٢٨.٧.١٠

وأد الفتنة لا المحكمة

حميد عواد*
منّى اللبنانيّون و أركان سلطات الدولة النفس بموسم إصطياف عامر تحييه مواكب المغتربين المتوقّدي الشوق للعودة إلى "مهبط الوحي" و "مرقد الروح " و "مهجع الوجدان" و "منتزه النظر" و "حضن الحبّ و الحدب و الحنان" يسابقهم إليه حشد من السّيّاح المدمنين على طيب المأكل و المشرب و لذّة الترفيه و روعة الطبيعة و صخب فرح الحياة.

لكن هذا الإندفاع كبا، إذ كبحته روادع أمنيّة مقلقة تنذر بالأدهى بدأت بإنكشاف جديد لثغرات أمن المطار لتتوّجها تهديدات محترفي الحروب التي خرقت "جدار الصوت" و صفحات الإعلام و صعقت أعصاب اللبنانيين الآمنين مشحونة بالتشنّج الذي أزّم المواقف و وتّر الأجواء.

يتساءل من ينشد السلام للبنان - و هم يعرفون الجواب ضمناً- لماذا يشرئبّ مثيرو القلاقل و مروّجو الفتن عند كلّ إنطلاقة نهوض و تعافٍ و عند كلّ إستحقاق "حسّاس" يتعلّق بالوضعين الداخلي و الإقليمي ليعلنوا أنّ لبنان رهينة بطشهم و ترهيبهم شاهرين (إلى جانب سلاحهم) لائحة مطالب متصاعدة يبتزّون من خلالها إستجابةً محليّة و دوليّة و إذعاناً جديداً لبسط هيمنتهم بالأصالة أو الوكالة؟

لماذا البديل عن وقف حرب القذائف الهابطة و الصاعدة هو دائماً حرب الإنذارات الواضحة و المرمّزة، المنطلقة و الوافدة؟

و الغريب عندما يتلاقى إنذاران متقابلان على مضمون واحد يتأرجح تعليله بين "فتنة" أو "نصيحة" حسب موقع قائله!

و الفتنة تُحبط عندما تُفضح مقاصدها و تُبرز مخاطرها و تُفهم عواقبها، فتُضبط الغرائز و يُحكّم المنطق. أمّا المستهجن أن ينزلق "مكتشفها" إلى مهاويها و "يفعّلها" من "جانب واحد" (مستخدماً تفوّق قدراته!) متجاهلاً رفض "الجانب الآخر" لهذه "الدعوة" .

لقد برزت إرادة التعكير منذ إعتراض "قوّات اليونفيل" في الجنوب و تعاظمت مع الهجوم المركّز على المحكمة الدولية الخاصة بلبنان و إثارة ملاحقة "شهود زور" ( تذكّر ببعض "المتطوّعين" الذين خُيّبت عروضهم كهسام هسام الذي "بكّر بمعاينة" مسارح التفجير و تاق إلى الظهور في الإعلام قبل أن يؤوب إلى قنّه كالحمامة الزاجلة) و إعتبار تسجيل المكالمات الهاتفية باطلاً لربطه بقضية التجسس على الإتصالات من قبل المعنيين بتسريبات إعلامية مضخّمة تخمّن مضمون القرار الإتهامي للظنينين بإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري و الجرائم الأخرى المرتبطة به الذي سيصدره المدعي العام دانيال بلمار.

لقد بلغت جسارة التأويلات الصحفية حدّ محاكاة محاكمة علنية تحيد بالتهمة عن جهة لتلصقها
بجهة أخرى ربّما إنطلاقاً من مؤشّرات بعض الإستدعاءات.

إن تداول إستقراءات القرار الظنّي علناً مرفقاً بإدّعاء التسرّب إلى مكمن السرّ المكتوم في فكر
بلمار هو "طبق" لطعن لاحق و تعليل لإدّعاء عيب في محصلة التمحيص في هذه القضيّة إن صحّت التوقّعات.

طرح القرار الظنّي في بورصة التجاذب السياسي المحلّي و الإقليمي هو إستغلال عقيم فاشل "يسهم" فيه "المضاربون" لإفتعال "إغراق" المحكمة التي ستخسئ رهاناتهم بجلاء الحقيقة الكاملة المدعومة بالأدلة الدامغة و البراهين القاطعة و التعليل القانوني المبرم بمهارة.

الشهداء هم أهمّ الشهود في محاكمة المتورّطين في إغتيالاتهم، شهاداتهم أدلوا بها لمّا كانوا أحياء أمام الناس و أسرّوا بخفاياها لأخصّائهم.

أهل الشهداء لا تأكلهم شهوة الثأر و كي يسامحوا يجب أن يعرفوا دوافع المجرمين و هوية من يصفحون عنهم. لذا يمكن وأد الفتنة دون وأد المحكمة.

إنّ القضم المقسّط و المتدرّج لسلطات و مؤسسات الوطن من جانب فريق تفرّد بتنظيم كيانيّة خاصّة تطمح إلى تهميش الآخرين و الإستئثار بحيّز أوسع من السلطة و القرار، يتلبّس أشكالاً منوّعة و يلج منافذ متعدّدة و يحاول رجاله جرف كل من لا يرفد نهجهم.

دول إقليمية تسعى إلى تحقيق مكاسب و بسط نفوذ لها و حماية و تعزيز "أمنها" على حساب أمن و حرية و سيادة و إستقرار الجمهور الإستقلالي في لبنان.

هذا الجمهور العريض المستهدف من الداخل و المحيط الإقليمي بحاجة إلى تضافر جهود أبنائه و دعم الدول الصديقة لدعم صموده و صدّه للضغوط الداخلية و الخارجيّة.

يجب إحباط مساعي التوتير و إجهاض التدابير الميدانية التي يستشفّ منها شقّ الطريق لعودة الجيش "الشقيق" "للجم شبق حلفائه" (و في طليعتهم من نأى عن هذا التصنيف تمويهاً) فيما تراود قيادته رغبة جامحة لإستدراج العروض من زوّار نافذين آتين إليها.
*
مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٧.٧.١٠

كثرة الإلتهام و "الإنتفاخ" تبْقُرُ البطون

حميد عواد*

ليكون المواطن جديراً بممارسة حقوقه و قديراً على النهوض بمقتضيات مسؤولياته يجب إعداده بحدب و عناية من خلال تربية مدنية راقية تجعله فخوراً بتراث وطنه و مؤمناً بعدالة و شمول خيور نظامه و متفانياً في خدمة مجتمعه و توّاقاً لرفع شأنه و وفيّاً في ولائه، فيتآلف المواطنون بقوة جذب هذه الوشائج المشتركة. لكن متى برز خلل و خلاف جوهري في الشؤون الوطنية و عجز المنطق و الحكمة عن ضبط الأمور و معالجتها حدث نفور و ثبور.
لبنان وقع في المحظور تكراراً فلاكته الصراعات التي أنهتكه و غلّبت الأهواء الهجينة على حساب الولاء الوطني ففكّكت العرى بين شرائحه و شرخت فريقاً تفرّد في شدّ عصب أفراده و لم ينسجم أو يندمج في جهود ترميم روابط المواطنية التي بدأت منذ إتّفاق الطائف و إكتسبت زخماً إضافيّاً و صهراً خلال مآسي الإغتيالات.
و حيال مخطّط ترجيح الثقل بالإفراط في الإنجاب، رغم الإكتظاظ و ضيق الحال و خطر الإختناق و الجوع و المرض، و التمدّد البشري "الناشط في النموّ" على مدى جغرافية الوطن الجارف لمواطنين أنهكتهم الضغوط، و التمسّك بالسلاح تحت راية ثالوث رُكّب لإضفاء شرعيّة عائبة، لم يعد للشراكة الوطنية مجال أو معنى و لم تعد آليّة العمل الديمقراطي مجدية لأنّها أُجهضت في دساكر مكتظّة بالبشر المختلفة بالشكل و المتماثلة بالبرمجة التي طُبعت في الأذهان.
الجهود الحثيثة للملهوفين على الهيمنة الشاملة و على إلصاق أهل الوطن "بشباك عناكبهم" تتوالى تارة بوضوح بالضغط السياسي و العسكري و تارة مستترة بنوايا مبطّنة لإلغاء طوائف في معرض "إلغاء الطائفية" و "ضخّ الدمّ الفتيّ" "الخصيب" في جمهور المقترعين.
و قد أثار تواصلها قلقاً بالغاً لدى الفئات المستهدفة و إعتراضاً حازماً على تفاقمها و رفضاً قاطعاً لنتائجها و عزماً وثّاباً لفضح و إفشال مخطّطها الخبيث.
و كي تتكسّر النصال على النصال "صوّب" "روبن هود العروبة و فلسطين"، التائب على رمياته السابقة، سهامه على هدف يثير مخاوف التوطين المرفوض مبدئيّاً و دستوريّاً، بإسم قوننة حقوق "مدنية" للفلسطينيين المقيمين في لبنان من تملّك و عمل و ضمان صحّي وتعويض نهاية الخدمة.
و القصد من هذا السهم إصابة مزدوجة: أوّلاً، جعله إسفيناً يُدقّ لفصل فريقي الصفّ الذي تركه و ثانياً تسجيل نقاط "حسن سلوك" لحشر و عزل و تأليب الفلسطينيين على الفريق العصيّ على الخضوع لرعاته الجدد.
و الغريب أنّ "روبن الطوباوي والطاهر" المدّعي النسيان و المسامحة بخصوص واقعة أليمة منطبعة في ذاكرته، لا يكفّ عن إجهادها بالغوص في أحداث ماضية للتغنّي "بأمجاد و مآثر" بائدة و إنتقاء فواجع منفّرة تجاوزها الزمن يثيرها ليفتري و يغمز من قناة القوم المحبب إستهدافهم حتّى في سياق تعزية.
و فيما يحضّ أهل الشهداء على التخلّي عن بحثهم عن الجناة عبر محاكم القضاء "يبشّرهم" أنّ الإغتيال قد يُستأنف!
إنّ إغفال معاناة اللبنانيين و القفز على الحبال ( أو الحفافي) و التهالك على إستدرار عواطف الفلسطينيين لجعلها دعامات للمواقع المتداعية هو إستخفاف بعقول الناس.
المعروف أنّ مهمة "غوث الفلسطينيين" منوطة بوكالة الأونروا و بمساعدات الدول العربية الغنية، أما تحميل لبنان فوق طاقته العاجزة عن إطعام بنيه راهناً فهو مبالغة مستحيلة و قصم لظهور اللبنانيين.
العمل المثمر يتجسّد بمساعدة لبنان لتأمين الخدمات الأساسية لأهله و للمقيمين في ربوعه و بمساعدة الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم و كخطوة أولى إنضمامهم إلى أشقّائهم القاطنين في الضفّة و القطاع و إلاّ تأمين إستضافة لائقة لهم في بلد(ان) فسيح(ة) الأرجاء قليل(ة) السكّان وافر(ة) الثروة خارج لبنان.
في إنتظار الفرج يساهم لبنان، قدر إمكاناته المتواضعة، في تسهيل معيشة الفلسطينيين.
ليت الساعين إلى إبتلاع لبنان يستخلصون العبرة من خبر مصوّر عميق المغزى يبيّن أفعى إنفجر بطنها إثر إبتلاعها تمساحاً فتيّاً في محمية في فلوريدا.
لكنّ النهم لا يبشّر بالإنحسار، و التململ بلغ ذروته في صفوف الموضوعين على مائدة الإلتهام فبرزت إنتفاضة "حكماء التيّار" و لو متأخرة و إنسحب اللواء نديم لطيف بمرارة. و هو الأب الروحي العطوف والقائد الميداني الصّلب للتيّار الوطني الحرّ أيّام النضال السلمي في مواجهة الهيمنة الجائرة. عفّته و مناقبيته دمغتا شخصيّته و سلوكه فسما بالواجب و الكفاح الوطني إلى مرتبة الرسولية الطاهرة. خروجه من التيّار هو خسارة رصيد نفيس و دلالة على جنوح خطير عصي على العلاج.
تشويش أذهان الضحايا و تلقفهم مشتّتين في دوّار التفرقة هو التحضير لإصطيادهم بسهولة. كذلك إنشاء منظّمة أو حزب ل"تأطير" الأتباع و خطف قرارهم لتجييره أو تأجيره أو بيعه هو عمل رائج يستفيد منه القوي للسيطرة على الضعيف. و في السياق عينه يجري نصب الكمائن لعزل الخصوم و إستفرادهم و الإيقاع بهم.
إنّ تقطيع أوصال الغرماء لا يقتصر على العلاقات الداخلية بل يشمل علاقات اللبنانيين مع الدول الداعمة لنظامهم الديمقراطي و حريّتهم و سيادتهم و إستقلال وطنهم. علاقاتهم مع قوات الطوارئ الدولية كانت مستهدفة في الجنوب.
لقد إنتُدبت هذه القوات للمهام المنوطة بها حسب قرار مجلس الأمن 1701 و فُوّضت إتّخاذ التدابير الضرورية في مناطق إنتشارها (المادة 12) لمنع أي نشاط عدائي (وُجّهت إليها تهديدات بإستهدافها "مجهولة" المصدر) و لمقاومة أي محاولة قسرية لمنعها من تأدية المهام المكلّفة بها (قطع الطرق عليها و رشقها بالحجارة).
إذن لمصلحة مَن التعرّض المباشر لهذه القوات و إفساد علاقاتها الطيّبة و النافعة مع سكّان الجنوب و خرق بنود القرار المذكور الذي أوقف الحرب و أمّن الهدوء و ضبط التحرّشات و ردود الفعل؟
هل الهياج ألهبه إصابة "عصب حسّاس" دفع إلى التشكيك (زكّاه الإعلام الرسمي السوري!) في نقل هذه القوات حصيلة معلوماتها إلى الجانب الإسرائيلي، "فتشاكل الأمر" (كما ألمح أحدهم) و إشتعل في وجدان المعترضين مزيج من واقعتي "سفينة مرمرة" و إستشهاد الضابط الطيّار سامر حنّا علماً أنّ قوّات اليونفيل كما الشهيد لم تطلق النار؟
هل يُعقل أن يُقرن هذا التعكير بالتنديد بالسياسة الخارجية لفرنسا ( المحفّزة الإتحاد الأوروبي على زيادة العقوبات على إيران لتكتّمها عن أوجه تخصيبها النووي) و بقدر أقل إسبانيا و إيطاليا؟
لقد نشأ عن الحوادث المتراوحة بين "العفوي" و "المنظّم" حرج و إرباك لأركان الدولة اللبنانية و إساءة إلى علاقات لبنان مع دول صديقة و إعلان صريح من مسؤولي الأمم المتحدة أن تكرار التجاوزات و مخالفة أحكام القرار 1701 و نصب الأفخاخ لقوات اليونفيل سيفسح المجال لإستئناف العمليات الحربية في إشارة صريحة و تلويح إلى سحب قوات السلام الأممية (الأنظار تترقّب تقرير الأمين العام بان كي مون المزمع إصداره في 14 تمّوز بهذا الشأن).

في ظلّ التوجّس من حصيلة التمحيص في وثائق المحكمة الدولية و إفادات الشهود و ربط الأحداث في حبكة قرار إتهامي محكم لم يوفّر المذعورون ذريعة للطعن بمصداقيتها إلاّ و ساقوها. موضوع التجسّس على الإتصالات هو اللقيّة الجديدة.
إنّ نشاطات التجسس المقنّعة بوظائف متنوّعة و المنتحلة صفات تمثيليّة بريئة قائمة بين الدول ليست المتعادية فحسب ( إسرائيل و دول عربية إضافة إلى إيران) و إنّما بين المتوافقة أو المتجافية (إنكشاف جواسيس روس في إنكلترا و أميركا، و إيرانيين في دول عربيّة) و المتنافرة ( إيران و الغرب) و حتّى الصديقة و المتحالفة ( تجسّس إسرائيلي في أميركا-جوناثان بولارد).
التجسّس ليس إستطلاعاً فقط فهو غالباً سرقة أسرار ثمينة أو ذنوب مكتومة تفيد الجهة السارقة بقدر ما تكشف و تؤذي الطرف المسلوبة أسراره.
و التجسّس في لبنان لا يقتصر على الإختراق الإسرائيلي بل يتعدّاه ليستبيح خصوصيّات المواطنين بحجّة شرعيّة "الإستعلام" و "التنسيق" تحوّطاً "لحماية" جهة ما تسعى للسيطرة على هذا الوطن و ترسل تقاريرها إلى راعييها الإقليميين لأنهما مرجعيتها العليا التي "تسترشد" بتعليماتها.
لقد وجد أنصار "المحاكم الميدانية"، و مروّجو إشاعات تسييس المحكمة الدولية الخاصة بلبنان و شتّامو و مهدّدو قضاتها، في كشف نشاط تجسّسي، يجري التحقّق منه قام به موظف في شركة إتّصالات تشّغل شبكة الهاتف في لبنان، جرعة منشّطة للقفز إلى تشكيك إستباقي في صحّة إدلّة المحكمة الحائزة على مئات المكالمات الهاتفية التي سبقت و تلت عمليّة إغتيال رئيس الوزراء الأسبق الشهيد رفيق الحريري.
طالما هناك سريّةً مضبوطةً بإحكام تُغلّف عمل المدّعي العام دانيال بلمار و مساعديه و التسريبات الإعلامية هي فقاعات، لماذا يصرّ المتطيّرون على الرفض المسبق للقرار الإتهامي المرجّح صدوره في أيلول المقبل؟
لبنان يحتاج إلى مواكبة ومساندة أصدقائه لتدعيم نهوضه و ترسيخ سلطات دولته و إيقاف نزفه البشري كما أنه بحاجة ماسّة إلى تآزر أبنائه الأباة و تضافر جهودهم لتحصين مواقعهم و حماية حقوقهم و إنعاش حيويّتهم و تزخيم إزدهارهم.
لِيهتدِ كلّ مواطن بمحبة القلب و نصائح العقل و همس الضمير و وصايا الشهداء و حكم الأجداد.
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية