١٩.١٢.٠٥

"صيد" آثِم بعد "إنذار" لاغِم:الجسد أشلاء أما الفكر فضياء

حميد عواد*


قرار مجلس الأمن 1559هو إعلان بليغ لإحياء قيم الديمقراطية و حقوق الإنسان في لبنان، و هو فاتحة خير و أمل لنهوض الوطن على مناكب أحراره الذين بذلوا و ما أحجموا عن نفيس العطاء و جليل التضحيات.

كما هو باكورة اهتمام دولي جدّي و حثيث بإقصاء يد التخريب لتمكين تضافر الإرادات الخيرة و تعاون أصحابها على إرساء أسس الرسالة التي نُذر لها لبنان.

و تصديقاً لنيّة المجتمع الدولي وتأكيداً لعزمه و تنفيذاً لقراره، بدا مجلس الأمن و كأنه في حالة انعقاد دائم ليبتكر الحلول و يدعم انعاش دورة الحياة الديمقراطية و يواكب انسيابها عن كثب و يراقب تطور الأوضاع في لبنان و يصدر القرارات المناسبة بالتنسيق مع الحكومة اللبنانية.

فأصدر تباعاً قرارات تتناسب مع ضخامة الأحداث: 1595 و 1636 و 1644.
راهن النظام السوري على احتشاد "رعاياه" و"اللصيقين" به في مسيرة 8 آذار للإلتفاف على أو الطعن ب"شعبية" القرار 1559.

لكن سيلاً بشرياً هادراً تدفق في 14 آذار من منابع العزة و العنفوان المنتشرة في رحاب الوطن و كسف، بتوهج مهابته و نقائه و أصالته و تشعبه، طفرة 8 آذار و أثبت أن شعب لبنان في صميمه متعطش للحقيقة و تائق أبداً إلى الحرية و السيادة و الإستقلال.

هذا الزخم الوطني المشبع بنضالات جيل التيار السيادي و المشفوع بالقرار الدولي 1559 و المتضخم المنسوب منذ اغتيال الرئيس الحريري أجبر النظام السوري على إجلاء جيشه و "واجهة" مخابراته عن لبنان، لكن على مضض.

فسلوكه و تلكؤه في تنفيذ القرارات الدولية ينبئ عن تحيّنه لفرص يعزز فيها "مواطئ أقدامه" في لبنان تمهيداً لتكرار محاولة ابتلاعه.

و لهذه الغاية يحرّك فيه "مواقع مفخخة"، ساهم في إنشائها، لتبديد الضغوط كلما اشتدت عليه و لتوظيف "خدماتها" في النيل ممن أحبط مخططات هيمنته و هيمنة حلفائه و أعوانه على لبنان.

يجمع هذا التكتل على تحويل لبنان ميداناً، مجرّداً من مقومات الدولة، مباحاً للمغامرات العسكرية، و مشرّعاً لأطماع و نفوذ الأنظمة الهجينة المتخلفة، لتختطفه رهينة لإبتزاز المكاسب ، و تجعله سجناًً لأسر الأحرار و مقبرة جماعية لوأد الفكر الحر.

لذلك نراهم يشرئبّون معترضن الدعم الدولي و يشككون بمقاصده و "يجتهدون" في تصنيفه ليصوروه هيمنة بغيضة لا "ترقى" إلى "نبل " مرتبة هيمنة مرجعياتهم.

و الذعر المشترك من "الخرق" الحضاري يدفع بجوقة الأنظمة البائدة إلى شدّ أزر بعضها البعض و إلى إطلاق التهديدات العشوائية من المنابر و إلى سفك دماء "الخصوم" بتفجير الرزم و المركبات المفخخة.

لذا نسمع "مكبّرات الصوت" تردد التهديدات و نشهد "دوزنة لإيقاع" التفجيرات، "تتناغم" مع وتيرة ارتعادات الغضب و الذعر.

و بلغت عبقرية الإبتكار حداً، أصطُنع معه محاولة اغتيال مزعومة تشير تلقائياً إلى جهة معينة أملاً في إبراز "نشاط" مشبوه "آخر"، يشيح النظر عن المشبوه الأساسي في سلسلة الإغتيالات التي عصفت بلبنان. توقيت هذا الحدث كان كنذير يمهّد لإرتكاب جريمة إغتيال النائب جبران تويني، المدير العام ل"النهار" و أحد الأقطاب الإعلامية البارزة بين طلائع المناضلين في سبيل حرية و ديقراطية و سيادة و استقلال لبنان.

حمل الشهيد حب لبنان في قلبه و وجدانه و حاكه مقالات بليغة في صفحات "النهار"، المنبر المرموق من القراء و الجذاب لنخب رجال الفكر، و صاغه جوهرة في المنتديات العالمية و بشّر بقيم الحرية و الإنفتاح و العدالة و الديمقراطية، و شنّ بجرأة لا تضاهى حملات شعواء على هيمنة النظام السوري على لبنان طالت مباشرة اركانه، و انتقد بصرامة بيادقه الذين تواطؤوا معه في ترويع المواطنين و تورطوا في التنكيل بالعاصين عليه، ليتكافؤوا حصصاً مختلسة من الموجودات والمداخيل و الديون.

شاء جبران أن يكون قائداً قدوة لشباب وطنه، فانطلق بنشاط لا يستكين يحفّزهم على الإنخراط الفاعل في الحياة الوطنية ليشكلوا "حكومة ظل"، و لاقاهم في المنتديات و خصّهم ب"ملحق الشباب" في "النهار" و ساهم في دفع مسيرة نضالهم في زمن القمع حتى نضج "ثورة الأرز".

"حتى الصوت يوّدّي" أبعد، أطلقه جبران عالياً بصريح العبارات الدالّة و قوّى "بثّ" "النهار" باستضافة كتاب سوريين و عرب متنورين.

أبرز هؤلاء، بين المعارضين لنظامهم، أطلّوا من منبر "النهار" و عبروا عن آرائهم في الإصلاح المرتجى في سوريا و عن تصحيح العلاقات مع لبنان، فاعتبر النظام السوري المدير العام ل"النهار" مناوئاً لدوداً، و كان نصيب بعض هؤلاء الكتاب السجن، أمّا نصيب نصيرالحق و راعي الرأي الحر جبران ابن غسّان تويني، فكان الإستشهاد على مثال جدّه المؤسس جبران.

إثر تبلغه خبر الفاجعة، اضطر الأب- المفكر الفذّ و العريق، و الركن السياسي الحكيم والخبير، وعميد الصحافة الحرة، و الديبلوماسي المحنّك و المتفوق- إلى الهرع من فرنسا بعد مراسم تكريمه (وسام جوقة الشرف برتبة ضابط) إلى مراسم دفن آخر أبنائه العائد لتوّه من هناك!

"شُطب" اسم الشهيد جبران تويني من لائحة "المرشحين" للإغتيال ليكتب بأحرف من ذهب في قائمة شرف أسمى التضحيات المبذولة في سبيل عزة لبنان، المدوّنة في سجلّ تاريخه و المحفوظة في ذاكرة الأجيال تخليداً لعطائه و تفانيه.

لا يتّسع عقل المجرمين للغة الحوار و لا يتقنون سوى القتل. عجزوا عن مقارعة جبران بالحجج فمزقوا جسده أشلاء ليشفوا غليلهم، لكنهم ما محوا كلماته و لا ألغوا فكره و لا طمسوا منجزاته.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٥.١٢.٠٥

شتّان بين التغريد الأصيل و ترديد الهديل الناشز

حميد عواد*


عادت "الحمامة الزاجلة" هسام هسام إلى "قنّها"، بعد "تسكّعها" على "نوافذ" إعلاميين و تطفّلها على بعض المراجع و "تحرّشها" بلجنة التحقيق الدولية، المولجة كشف حقيقة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، و تبليغها الرسائل "العنقودية" المفخخة التي لُقِّنتها في "عشّها"، لتحاول تفجيرها عن بعد، عبر موجات الأثير، للطعن بمصداقية تقرير ديتلف ميليس.

و كأنّ هذا التقرير بصلبه و رمّته مبني على ادعاءات هسام، فيما هو حصيلة جهود جبّارة بذلها طاقم من النخب العالمية (100 من الإخصائيين مدعومين بأحدث التجهيزات و 40 من القضاة) المشهودي الخبرة و المعرفة الذين تمحّصوا في معلومات مئات (500) من الشهود و آلاف (60000) من الوثائق و الأدلة.

و التوسع في التحقيق ما زال جارياً و سيبلغ ذروته قريباً في جنيف، خلال "الإستماع" إلى أجوبة 5 ممن كانوا من "صنّاع الأحداث" في لبنان.

إن مجرّد عودة هسام إلى بلده سوريا مطمئنّاً و "ظافراً" من مهمّة "عرض بضاعته" "الفوّارة" هو دليل قاطع على أنه لم يكن "منشقّاً" و أن ما قام به هو مسرحية معدّة سلفاً.

إنها محاولة طريفة للتشويش على مجرى التحقيق تُساق مع جملة مناورات يعمد إليها النظام السوري للتنصّل من أحكام القرار 1636 و لتجنّب "شرب كأس" إجراء تحقيق عميق و دقيق، طليق من "الضوابط"، مع أركان مخابراته.

الحقيقة لا يمكن تجاهلها أو طمسها أو تشويهها، و التعاون من أجل كشفها يصبّ في مصلحة كل بريء اتُّهم خطأً أو افتراءً.

و طالما لا يعقل أن يشكك النظام السوري في التحقيق الدولي ظناً منه أنه على صورة و مثال التحقيقات التي يجريها محققوه، فلماذا إذن الخوف و التطيّر من تحقيق جدّي و نزيه متعدد الجنسيات و المهارات؟

و لماذا التسويف و المراوغة؟

و لماذا الخروج عن طور الإتزان و القول إن من لم يكن "عبداً" لنا فهو "عبد" لغيرنا؟

و لماذا استنفار "مكبرات الصوت" داخل لبنان و "استيلاد" "مواكبة نارية" "ضخمة" على الحدود كادت تشعل حرباً نزع فتيلها و طوّقها مسعى دولي؟

و لماذا تعليق هوية مزارع شبعا ضائعة بين حلاوة الكلام و حجب وثائق ترسيم الحدود؟

هل هو شغف بهوس "نيرون"؟ أم هي رقصة الطائر المذبوح؟

المجتمع الدولي مع غالبية اللبنانيين و السوريين يتمنون لو يتمكن النظام السوري من فكّ قيوده و خلع ذهنية الإستبداد و نهج الترويع و إنقاذ نفسه بالإنفتاح على شعبه و الإنطلاق به نحو رحاب الحرية و الإبداع و الإزدهار.

و نظراً للمنحى الخطر الذي يسلكه هذا النظام حالياً لا بدّ من تحذيره من مغبة العبث بأمن لبنان و توجيه النصح لحلفائه عندنا بتقديم المصلحة الوطنية على أي هوى آخر.

فاللبنانيون بأمس الحاجة إلى الأمن و الإستقرار و تركيز الجهود البناءة و منع إحباطها كما الإستفادة من الفرص الملائمة و الإقلاع عن هدرها.

و معيار التوافق الوطني لن يكون بالتنكّر لحقوق اللبنانيين في معرض خدمة أهداف الآخرين المسيئة إلى الوطن.

الإحتفاظ بالسلاح خارج سلطة مؤسسات الدولة هو نذير بتقويضها مهما كانت المبررات و هو استضعاف للعُزًل و وسيلة ضغط تمارس عليهم لترجيح كفة حامله، بصرف النظر عن وجهة تسديد فوّهته.

و لتعزيز الطمأنينة و رفع "وزر" حمل السلاح عن كاهل المتمسكين به، ندعو المجتمع الدولي إلى تعزيز قدرات لبنان الدفاعية و تشكيل مظلة أمنية واقية تحظّر و تردع أي نوع من الإعتداءات عليه.

لا مناص من الإلتزام بما لم ينفذ بعد من القرار الدولي 1559، فقد برِم روّاد الإستقلال اللبنانيون من الإعاقة التي يسببها لهم وكلاء التبعية الذين يحملون سلاحهم ليكونوا ذراعاً ل"حلفائهم" الإقليميين، غير آبهين برغبة شركائهم في المواطنية التائقين إلى الإنعتاق و الإنطلاق والسلام.

إننا نتساءل: حتى متى يستمر " الهديل الناشز خارج السرب" بدل ال"التغريد" في فضاء الولاء للوطن؟ و متى تكتمل الصحوة الوطنية؟

نأمل أن تتّسق الوان الأطياف اللبنانية و أن تتناغم ذبذباتها كأمواج الضوء الشمسي و ألا تُفرز، و أن "تتدوزن" اصوات كل المنشدين في جوقة الإلفة الوطنية على إيقاع النبض الوطني الأصيل!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية