٦.١.٠٦

لبنان بين استقرار مُدوّل و زعزعة إقليمية

* حميد عواد

سنة 2005 مضرّجة بدماء شهداء الحرية، لكنها مكلّلة بتاج الكرامة و السيادة و الإستقلال المستعاد.
صفحاتها مجبولة بعرق و دموع الأبطال الجارية بغزارة من روافد نضال السنين الماضية:
بعيونهم قاوموا المخرز، بثباتهم و قوة شكيمتهم اسقطوا الأصنام، و بتوقّد إيمانهم الوطني أزاحوا جبلاً من الهيمنة الهمجية عن صدر الوطن.
تغيّر الترقيم الزمني، لكن أنظار اللبنانيين ما زالت شاخصة تترقّب اكتمال مراحل مسيرة الخلاص الوطني المنطبعة في وجدانهم كروزنامة الرجاء المأمول.
هذه الروزنامة صاغتها تضحيات اللبنانيين و رقّمتها قرارات ( 1559، 1595، 1636، 1644....) مجلس أمن المجتمع الدولي الجادّ في مساعدة لبنان على التعافي دون كلل أو ملل.
النهوض بلبنان ورشة تنكّبها أبناؤه الأبرار و إلتزام تَوافقَ على إلحاحه أوروبا و أميركا فإنكبّتا على توفير سبل الدعم و إزالة العوائق من دربها و الإجتهاد في بلورة تنفيذها.
إحدى أعتى العبقات التي تقلق المجتمع الدولي و تنغّص عيش اللبنانيين الشرفاء و تثير سخطهم أكثر مما ترعبهم هي موجة التفجيرات الإرهابية التي استهدفت إغتيال أعلام رائدة في الحياة الوطنية و ابتغت زعزعة استقرار الآمنين، فغيّبت أرواح عزيزة و خلّفت الدمار.
و فيما شهدت لجنة التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ركوداً ملحوظاً في فترة الأعياد الإنتقالية من ميليس إلى براميرتس، حرّك نشاطها بزخم نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام عندما أفصح للإعلام عن"مقتطفات" من شهادة مفصّلة يزمع على الإدلاء بها لها. و في الأفق يصطفّ العديد من المسؤولين السوريين السابقين، ممن نجوا من "هاجس مراودة" تجربة "الإنتحار"، ينتظرون دورهم.
و هكذا صدّق ركن سابق من أركان النظام السوري صحّة معلومات التحقيق و أكّد أنّ رأس الهرم هو سيّد كل قرار.
و سرعان ما طلبت اللجنة الإستماع إلى خدام و الوزير فاروق الشرع و الرئيس بشّار الأسد.
بشهادة خدام، التي تكتسب أهمية قصوى لأنه كان في سدة المسؤولية ما يزيد عن ثلث قرن وما تركها إلا منذ أقل من سنة، تتطابق معلومات أربعة مصادر:
1) النتائج الموثقة في التحقيق، 2) خدام، 3) أسرة الحريري و المؤتمنون على اسرارها، 4) معرفة الناس للظروف الميدانية، حيث كانت "عيون" المخبرين راصدة مواكب المستهدفين و "آذانهم" متنصّتة إلى أحاديثهم على مدار الساعة.
و هاك عيّنة من صورالمخبر هسام هسام تضبطه يظهر في موقع إنفجار إغتيل فيه شخصية مرموقة. فعسى أن توصي لجنة التحقيق الدولية القضاء اللبناني بإصدار مذكرة جلب لإستحضاره قبل اختفائه و "تواريه" إلى "ملاذ" رنا السحري.
في غمرة هذه الحيثيات يهبّ حلفاء النظام السوري في لبنان لنقض الإشتباه الإجماعي به بطرح قرينة براءته، و لتخوين المكتوين بنار الإجرام و المشيرين إليه بأصابع الإتّهام، و ذلك في معرض ردّ معروف "الأفضال" التي "مَنَّ" بها عليهم.
و الممثلون في الحكم منهم سحبوا وزراءهم إعتراضاً على طلب مجلس الوزراء من مجلس الأمن توسيع مهام التحقيق، لتشمل الجرائم الإرهابية المرتكبة في لبنان بدءاً من محاولة اغتيال الوزير مروان حماده، و تشكيل محكمة ذات طابع دولي للنظر في هذه الجرائم.
مطلبهم الأساسي، التعجيزي و المستحيل، هو "دفن" الشق الثاني من قرار مجلس الأمن 1559، يطرحونه شرطاً لرفع العراقيل من درب العمل الحكومي و جواز تأييد لعبور أي طامح لتبوؤ مهام الرئاسة. و "حدسهم" ينبئهم أنّ مكائد الإغتيال لن تتوقف إلا إذا استجيبت مطالبهم المتداخلة مع مطالب مرجعيّتهم الإقليميّتين!!!
تندرج تدابيرهم و مواقفهم، المنسّقة إقليمياً بإحكام، في سياق إحباط الجهود الدولية لتمتين منعة لبنان و الرهان على هدر الوقت هباءً أملاً في قلب المعادلة الحالية وصولاً إلى إنكفاء العزيمة الدولية وعدولها عن تزكية و دعم التغييرات الديمقراطية في الشرق الأوسط.
كما ينبع أيضاً من الخوف من فضح ترابط شبكات التخريب و الإرهاب و تحدّرها من أنظمة إقليمية و كشف شبكة أنفاقها التي تستودع فيها الإسلحة و المتفجرات و السيارات المسروقة و جوازات السفر المسروقة من الأمن العام.
و لتنشيط حركة خطوط التنسيق "اللوجستي" بين أطراف هذه الشبكات، خُرقت من جديد الحدود اللبنانية-السورية فأُعيد فتح الطريق العسكرية (لا يخضع عابروها لأي تفتيش) و أُحدثت ثغرات في نقاط حدودية، بينها دير العشائر و حتى المصنع.
و "تكذيبا"ً للوقائع، ينكر منزّهو النظام السوري على اللبنانيين قلقهم من الإحتفاظ بالسلاح خارج سلطة الدولة، التي نزعوا عنها مهمة حماية الوطن لإلقائها على عاتقهم و احتكارها.
و من يحرص على حماية الوطن بنيّة صادقة و ولاء كامل ينأى بنفسه و بلبنان عن مرمى و مجاري تيارات التعصّب و التصلّب و الإنغلاق السلفية المتزمتة، أياً كان انتماؤها المذهبي و منبعها، و يدعم الجيش اللبناني الذي هو الدرع الواقي لكامل الوطن.
المشكلة لدى هؤلاء الفرقاء أنهم لا يتقبّلون النظام الديمقراطي البرلماني الحر في قرارتهم لذلك يسعون إلى "تشذيبه" و "تطعيمه" بكيانات- مقتبسة من الأنظمة الهجينة التي ترعاهم- تعطّل عمله و تمتصّ فاعليته و تستهلك عافيته.
و من هذه البدع قضية حمل السلاح خارج الإطار الشرعي من قبل فصائل لبنانية و فلسطينية و زنديقية، متنوعة الولاءات، تتحصن في معاقل موّزعة على مدى مساحة الوطن.
و "إثباتا"ً لجدوى الإنفلاش هذا شنّ، منذ أيام، أحد "ضيوف" هذه المعاقل "حربه" مطلقاً الصواريخ جنوباً، و من "المنصّة اللبنانية" خارج شبعا، في "غفلة" من راصدي الحدود.
ولولا الجهود الدولية لإحتواء مفاعيل الحادث لَتفاقم الوضع إلى عواقب وخيمة.
و بالمناسبة و قطعاً لطريق التوطين يتساءل اللبنانيون: أليس بالإمكان تعاون الدول العربية مع السلطة الفلسطينية لتأمين نقل الفلسطينيين من لبنان؟
و عطفاً على دلائل تدفق السلاح لفت نظري خبر مقتل رجل في منطقة البيّاض تبيّن من التحقيق أن الرشاش، أداة الجريمة، اُعطي للجاني من مسؤول تنظيم مسلًح لبناني في تلك المنطقة منذ أشهر.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: ألا يشكّل هذا الإقرار إخباراً كافياً لإعتقال "المسؤول" التنظيمي و فتح تحقيق لمعرفة على أي نطاق جرى توزيع السلاح و لأي هدف؟
الحريصون على استقرار لبنان و أمنه هم صفوة أبنائه، رصيدهم الفكر و ذخيرتهم المعرفة و محرّكهم الإخلاص للوطن.
يحاورون بالكلمة الصادقة و الصريحة و يقارعون بالحجّة المنطقية و ليس بقرقعة السلاح و عصف الإنفجارات و قذف مصير الوطن بحشوة صاروخ أو مدفع.
يدركون فداحة الخسارة و يقدّرون قيمة الوقت و يحسّون بإلحاح الحاجة إلى السلام و يتوقون إلى تعويض الفرص الضائعة.
ينخرطون بشغف في مشاريع التنمية و يدعمون تنقية مؤسسات و أجهزة الدولة من رواسب حقبة الهيمنة الإستبدادية المروّعة المنحسرة – التي ما تزال تجرّ ذيولها-، و يضخّون انعاشاً شاملاً للحياة الديمقراطية في أوردة الوطن و إعادة اعتبار كاملة لحقوق أهله، و إلتزاماً صادقاً بالولاء له.
يشجّعون التعاون الوثيق بين حكومتهم و المجتمع الدولي ، لأنه السبيل السليم و المجدي إلى حل المشاكل الشائكة، و يسعون إلى إبرام ضمانات تقي لبنان شرّ الإعتداءات عليه أو الإنتهاكات لسيادته.
و هم يزخّمون هذه الجهود المشتركة لتوطيد سلطات الدولة و ترسيخ أهمية موقع لبنان، و دفعه قدماً نحو الرقي و الإزدهار.
إن قوس قزح الأطياف اللبنانية جميل بتنوّع و تناسق ألوانه - و لو اعترته بعض العيوب-، و كلما إلتمع في صلب النسيج الوطني، لا يلبث أن يستحيل حزمة ضوء** نقية و كاشفة لدرب المستقبل الواعد، متى تآلفت موجاته على إيقاع خدمة المصالح الوطنية العليا و فخر الإنتماء و الولاء لوطن الأرز.

**علمياً قوس قزح هو فرز لموجات ضوء الشمس ( خطر لي هذا التشبيه خلال كتابة مقالة سابقة عنوانها "شتّان بين التغريد الأصيل...." فأوردته فيها)

*مهندس وأكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية