٢٧.٢.١١

أطيافهم ذخيرة خلاص محتضنة في وجداننا

حميد عوّاد*

تسكن في البال هموم الوطن ويعيش في وجداننا أطياف شهدائه الأبرار نضمّها بحنان فتذخّر بإستمرار نزعتنا للدفاع عن حريّتنا وسيادتنا وإستقلالنا وعزّتنا.
الوطن ترخص في سبيل حمايته الأرواح دون هدر، لأن النموّ والتطوّر يتغذّيان من منجزات حيوات عزيزة وخصيبة، فبهداية الحكمة والفطنة وحسن التدبير تُفتح دروبٌ لا تقوى جهود عشوائيّة كثيفة على شقّها.
الموت ليس معبراً إلزامياً إلى الحياة إلاّ في حالات إستثنائيّة فلا يسترخصنّ أحد الحياة ويجعلنّ الموت نمط وجود فيستعبد الناس لتثبيت سلطانه.
تماشياً مع التأريخ الزمني نجتمع اليوم لنحيي ذكرى إستثنائيّة حيث الموت شكّل حالة عبور إلى حياة وطنية حرّة.
يوم إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ما ضاهى عصف الإنفجار الآثم إلاّ غضب اللبنانيين الذين إنطلقوا في مسيرة "ثورة الأرز" لرفع نير الظلم عن كاهلهم وقذف جحافله خارج الحدود.
لقد أحبّوه وقدّروه لريع خدماته البارّة تجاه وطنه وشعبه فيما ترصّده وكمن له و لمشروع إنهاض الوطن الحاقدون المستبدّون.
غمر بعطفه وعنايته وسخائه الناس فإستحقّ محبّتهم وثقتهم وكسب حظوة عند ربّه. بذل جهوداً خارقة وحقّق نجاحاً باهراً فشمخ بإنجازاته وتواضع بعلاقاته.
إعتاد على لذّة زرع البذار الطيّبة فكان الإنتاج خصيباً وحصاد غلّال الخير وفيراً. محبّته لوطنه وسعيه الدؤوب لإحلال السلام فيه ولإشباع طموح طلاّب العلم من أبنائه تلاقحت بمتعة إنجاز المشاريع العمرانية فإختلجت في وجدان رفيق الحريري نشوة تحقيق حلم إعادة بناء لبنان بشراً وحجراً ومؤسسات.
كرّس الرئيس الشهيد طاقاته وإمكاناته وعلاقاته لإحياء صيغة ودور لبنان كدولة سيدة حرة مستقلة وحاضرة عمرانية رائعة تليق بعزة وطموح أبنائها فكان فرحه عظيماً بتحقيق مراحل متتابعة من الأحلام واقعاً.
بإغتياله و كوكبة شهداء "ثورة الأرز" معه أراد الطغاة الإنقضاض على عصب الإباء و تثبيط عزائم الأحرار وتفكيك جسرهم البشري المكين.
إستلّ الجلاّدون سيف البطش ليشهد من تسوّل له نفسه التمرد كيف "تُقطف" رؤوس المتمردين والعاصين عليهم.
لكن حمم غضب الحريصين على الوطن ومحبّي الشهيد جمدت الدم في عروق السيّافين.
إذ أنّ التلاصق المتعدّد الأطياف المترامي الأطراف شكّل جسر الخلاص الذي تنكّب الوطن وإنتشله من براثن وأنياب الوحوش ليعيد اليه منابع الحرية والعزة المغتصبة بعد معاناة اختناق، وليطبّق سيادة الدستور والقوانين بعد طول تشويه وليقوّم سياق العدالة الشاملة بعد حرفها عن مسارها.
ذهول وارتباك ألمّا بقطّاع الرؤوس أمام مهابة موكب الإستقلال الوطني الحاشد الذي إنطلق في 14 آذار.
فهو مكمّل لصورة قوافل الشهداء التي افتدتنا في محطّات النضال الوطني عبر تاريخنا الحافل بالإنجازات العظيمة والمنخور بثغرات عدّة كبوات.
مؤسف حدوث إنتكاسات بعد جسامة التضحيات النفيسة المبذولة لبناء الدولة بسبب تألب "حرّاس ثورة" هبطت بكلّ "تجهيزاتها" على لبنان لتقيم دويلة قارضة لسلطات الدولة وليبدأ تضييق الحصارعلى حريّة التفكير والرأي من خلال "جلاميد نظريّات" دفقتها علينا "قرائح خبراء" الثورة "الميمونة" فصادرت وسلبت إرادة أنصارها.
هذا النهج الإستبدادي الجامح نحو التحكّم بكلّ أوجه الحياة الوطنيّة تجاوز نطاق الأتباع ليشمل "حلفاء" سِيقوا بالترهيب والترغيب والكيد وفقدان التوازن و الصواب ليشكّلوا غطاءً يموّه الطابع الفئويّ ثمّ ليستكمل حلقات الهيمنة بمحاولة فرض طقوسه على كلّ أبناء الوطن.
لقد بلغ هذا الإنتهاك حداً خطيراً بات يهدد الكيان ويمهّد للغور بالوطن من جديد في غياهب عهد الطغيان الذي جدّد معه "أركان الثورة" عقد الشراكة العضويّة.
معمودية الشهادة وتشابك مشاعر العنفوان والحرص على نقاوة وتجلّي صيغة لبنان الحضارية يحتّم جدل عزائم وجهود المؤمنين بتميّز وريادة هذا الوطن.
اللبنانيّون المتنوّرون متيقّظون للمكائد التي تحاك لإغتيال وطنهم و للإنقضاض على إنجازات القوى السيادية وإغتصاب ودائع لفيف شهداء الإستقلال المنتشل من براثن الوحوش.
لذا حفاظاً على تراثنا العريق المجبول بإكسير التضحيات والمضمّخ بالعزة و الكرامة والحرية وتحفيزاً لإزدهار مستقبلنا وأمانةً لتطلعاتنا ووفاءً لتوصيات شهدائنا الأبرار، لنشبك السواعد ونقف صفاً واحداً وسدا منيعاً لإسقاط تعديات الردة الرجعية ولنواكب مسار المحكمة الدولية للقبض على رؤوس شبكة الإجرام لننعم بالأمان.
لنستلهم مناقب وخصال الشهداء النبيلة لننقّي ضمائرنا، ولنستمدّ عوامل القوة وأسرار النجاح من مزاياهم ونقتدي بمبادراتهم الناجحة وأعمالهم الخيّرة.
حقق رفيق الحريري إنجازات عظيمة ونجاحاً باهراً في حياته فاستحق التقدير وربح قلوب الناس.
أما في استشهاده فحقق أروع وأثمن الإنجازات وهي إنبعاث الوحدة الوطنية في سبيل خلاص الوطن.
أليس بإنجاز جليل كهذا يدخل العظماء التاريخ ويُخلّدوا؟

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٦.٢.١١

رياح تغيير يلفّها ضباب التغرير

حميد عواد*

التغيير مرغوب طالما هو سعي شريف للطامحين نحو الأفضل، لكنّه يُستغلّ أحياناً عنواناً جذّاباً من قبل المتعطّشين لسلطة ماحقة، يطرحونه طُعماً ليستدرجوا شعوبهم من مطبّات الضيق والمعاناة إلى حظيرة العبوديّة القاتلة.
ذروة الخبث تنضح من مواقف أنظمة مستبدّة قمعيّة لم تغب ممارسات بطشها الشرسة عن الأذهان لأنّها مستمرّة في كلّ آن لكنّها تتأجّج في الإستحقاقات الإنتخابيّة لتزوّر إرادة صفوة شعبها.
فمن يسمع تصريحات "القيّمين" على شؤون تلك الأنظمة عن دعمها إنتفاضتي الشعبين التونسي و المصري يخيّل إليه أنّهم خرّيجو أعرق و أرقى مدارس الديمقراطيّة.
لكن سرعان ما تتّضح النيّة المبيّتة عندما تُسمع دعوة هؤلاء المتزمّتين والمغرورين إلى توجيه التغيير نحو نمط تخلّف أنظمتهم فيما يتطلّع المتنوّرون إلى إنتقال آمن نحو صيغة حكم توفّر الفرص العادلة للعيش بكرامة وحريّة وهناء.
لا تغفل عيون الدول اليقظة عن تسرّب "خلايا ثوريّة" تنخر أنسجة المجتمعات المحلّيّة لتزعزع الأنظمة العربيّة المعتدلة فتتتبّعها إلى مصدرها المعروف، إذ أنّ التحريض والدعم و التأليب ينطلق من " فوّارة الممانعة والمراوغة والهيمنة" "النافثة للثورات" ومن محور المخابرات الشرسة التي ترتكز عليها أنظمة الإستبداد العسكري والديني.
قوّة هكذا أنظمة تكمن في قمعها العسكري الذي تمارسه على شعبها لتخرس الأصوات المعترضة ولتجهض المحاولات الإصلاحيّة متحصّنة بحرمة السيادة داخل أراضيها، تحتمي بشعارها و تحوّلها قضيّة إستقطاب وطنيّ في وجه أي تدخّل خارجي.
لكنّها لا تجد حرجاً في توسيع هيمنتها خارج أرضها فتقتنص فرص الفوضى والوهن لدى الآخرين لتطوّقهم في عقر دارهم بشبكة "قواعد" مخابراتيّة وعسكريّة تحت غطاء "عقائدي" و"سياسيّ" و"نضالي" تابعة لها، والمثل البارز وليس الوحيد هو الحال الضاغطة في لبنان.
لقد إستنفد المحور السوري-الإيراني قسطاً كبيراً من عافية ومنجزات اللبنانيين عبر أذرعته السياسيّة و المليشياويّة التي أنشأها في لبنان.
لقد أُطلقت عروض الترهيب المليشياويّة في وجه اللبنانيين الرافضين للهيمنة الفئويّة و الخارجيّة والحريصين على النظام الديمقراطي الحاضن للكرامة الإنسانيّة والمخصّب للتنوّع والمحفّز للإبداع والعنفوان، فكانت النتيجة إلتهام لمعظم تضحيات القوى السيادية المبذولة في سبيل ترسيخ الإستقرار ثمّ المطالبة بالمزيد.
إنّ سياق القضم المتدرّج لسيادة ونظام ومقدّرات الوطن من جانب أذرعة الأخطبوط الإيراني-السوري في لبنان بلغ حداً خطراً يقارب مستوى الإستئثار بالحكم ويهدّد ب"هضم" الكيان المتميّز الذي يحرص عليه الوطنيّون المخلصون.
المفجع هو أنّ سطوة تلك الأذرعة المليشياويّة خلخلت وإنتزعت بعض الشرائح من مواقعها السياديّة وسخّرتها عنوة لتغيير موازين القوى في مجلسي النوّاب و الوزراء.
وأسفرت رحلة رئاسة الوزراء للرئيس الخارج من السراي عن سلسلة مكائد و مكامن و أفخاخ خُطّطت مسبقاً للإيقاع به وإبتزازه وجرّ بعض حلفائه إلى التنكّر لمبادئهم وعهودهم وتطلّعات مؤيّديهم والإنقلاب على قناعاتهم الذاتيّة وعلى مسيرة الإستقلال.
لبّ الهدف كان وما زال عزل لبنان عن مدى الدعم الدوليّ الحيويّ له وفصله عن التواصل مع مغتربيه لتدجين أو تهجير أهله ومسخ نظامه والتنصّل من إلتزامات الدولة اللبنانية حيال المحكمة الدولية الخاصّة بلبنان التي يتوخّى اللبنانيّون منها قطع دابر الإجرام السياسي.
وما فرط عقد الوزارة المنصرفة إلاّ محاولة للإلتفاف على القرار الظنّي عبر قرار تصدره تشكيلة وزاريّة جديدة "طيّعة" تعلن فيه إلغاء البرتوكول المعقود مع المحكمة ووقف التمويل بالنصيب اللبناني وسحب القضاة اللبنانيين رغم أنّ ذلك صعب التسويغ قانونيّاً.
بضغط التلويح بالسلاح وشهره و التهديد بإستعماله والتذكير بسرعة تحرّكه و"إكتساحه" الأزقّة والقرى الجبليّة وقصور القيادات السياسيّة تُنتزع مطالب الأخطبوط الإيراني-السوريّ و أذرعته وتُشوّه نتائج الإنتخابات وتُطوّق المقامات الرئاسيّة للتحكّم بها والإستئثار الحصري بكلّ صلاحيّاتها.
خلال ذلك و بهدف التملّق للبنانيين وإستدرار رضاهم، تُغدق وعود خادعة بإصلاح شامل يُنجز بسرعة البرق و تخفيض كلفة المعيشة ب"الرَقَى" و زيادة الأجور بطبعات جديدة من الأوراق النقديّة وتحريك عجلة الأقتصاد بإرتجاجات زعزعة الإستقرار وقوّة القدرة الشرائيّة للمسلّحين و"مذيعي" التهديدات "المحلّفين" و تأمين الوظائف ومختلف الخدمات للأزلام نيابة عن المحرومين وإن لم "يسعف الحال فليسعد النطق" من أفواه الضالعين في الفساد والغارفين من مال الخزينة والمتصرّفين بالملك العامّ والخاصّ كحقّ مطوّب لهم.
بالأمس عندما كانت الأكثرية متماسكة ومصانة أحجمت عن ترجيح كفّة خياراتها الخاصة في إستحقاقات دستوريّة تحاشياً لإقصاء شريحة "ممسوكة القرار" ووازنة في معادلة الحياة الوطنيّة وإشباعاً ل"طموح" المتحكّمين بقرارها إنتُزع الثلث المعطّل وحقّ النقض بمفاعيل قوة السلاح في "ترتيب" الدوحة.
أما اليوم وبعد إقتناص حفنة من النوّاب المتذبذبين بوهج "لايزر بنادق القنص" رجحت كفّة "القنّاصة" ولم يعد لميثاقيّة العيش المشترك والشراكة الوطنيّة حساب يُعتبر منهم بل يصحّ تجاوزه.
مسيرة الإستقلال أصيبت بكبوة لا بد من التغلّب على أذاها بوعي وصمود وعزيمة ونخوة وتضامن ونهوض وإقدام حرّاس السيادة والإستقلال.
لبنان لن يُترك رهينة وغنيمة لقراصنة الأنظمة الثيوقراطية وصيّادي الفرص والجوائز من أركان أنظمة عسكريّة بائدة من أيتام العهد السوفييتي المنقرض.
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية