٢٧.١١.١٠

الإيمان بالوطن ضمانة لخلوده

حميد عواد*

يشتهي اللبنانيّون توفّر الإمكانات للدولة كي تمسك بزمام الأمور وتبسط نفوذها وإدارتها في كل مرافق الحياة الوطنية دون أن يعيقها متطفّل أو منافس ذو مصلحة خاصة، فيشعروا بالإطمئنان والإستقرار و ينعموا بحياة هانئة.
لقد توّجت "ثورة الأرز" مسيرة طويلة وشاقّة زاخرة بالتضحيات النفيسة لأحرار لبنان لحماية ديمقراطية النظام والهوية المدموغة بالتراث الغني والمزيّنة بوسام و مهام الرسالة المميزة التي إنتدب حاملوها لها.
الولاء للوطن و التفاني في خدمة أهله و مؤسساته هو أسمى تجلّيات المواطنيّة.
الوفاء له لا يحتمل إعتناق ولاء مناقض لقيمه ودستوره و قوانينه ورسالته.
فالولاء لعقائد تناقض أسس كيان الوطن هو قنبلة موقوتة تنفجر في أحشائه متى فرض فقه العقيدة ذلك.
لقد تمسّخ الولاء المذهبي عند بعض الجماعات بشكل خطير جعله حشوة متفجّرة تنكّرت بشعار مواجهة الإحتلال لتلهب صراع نفوذ حاد في الشرق الأوسط وأبعد منه و تطلق المجازر الإرهابيّة.
لا يتورّع منحرف الولاء عن إحراق وطن ليقدّمه أضحية لوليّه واضعاً جمره في مبخرة التبجيل وماحياً آثار آثامه كأولائك المتفحّمي القلب والضمير الذين يحرقون غابات أشجار لبنان النادرة والمعمّرة لهوس تخريبي وإستيلائي أو لمجرّد صنع فحم يجنون منه مالاً حراماً.
تحلّ ذكرى إستقلال لبنان في ظروف ملبّدة بالضغوط ومشحونة بالتهديدات لإنكار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ونفض اليد من القرار الإتهامي الوشيك الصدور لأن الفريق اللبناني اللصيق بالنظام الإيراني والحليف للسوري أستشعر منذ زمن أنّ الإتهام سيطاله.
لذا يمارس، مدعوماً من عرّابيه المتوجّسين، شتّى أنواع الضغوط ويثير قضيّة "شهود زور" وخرق إسرائيلي لقطاع الإتصالات لجعلهما منفذاً للطعن في صدقيّة الإدعاء ولمدّهما جسراً لإعاقة عمل المحكمة.
وبما أنّ هذه المماحكات لا تؤثر على عملها المستقلّ يجري نقاش سعودي-سوري ومواكبة إيرانية وقطريّة وتركيّة لإجتراح صيغة عجائبيّة تكبح بسحرها جماح المهووسين بنزعة الهيمنة والمنتشين ب"تفويض مارس(إله الحرب)" والمفتونين برهبة القوّة و "طرب" قرقعة السلاح علّهم يهدأون ويستقرّ الوضع في لبنان.
الولايات المتحدة الأميركيّة أعلنت بحزم دعم الدولة ومؤسساتها والنظام والأطر الشرعية وأوروبا كذلك وفرنسا عرضت "سان كلو 2" للتأكيد على جدّية الإهتمام بالإستقرار في لبنان وللتحذير من خطورة عواقب السلوك الإنقلابي والإضطراب الفوضوي.
لقد ترسّخت القناعة الدولية -وقساوة الوقائع تشهد- أنّ اللبنانيين حُمّلوا فوق طاقة القدرة البشرية أوزار صراعات المنطقة و جُعلوا أكباش محارق الآخرين.
فقد تناوب تكراراً الحاقدون المجرمون على جعل حياة اللبنانيين جحيماً بإثارة الفتن وإفتعال الصدامات وشنّ الإعتداءات ونسف المساعي الحميدة وزهق الأرواح ونزع عوامل الصمود الماديّة والمعنويّة وإغتيال الأمل وفرص الفرج والفرح والرجاء بالخلاص، تسريباً لليأس إلى النفوس.
وحوّلوا مناسبات الحبور والإعتزاز إلى ذكريات مأساويّة منها الإغتيالان المفجعان اللذان غيّبا الشهيدين الرئيس رينيه معوّض والنائب والوزير بيار الجميّل فإنطبعا في الضمائر الوضّاءة مع ذكرى عيد الإستقلال.
الإستقلال منغرز في عقول ووجدان وتوق وسلوك أبناء الوطن النبلاء الأباة المبدعين الوثّابين إلى الخدمة والعزّة والعُلا.
وهو مكرّس في الدستور و القوانين والمؤسسات وفي أدوار مارسها حكماؤه وفطناؤه داخل الوطن وفي المحافل الدولية.
لكنّ إستهدافه وإختراقه بالمكائد المعقّدة والمتتالية المصمّمة من أنظمة دول وتنظيمات عسكريّة مرتبطة بها عرّض الإستقلال لهزّات عنيفة تجاوزها حرّاسه حافظين الوديعةَ لكن مثخنين بالجراح مضرّجين بالدماء مثكلين بالشهداء.
إستقلال لبنان بذلت في سبيله الأرواح الغالية والثروات الوافرة.
الثروات تُحتسب لكنّ المُهَجَ العزيزة لا تُعوّض و رصيد الجهود الغزيرة المصبوبة لدفعه قدماً لا يُقدّر بثمن.
الذات اللبنانية الأصيلة هي لُبُّ الوطن الدائم الخفقان يضخّ في عروقه ترياق العافية وإكسير الحياة ورحيق المحبّة وعصارة الوفاء ومصل الصلابة والمناعة.
إنّها باعث النهوض وشعلة الحريّة وثورة العنفوان وشبكة الأمان.
أمّا الذات الهجينة التي كرّست ولاءها وإيمانها وعملها ونشاطها لخدمة عقائد شمولية تناقض أسس الوطن إنحرفت عن السراط القويم و إنخلعت عن جذعها و صوابها وتألّبت على أبناء وطنها وسلخت دويلتها لتتقوقع فيها.
لبنان جنّة جحد بروائعها القبليّون من أبنائه وسرّبوا إلى مجتمعه وأرضه جفاف الفكر وعصبيّة القبليّة وقحل الصحراء فيما حافظ على يناعه وخصبه وإبداعه أبناؤه الميامين.
إن أصرّ القبليّون على نمط عيشهم ورفضوا الإنخراط في كنف الدولة فهذا تكريس لإنفصالهم.
أمّا أن ينكبّوا على تجفيف واحة الشرعية وتعقيم مؤسساتها ونحر أهلها أو إكراههم على الإنتحار فهذا كابوس مستحيل ينقلب فيه السحر على الساحر.
لبنان المعاصر المشرق على الكون يحلّق بجناحيه (المقيم والمغترب) ويتوثّب نحو مستقبلٍ زاهر متجذّر في تاريخ مجيد وممهورٍ تراثاً غنيّاً محميّاً من صفوة وأحرص أبنائه فلا خوف على تلاشيه في سراب و قحط الصحراء.
نَسْغ الأرز في عروقنا يتمدّد خلدك لبنان في إيماننا يتجدّد

*مهندس وأكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية