطت عقبات أثارها بالواسطة ممثلو بقايا السلطة الآفلة ، القرار1595 الذي يقضي بتشكيل فوري للجنة تحقيق (تيمّناً بالحقيقة) مكتملة المهارات بشرياً و التجهيز تقنياً، متمتعة بصلاحيات واسعة النطاق نابعة من "ميثاق إمتيازات و حصانات الأمم المتحدة"، مخولة الولوج بلا عوائق إلى كل الأماكن و الإطلاع على كافة الوثائق و الأدلة التي تجدها مرتبطة "بالجريمة الفظيعة" و مقابلة الأشخاص الذين ترتئي استنطاقهم دون استثناء أحد.

هذه المهمة الموكولة لثلاثة أشهر قابلة للتمديد فترة مماثلة تهدف لمساعدة السلطة اللبنانية في استقصاء كل أوجه "العمل الإرهابي" و كشف هوية مرتكبيه و مدبريه و المساهمين في إعداده و المساعدين على تنفيذه، لتتخذ حينها، حكماً، هذه السلطة التدابير القضائية الملائمة بحق هؤلاء المذنبين.

كما يلزم القرار كل الدول و الفرقاء بالتعاون التام و المطلق مع اللجنة خاصة فيما يتعلق "بالعمل الإرهابي" (الإغتيال).

و ذكر مجلس الأمن في مقدمة القرار بوجوب احترام سيادة لبنان و سلامة أراضيه و وحدته و استقلاله السياسي برعاية سلطة الحكومة اللبنانية دون منازع، كما شجب أعمال التفجير الأخيرة و حضّ كل الأطراف على "الإنضباط" و اعتماد السبل السلمية حصراً لتقرير مستقبل البلد.

لن نعجب إن "يلجأ" بعض "النجوم"، المحشورين بالتصميم الدولي على إماطة اللثام عن فصول الجريمة النكراء، إلى التفتيش عن "ملاذ آمن" خفيّ عن الأنظار، متمثلين بإحدى "نجوم" فضيحة بنك المدينة المتمادية الجذور.

و لن نذهل إن نشط أعضاء لجنة التحقيق في تقفي آثار "مخرجي" فيديو "أبو عدس، و منفذي اشغال الطريق التي أجريت في موقع الإنفجار قبل وقوعه بفترة وجيزة.

و لن نشده إن نبشوا بحذاقة الشهود المتوارية و دققوا بعناية بالغة في مسرح الجريمة و حللوا بمهارة فائقة الأدلة بواسطة تجهيزاتهم المتطورة.

و لن نفاجأ إن "داهموا" الغرف السرية و القصور، داخل لبنان و خارجه، و استجوبوا أربابها.

و لن نستغرب أيضاً إن استنطقوا أصحاب الكسارات و طواقمها ليستفسروا عن مصادر حصولهم على المتفجرات و كيفية التصرف بها و أماكن تخزينها.

و لن نندهش إن استدعوا للتحقيق "وجهاء" و قراصنة و لقطاء شبكة المخبرين التي يُتمت، على تنوع مهامهم و مراتبهم، و سألوهم عن "الخدمات" التي أسدوها مقابل اغترافهم الثروات التي سرقوها من المال العام و الخاص.

كل الدروب سالكة أمام هذه اللجنة و النجاح بلا ريب سيكون حليفها. و لربما تشأ "الصدف" أن تكشف في طريقها جرائم كبرى سابقة بقيت حتى الآن طي الكتمان.

لا يسعني أن أختم حديثي دون التعبير عن اغتباطي بقرب انجاز انسحاب جيش النظام السوري و مخابراته من الوطن، و دون أن أنوّه بفخري و اعتزازي بأبناء وطني الذين عصوا على الطغيان، وثابروا على التشبث بالحرية والسيادة و الإستقلال، و مهدوا الدرب لإخوانهم المكبوتين ليطلّقوا الخوف و يتّحدوا بهم في بوتقة وطنية رائعة نتمنى لمن حنث بها أن يدرك أهميتها و يتنعم بحلاوتها.
حذار المقامرة بهذا الإنجاز الثمين فهو ملك الشعب العظيم.

تحية وفاء للقيادات التي ألهمت الجماهير، منها من غيّبه الغدر و منها من يتأهب لملاقاة المواطنين.

فألمنفيون عنوة عائدون و المسجون ظلماً سيطلقون و العرس التاريخي المنتظر بشوق سيبدأ.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٩.٣.٠٥

تقصي الحقائق و تقفي خطوات الإنسحاب

حميد عوّاد*

بعد تقصٍِِ أولي للحقائق ، بمختلف وجوهها، و معاينة ما لم يُخفَ من الأدلة و جلب شهود "أغفلهم" التحقيق الرسمي و تمنُّع "أقطاب" عن "البوح بمكنوناتهم"، صدر تقرير لجنة خبراء الأمم المتحدة في صيغة مضبطة إتهام لرؤوس "توائم" الأجهزة الأمنية ، بالتقصير الفاضح و الإهمال المشبوه و الإستنكاف المتعمّد عن الإ جتهاد في جلاء حبكة المؤامرة التي استهدفت الرئيس الحريري و أدّت إلى استشهاده و لفيف من مرافقيه.

أثار التقرير إحتقان الإستياء السوري من "تألب" خفي و "إلتفاف" خلفي على سلطان أربابه الآسر لبنان، تبلور بالقرار الأممي 1559 الذي إتُهم الرئيس الشهيد بالضلوع في استصداره.


و قرن هذا الغضب باللقاء "الوداعي" الخاطف و الصاعق بينه و بين الرئيس بشار الأسد. و ربطه بحملات تحريض شعواء أطلقها "أشبال" النظام السوري ضد الفقيد مهدت الدرب و هيأت الأجواء لبلوغ الذروة في التفجير الآثم.

بعد المسح الميداني و الإستقصاء الأمني و الإستقراء السياسي خلص الخبراء إلى قناعة أن رؤساء الأجهزة الأمنية الممسكين بمؤسسات لبنان هم عقبات تعرقل سياق تحقيق دولي سيصدر مجلس الأمن قراراً اليوم بإجرائه.

و كان لافتاً قصة "كبش المحرقة" " أحمد أبو عدس" الذي تلقفه "مرشد روحي" مزعوم و كسب ثقته ليعده "بمفاجأة" اصطحبه إليها صباح 16 كانون الثاني و يختفي أثره بعدها علماً أن الشاب المغرر به وعد أمه بالعودة بعد بضع ساعات.
من الشائع أن يتنكر مخبرون "بحلة" متدينين و أن تسعى المخابرات في الأنظمة الشمولية إلى استمالة و حتى تجنيد رجال دين.

فهل يا ترى انطلت حيلة ما على الشاب "أبو عدس" أو استغلّ إيمانه ليظهر في الفيديو و يصرح بما لُقن؟

ثم تمم فعلاً المهمة بسوق شاحنة الميتسوبيشي البيضاء ( الظاهرة في شريط الفيديو الذي التقطته كاميرا بنك HSBC القريب من موقع الإنفجار) المحملة (فرضاً) طناً من متفجرات TNT ففُجرت بعلمه أو بدون علمه؟

ماذا لو أن السيناريو أختلف و نشطت الأجهزة بمؤازرة ( أو إمرة) الأجهزة "الشقيقة" و اكتشفت "مخبأ" "أبي عدس" و قتلته في اشتباك ما أو اعتقلته و أحالته على محاكمة خاطفة فأعدم ثم طالبت بتثبيت سلطتها جائزة لمهارتها "بصيد" الإرهابيين؟

المذهل أن يتكرر الإتصأل بمكتب محطة تلفزيون "الجزيرة" أربع مرات من جانب "خلية" "أبي عدس" للحثّ على الإسراع في بث الفيديو و مرة إضافية
بوكالة "رويتر" دون تخوف من إنفضاح أمرهم و كأن "الآذان المتنصتة" و "العيون الراصدة" هي "صديقة".

مما لا شكّ فيه أن جريمة الإغتيال تمت في حمأة "استقطاب حاد حول النفوذ السوري" و على خلفية صراع مع الشهيد بشأن التمديد لرئيس الجمهورية و تأمين استمرار حكم أجهزة الأمن المرتبطة عضوياً بالنظام الأمني السوري.

كما أن انخلاع جنبلاط و الحريري عن القبضة السورية و انضمامهما تباعاً إلى الموكب السيادي و التحصن بقرار مجلس الأمن الدولي 1559 زعزع ركائز سطوة أركان القيادة السورية و أثار الهلع و السخط في أوساطها.

و بقدر ما يشكل سلطانها في لبنان طاقة حيوية تنعشها و تعزز موقعها في سوريا بقدر ما تستميت في الحفاظ على امتيازاتها في لبنان. لذلك فهي لن توفر فرصة لإبقاء مواقع نفوذ لها داخله.

من هذا المنطلق يفهم الحديث عن مهلة شهرين أو ثلاثة للمماطلة بالإنسحاب و تفهم جرجرة الخطى في تشكيل حكومة انتقالية نزيهة لقطع الطريق على إجراء إنتخابات نيابية شفافة بإشراف دولي و لتخطي المهل الدستورية فيمدد للمجلس الحالي و يدخل مجدداً من خلاله النفوذ السوري بعد خروج قواته و مخابراته من لبنان.

لكن هذه المناورات و المحاولات مكشوفة للمتبصرين و مرصودة من هيئات المجتمع الدولي وهي حتماً خائبة.

لم يرتق التحقيق اللبناني، حسب تقييم بيتر فيتزجيرالد و فريقه، إلى مستوى المعايير الدولية بل شابته عيوب كثيرة منها إفساح المجال لسحب هياكل السيارات المدمرة و دلائل مادية أخرى من موقع الإنفجار و ترك المياه تتسرب إليه إضافة إلى انعدام التنسيق بين فريق التحقيق الأمني و قضاء التحقيق زد على ذلك بداءة الوسائل التقنية المتبعة.

إن التقصير الفادح في إدارة التحقيق لبنانياً يتطلب محاسبة المسؤولين عنه، إستناداً إلى فريق الخبراء الدولي. و هو يوصي بتفكيك البنى الأمنية الحالية و إعادة بنائها و تأهيل طواقمها ( من رواسب التأهيل السوري) من خلال دورات عالمية راقية المستوى.

لن ينال الإرهاب الجوال من عزيمة أهلنا فقد هزموا قوى الشر بصلابتهم و قد صمدوا.
لن تنجح محاولات صد المد السيادي بتشتيت قواه و فرز تياراته لتتلاطم. فمنارة الحرية و الديمقراطية و الإستقلال و الولاء للوطن هي التي تهديه إلى شاطئ الأمان و موئل الإزدهار و كلما اقترب من الضوء زاد زخم اندفاعه.
بورك هذا الموج الدفاق الذي جعل العالم يرقص على إيقاعه.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١٦.٣.٠٥

أنظار مشدوهة لمهابتها

حميد عوّاد

نفض شعب لبنان الغبار عن سجل تاريخه و انتفض.

سطّر في صفحاته مأثرة قيامة مجيدة تألقت، فتلاشت من وهجها أطياف الذنوب.

توقّدت الصحوة الوطنية فانتعشت الآمال في النفوس القانطة و نشّطت العزائم والهمم، فهبّ اللبنانيون من كل "منابت الرجال" و النساء في مختلف أرجاء الوطن (والبعض أتوا من بلاد الإغتراب) و انطلقوا إلى ساحة الحرية و الشهادة.

من البرّ و البحر أقبلوا، و ساروا موكباً مهيباً و حاشداً ليشهدوا بالولاء للوطن و بالوفاء لنهج الشهيد رفيق الحريري، الرئيس السابق لحكومات عديدة، الذي كسر طوق حصار "الأخوّة" الخانق و فجأة "فُجّر".

لكن عصف تفجيرّه بدّد الخوف و فجّر الغضب و ألهب في وجدان اللبنانيين حبّ الوطن و لهفة الحرص على العزّة، و أجّج التوق السليقي إلى الحرية و السيادة و الإستقلال.

أثبت اللبنانيون الأبرار أن جذوة العنفوان و الإباء في أفئدتهم لا تخبو و لا نُطفأ، و أن الشغف الفطري بالإنفتاح على العالم و العَبّ من مناهل المعرفة و الإبداع لا يرتوي و لا يُصدّ، و أن التوثب الفكري لا يُلجم و لا يُقمع.

لقد ثاروا على جموح المستبدّين و جور مغتصبي السلطة و فجور منتهكي حرمات الإنسان و الوطن.
لقد ذكروا العالم أنهم رسل حضارة ديمقراطية عريقة و أن بيروتهم هي بحق أم الشرائع.

لقد أكدوا أنهم روّاد نهضة و قوّاد مسيرة تحرير و تطوير.

كما أنهم عقدوا العزم على تشكيل حكومة نزيهة، قويّة، كفيّة و وفيّة تتمّم مراسم خروج الجيش السوري و مخابراته من لبنان، و تُقصي رؤساء الأجهزة الأمنية بانتظار جلاء نتائج التحقيق الدولي، و تعدّ لإ نتخابات نيابية سليمة أمينة التمثيل تصادق على صحتها لجنة مراقبة دولية.

أدهش اللبنانيون العالم أجمع بانتفاضتهم الراقية و استقطبوا دعمه لتشبّثهم بانتشال وطنهم من براثن طغمة عسكرية سورية استباحت حقوقهم لشهواتها و استنفدت عافية الوطن.

لقد طوّب العالم الحر مشيئة اللبنانين قراراً عالمياً (1559) نافذاً يستحوذ على جهود حثيثة تبذل لإلزام القيادة السورية بسحب شامل و نهائي و فوري لجيشها و مخابراتها من لبنان.

و لم يتوان عن إفهامها أن لا جدوى من الرهان على استفتاء صنيعتها السلطة الموضعية في لبنان لإبقاء "مرقد" رادار أو مربض مدفع.

لكن ذلك لم يمنع النظام السوري من تعليل النفس بالبقاء في "نفوس"(و عيون) الذين نظموا مسيرة "وفاء" (و وداع) لجيشه.

ليكن معلوماً أنه ليس فقط عيون العالم مسلّطة على شبكة العنكبوت السوري بل مناظير أقمار التجسس أيضاً ترصد تحركاتهم فحذار التآمر و الكمائن والإغتيال.

ما زال سؤال لغزيحيّر الناس: إذا كان بإستطاعة عيون العنكبوت رصد حركة انتقال تنكات زيت الزيتون التي وزّعتها مؤسسة خيرية ممولة من شهيد لبنان فهل يخفى عليها طابور محترفين يجرّون نصف طن من المتفجرات ليزرعوها في مكان ما من طريق عام؟

إن فيديو "أبو عدس" التافه و "الآثار" المزعومة لحجاج أستراليين عابرين نمّت عن تهالك متعمّد فاضح لتضليل الأنظار و إشاحتها عن المشبوهين المرجّحين لارتكاب الجريمة.

لنتريّث بانتظار فرز الملابسات و جلاء الغموض، علّ الجواب الوافي يأتي في تقرير لجنة التحقيق الدولية.

٦.٣.٠٥

سقوط لا مفرّ منه

حميد عوّاد*


بخار حماوة الحماسة الدولية لتنفيذ أحكام قرار مجاس الأمن 1559 ألهب هواجس أركان النظام السوري و قضّ مضاجعهم. فهبّ منطلقاً من دمشق وزير الخارجية و بعده الرئيس السوري ليستجيرا بحكام مصر و السعودية، علّهم ينفّسون شيئاً من الإحتقان الذي يوشك على خنق أنفاس "أسد" الشام و يشارف على تقويض عرينهم.
لكن حصيلة الإستنفار و الأستنهاض ما برّدت غليل المسؤلين السوريين بل زادتهم غلياناً وقلقاً. فتأييداً لإنتفاضة الإستقلال الراقية و النبيلة و انسجاماً مع الإجماع الدولي (الذي أيّدته روسيا بلا تحفّظ هذه المرة) انضمّ العرب إلى موكب الحرية مطالبين، و في طليعتهم السعودية و مصر، حكام سوريا إلى إنسحاب فوري من لبنان.
رغم حصره في بؤرة أنظار هذا الطوق يحاول النظام السوري المراوغة والتملّص بإعلان انكفاء تكتيكي مرحلي إلى البقاع ("إلتزاماً" باتفاق الطائف) لإستيعاب الصدمة التي مُنِيَ بها آملاً بأن يحالفه الحظ في فرصة لاحقة فيتمدد و يبسط سلطانه من جديد على مدى بلاد الأرز.
فهل نستبعد ما يجول في خاطر الوزير الشرع عن هذا السياق حين يدّعي أنّ الإنسحاب يقتضي مهلة سنتين؟
و هل نتساءل عما يدور في ذهن الرئيس السوري بشار الأسد عندما يعلن أنه لا يمكنه تحديد المدة اللازمة لإكمال الإنسحاب لأنها من اختصاص العسكريين؟

هذا الإبهام المقصود يوحي كأن الجيش السوري بحاجة إلى مرشد يهديه إلى طريق العودة و اللمز في الحالتين يوحي وكأن هناك حاجة لبناء ثكنات جديدة في سورية لإستيعاب عسكرها المنتشر في لبنان ( حيث كان يبدو بقاؤه "ضرورياً" بلا أجل) فيما لا يمكن المسؤولين السوريين نكران حاجتهم الملحّة لنشره على طول الحدود مع العراق لضبطها.

و لإفحام "المتطفّلين" على الدور السوري ( العاصي على الضوابط) "شَهَرَ" الرئيس السوري حجّة لزوم إجماع اللبنانيين (الناقص حتى الآن) على ضرورة خروج جيشه من لبنان.
و كأن العالم يؤخذ بسحر الشعوذات السورية و لا يعرف أنّ العكس هو المبرر: شأن بخطورة إطباق نظام عسكري مستبدّ على بلد ديمقراطي كلبنان هو الذي يتطلب إجماعاً لبنانياً على قبوله و هذا أمر مستحيل و مرفوض من أبناء لبنان الأباة. كما أصبح مرفوضاً وملفوظاً ومداناً و مستهدفاً من المجتمع الدولي كل أنظمة التعسّف و التزمّت لأن خطورتها و أذاها يتجاوزا نطاق شعبها ليطالا العالم بأسره.
يعصى على العاقلين استساغة التناقض الفاضح في كلام الرئيس السوري حين يبدي حرصه على استقرار و وحدة اللبنانيين من ناحية ثم يعكف على تصنيفهم "أكثرية"من "الوطنيين" يتمسكون بهيمنة النظام السوري (آخر الأنظمة المتحدرة من سلالة "القبضة" و "الستار" "الحديديين" البوليسية المنقرضة)، و قلّة من"غير الوطنيين" يمدّون أياديهم إلى "الخارج".
و كأنه بذلك يشتكي من "تنغيص" العالم الحرّ "هناء" تلذذ عسكره بامتصاص رحيق لبنان و إذلال بنيه.
لا يكتفي الرئيس السوري بهذا القدر من الفرز "الطيّب القصد" بل يعمد إلى "تلقيم" و "شهر" "سلاح" حزب الله في وجه بقية اللبنانيين و حتى دول العالم المتمدن.
و هذا السلوك ليس مستغرباً ممن أتقن فنون شنّ الحروب بالواسطة.
لقد سئم اللبنانيون تكرار تهديدات أقانيم التسلط السوري عليهم باندلاع الفتن متى أعتقوهم من جورهم و هم يعرفون تفاصيل كثيرة عن "التبليغات" التي أسمعها هؤلاء لرئيس الوزراء السابق رفيق الحريري الذي اغتيل شهيداً فداء لسيادة و استقلال لبنان فدفنت معه أسرار خطيرة كانت ستطيح برؤوس كثيرة حين يبوح بها كما ألمح قبيل استشهاده.
الرئيس السوري "نبش" اتفاق الطائف من القبر الذي دفنه فيه ممثلو نظامه "المتصرفين" بشؤون لبنان ليجد آلية لتطبيق الشقّ "الممكن" من القرار 1559.
فضّل سيادته التغاضي عن الإنتفاضة الشعبية المتعددة الأضلاع، الصريحة المطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان و المتشبّثة بتشكيل حكومة كفية و قوية و منزّهة، تمسك بزمام السلطة بلا منازع، و تحتضن بنيها، و تجعل المطلب الشعبي مطلباً رسمياً حاسماً يسرّع الإنسحاب، و يعدّ لإنتخابات حرة تفتح الدرب للنهوض بالوطن من كبوته.
جيل النور و الحرية، جيل الإستقلال راسخ في تصميمه على إقالة رؤساء الأجهزة الأمنية الذين تقع على عاتقهم مسؤولية التقصير في إحباط عملية إغتيال الشهيد الرئيس الحريري. جيل اليقظة و العنفوان يضغط في سبيل تسهيل إجراء تحقيق دولي دقيق يكشف منفّذي و مدبّري عملية الإغتيال الأثيم فينالوا عقابهم أمام قضاء مطهّر من شوائب علقت به.
نحن إخوانهم في بلاد الإغتراب معهم قلباً و قالباً نتحرك على إيقاع نبضهم الوطني و العالم كله يدعمهم و يتابع تحركهم عن كثب.
لقد مُنح النظام السوري فرصاً عديدة لإعتاق لبنان من قبضته وللإقلاع عن معاكسة المساعي الدولية لنشر السلام و ترسيخ الإستقرار في المنطقة فلم يتّعِظ، لذا ليس مجدياً للبنانيين، الذين استبدّ بهم ردحاً من الزمن، التعاطي معه مباشرة و إنما عبر المجتمع الدولي الذي يعدّ التدابير الزاجرة لردعه و استعادة رشده.
فقد العالم الأمل بقدرة هذا النظام على إصلاح ذاته لذلك لا مفرّ من سقوطه.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٥.٣.٠٥

استشهادك انبعاث وخلود

منذ مدة وجيزة عصف في وجدان اللبنانيين و في ضمير مسؤولين عالميين انفجار استهدف اغتيال الركن السياسي الوطني مروان حمادة. لكنه نجا بأعجوبة (عزاها إلى شفاعة "Notre Dame de Bac" به التي التمس حمايتها بحمله أيقونتها. و بالمقابل تحضر إلى أذهاننا صورة ركن آخر "التمس" في زمن مضى"الأمان" بتوقيع السيد عبد الحليم خدام و اللواء غازي كنعان على صورته و صورة نجله، لكن شتّان ما بين خير الألوهة و شرّ التألّه.) فيما قتل مرافقه.
"الأشباح" الشريرة لم تتورع عن تهديد الأستاذ حماده حال عودته إلى البيت عبر اتصالات هاتفية "مشوقة" "أسرّت" إليه خلالها أنّها ستُحكم الضربة في كمائن لاحقة لحليفيه و صديقيه القطبين السياسين البارزين وليد جنبلاط و رئيس حكومات سابقة رفيق الحريري كي لا يفلتا من غدرها كما حصل له.

كمنَ "عشّاق" سفك الدماء و الغدر يوم "عيد العشّاق" الإثنين( 14 شباط 2005) متحيّنين مرور موكب الحريري و "وفوا" بالوعد فتخلصوا من "خصم" له رصيد و تقدير وطنياً و عالمياًً لأنه تخلّف عن الإلتحاق "بمدرسة"
"عين التينة" و تجرّأ على الإنضمام إلى موكب السيادة و الاستقلال.

اتهموه بأنه "عرّاب" القرار الدولي 1559 و بأن مروان حمادة هو الذي صاغه خلال استضافته في سردينيا.

اتهموه في سياق اتهام جنبلاط بطعن سوريا في الظهر.

نطقوا بصوت "المسكونين" (بجنّهم) و توعدوا عُصاة الذلّ و حماة الإستقلال قبل الوقيعة بما معناه "إنّ الغد لناظره قريب".

كالوا "بسخاء" تهم العمالة لإسرائيل ولأميركا و لفرنسا.

باغتيال شهيد لبنان المغفور له رفيق الحريري و من استشهد معه أرادوا الإنقضاض على عصب الممانعة و تثبيط عزائم الأحرار وتفكيك جسرهم البشري المكين التلاصق المتعدد الأطياف المترامي الأطراف. إنه جسر الخلاص الذي سيتنكّب الوطن و ينتشله من براثن وأنياب الوحوش ليعيد اليه منابع الحرية و العزة المغتصبة بعد معاناة اختناق و ليطبق سيادة القانون الأصيل بعد طول تشويه و ليقوّم سياق العدالة الشاملة بعد حرفها عن مسارها.

بإزهاق روح "رفيق" مسيرة النهضة الوطنية الشاملة توقعوا شحذ الغرائز و "تمثيل جريمة" اغتيال كمال جنبلاط، لكن انقلب السحر على الساحر فتوطّد تحالف السياديين و توثق تآخيهم.

بهدر دم أبي بهاء كشروا عن أنيابهم و أستلّوا سيف البطش ليشهد من تسوّل له نفسه التمرد كيف "تُقطف" رؤوس المتمردين. لكن حمم غضب محبي و مؤيدي الشهيد جمدت الدم في عروق السيّافين.

ذهول و ارتباك ألمّا بقطّاع الرؤوس أمام مهابة موكب الإستقلال الوطني الحاشد فهو يجمع بين صورة قوافل الشهداء التي افتدتنا للتخلص من النير العثماني و صورة رعيل المفكرين المناضلين و أرتال الأحرار الذين طافوا الشوارع منادين بالإستقلال و برفع الإنتداب الفرنسي قبيل 22 تشرين الثاني سنة 1943.

حقق رفيق الحريري إنجازات عظيمة و نجاحاً باهراً في حياته فاستحق التقدير و ربح قلوب الناس. أما في استشهاده فحقق أروع و أثمن الإنجازات و هي إنبعاث الوحدة الوطنية في سبيل خلاص الوطن. أليس بإنجاز جليل كهذا يدخل العظماء التاريخ و يُخلّدوا؟

رداً على سؤال طرح سابقاً: من سينفذ القرار الدولي 1559 هبّ اليوم شعب لبنان متضامناً قائلاً: الأمر لي لبّيك لبنان!

٢.٢.٠٥

اطلالة على المنعطف التاريخي

قرار مجلس الأمن 1559 هو ضمان دولي لاستعادة سيادة لبنان و استقلاله و حرية قراره و هوجازم في مضامينه و ملزم في تنفيذه لا مقايضة عليه ولا هوادة في متابعته.

من يعلن أن "سلطانه" مستهدف بجدّية هذا الحكم البديهي يقرّ بِحدّة جارحة بإلحاده و جحوده و شهوته لاغتصاب مقومات الوطن و هذا مرفوض من الابرار الغيارى على الكيان.

و لأن هؤلاء حرصاء على أرض الوطن و ضنينون بدماء أبنائه يطالبون الشقيقة بترسيم الحدود سبيلاً الى استعادة ما كان مغفلاً في "حيازتها" قبل احتلال الجولان.

أما أصحاب "الحمية الدائمة الإستعار" فيمكنهم "عرض خدماتهم" و تنفيس احتقاناتهم لدى من يروّج لها لأنه الأكثر حاجة إليها.

إن "ممرّ" الجولان هو أقصر الطرق إلى سوريا و لا حاجة إلى "إختراق الخاصرة الرخوة" للعبور إليها.

نضطر إلى التذكير بهذه الحقائق لنؤكد أن اللبنانيين الذين تعتعهم السكر من خمر المبارزات التى جُرّعوها قد اكتفوا و أفاقوا من ثمالتهم فليحتفظ الساقي بجراره لنفسه و ليشرب "الكأس" من "خمره" إن أغواه مذاقها.

لقد نبّههم صوت رئيس "المؤسسات" السورية أن مؤسساتهم "اختفت"- و هذه إشادة بدولة المؤسسات- من الوجود دون الإشارة إلى "سحر" مبعوثه العسكري الذي أختزل هذه المؤسسات بقوة جيشه و مخابراته فأحالها سراباً.

أجل أفاق لبنانيون ضللتهم الشعوذات و أرعبتهم التهديدات و اجتذبتهم الإغراءات فنهضوا استجابة لنداء الضمير و انضموا لإخوان لهم, أبناء التيار السيادي, الذين بقوا متيقظين و تصدوا بعنفوان لمن حاول تصفية الوطن تحت شعار "الصهر" و أحبطوا عملية الهضم هذه بالتنسيق مع جناحهم المرفرف في بلاد الإنتشار بتوجيه من خادم الشعب و القضية القائد ميشال عون.

لقد أثبتوا بقوة أرصدتهم المعنوية أن لبنان الديمقراطي الحرالذي أنجب هكذا رجالاً هو جدير بالإنقاذ و أنه أكبر من أن يبلع.

نذر العماد عون منذ دخوله "المدرسة العسكرية" نفسه لخدمة وطنه بتفانٍ و إخلاص و شجاعة ونبل ومناقب سامية و تواضع. وفى بقسمه كقائد للجيش و كرئيس حكومة فطبّق القوانين بعدل و إنصاف و جعل قصر بعبدا ملاذاً أميناً للشعب و حاول لملمة الشمل في كنف الشرعية فكان "الجزاء" إنقلاباً عنيفاً على الشرعية و على الدستور.

صبر الجنرال على الضيم بزهد و تقشف و إباء و انكبّ بعزيمة صلبة على السعي الدؤوب لرفع الهيمنة و الإرتهان عن لبنان, فأستقطب هذا التشبث الصادق إجماعاً دولياً على إنقاذ لبنان ودعم سيادته و استقلاله و ترميم ديمقراطيته.

عند هذا المنعطف التاريخي المرصود من العالم المترقب تطبيق قرار مجلس الأمن 1559 دعا العماد عون مختلف الفرقاء المعنيين إلى مؤتمر للتحضير لمرحلة الإنسحاب السوري من لبنان و الإعداد لما يليه.

لقد أضفى هذا الأسلوب الهادئ و الرزين مهابة على القرار الدولي و جعل غرماء الأمس يخطبون ودّ العماد فأشادوا بخصاله و رحبوا بعودته و أقروا بالإجحاف الذي أٌلحق به ظلماً, كما تواترت اصوات المنادين بإطلاق قائد "القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع الذي أودى به التعسف السياسي إلى السجن و غدا كناسك معتصم في صومعته.

في ظلّ هذا المناخ الواعد تتوثق عرى التحالف بين أطياف المناصرين لمحو الهيمنة السورية عن لبنان و التوّاقين إلى إنعاش الديمقراطية فيه و إحياء السيادة و الإستقلال. و تتنشط اللقاءات تحسباً للإنتخابات المقبلة التى ستوضع على المحكّ الدولي و المحلي لأنها ستشكل المعبر إلى الحكم الصالح و الأمل بالتغيير المنشود.


التحضيرات الرسمية للإنتخابات فيها الكثير من "القطب المخفية" : تسخير خدمات الدولة للمكافأة أو المعاقبة, جداول الشطب التي ينبعث فيها الإموات و يندثر فيها الأحياء, البطاقةالإنتخابية: "إمتياز" حصري لناخبي "السلطة"، الناخبون "الجوالون" الذين يقترعون غبّ الطلب، الإختيار "المدروس بدقة" لرؤساء الأقلام و "كشف" الإقتراع "السري" بلا "عوازل"، تشكيل اللوائح "المنسوجة على نول البركة الأخوية"، "حياد السلطة"، خاصة وأن 20 وزيرا من الحكومة المشرفة يخوضون الإنتخابات و هلمّ جرّاً.

المداخلات السياسية و المخابراتية التي نخرت كل المؤسسات ما وفرت الإعلام و لا الجامعات و لا القضاء و التعيينات الإخيرة في المجلس "الوطني" للإعلام و في المجلس الدستوري هي مثال صارخ يؤكد النية على التحكم بمفاصل العملية الإنتخابية.

تفصيل الدوائر الإنتخابية على مقاس القضاء طبقاً لقانون سنة 1960الإنتخابي, الذي أقرته الحكومة بانتظار موافقة المجلس النيابي يعتبر ملائماً في شقه الداخلي لكن المرسومين التنظيميين للعملية الإنتخابية وسياق و تمويل الإعلام و الإعلان و آلية الطعن 14086 (المواد 63 ،64 ،68و72،73) و 14087 (المادة 1 فقرة ب و المادة 3 و المادة 11) يفخّخان النتائج برمّتها، إذ يوّفران ثغرات و تدابير إستنسابية كافية لإبطال نيابة أخصام "السلطة".

أيّ قانون إنتخابي، مهما حسن، يظلّ ناقصاً إن لم يشمل حقّ الإقتراع لثلث لبنان المغرّب المنخرط في شؤون و شجون الوطن كالمقيمين فيه.

هل نحتاج إلى إيراد الأمثلة فنذكر أن العراق رغم المصاعب أسنح الفرصة إلى مغتربيه بالإقتراع في انتخابات اليوم و قد تعودنا أن نكون القدوة و المثال؟

فيما نتوق إلى ممارسة هذا الحق لنحيي لبنان، نحضّ المتلاقين بعزة و شهامة على هدف خلاص الوطن أن يخسئوا المفتنين بمنعة تحالفهم الوطيد، ويحشدوا الطاقات لاختراق أسوار "السجن الكبير" لينفذوا منها إلى سدد المسؤوليات، فينكبّوا على ترميم مؤسسات الوطن و يشيّدوا ما رسمته طموحات اللبنانيين المترقبين بشغف بزوغ فجر الحرية!