٢١.٦.٠٧

تناسخ الأبالسة

حميد عواد*

عندما تضعف مناعة العيش الرغيد في جنة كانت آمنة إسمها لبنان، فيما ينمو في أعضاء منها سرطان خبيث يمسخ خلاياها مغتذياً من إفرازات هجينة سامة، تدرها أثداء غيلان جائعة تنهش أحشاء الوطن على إيقاع طبول الحرب و أناشيد مبايعة الولاء لقوى الهيمنة، حينئذِ تتناسخ الأبالسة من "الخلايا المختلة" لتخوض "معاركها المبرمجة" جاعلة النعيم جحيماً. وقع لبنان في منطقة موبوءة بالعداوات و مشحونة بالصراعات و ملتاعة بالنهم إلى السيطرة و مضطرمة بالتوق إلى التوسع، فتلقفته هذه الأنواء و استنفدت عافيته الحروب و الفتن، إذ كان لكل سورة جنون أبالستها من عساكر الجوار و "مناضلي" الداخل، "نزلاء" و بلديين. و ها نحن في مرحلة من مراحل عذابات الجلجلة يطبق فيها جيشنا الباسل بعزيمة و ثبات على حفنة من الشذاذ "المتحصنين" في مخيم نهر البارد سرقوا مصرفاً و قتلوا جنوداً استفزازاً و استدراجاً للمواجهة و قد غدروا بهم على الطرقات خارج نطاق وظيفتهم أو في أسرتهم نياماً. و سبق أن قبضت الأجهزة الأمنية الرسمية على مجموعة منهم إعترفت بإرتكاب جريمة تفجير الحافلتين في عين علق و أخرى كانت تعدّ سيارة مفخخة لتفجيرها في زحلة. و المحققون منكبّون اليوم على استقاء مزيد من المعلومات من الذين اعتقلوا من أفراد هذه الشبكة لكشف مخططاتهم و معرفة أهدافهم و مدى تشعب ارتباطاتهم. نذكر جيداً الإنذارات المتكررة التي وجهها إلينا النظام السوري من "توافد" هذه الشراذم "المشتقة" من منظمات برع في فسخها ("فتح الإنتفاضة"، "الجبهة الشعبية-القيادة العامة" وصولاً إلى منظمات و أحزاب لبنانية التسمية...). و ليس سراً أنه هو الذي أطلق زعيمين من زعمائهم بعد "استضافتهما" (تأهيلهما ربما؟!) مدة سنتين في السجن (أحدهما قائدهم، شاكر العبسي، محكوم بالإعدام في الأردن لضلوعه في إغتيال الدبلوماسي الأميركي لورانس فولي سنة 2002) فيما يسجن نخبة من رجال الفكر عشرات السنين لتوقيعهم "إعلان بيروت" أو مطالبتهم بإلغاء حالة الطوارئ و محكمة أمن الدولة، و منح المواطن السوري حرية ممارسة كامل حقوقه السياسية و المدنية! هذا النهج في التحالف و التخاصم يخبّر الكثير عن طبيعة هذا النظام. خلال مرحلة حبس الأنفاس و الإرباك هذه، أضافت عصابة الإجرام- الجليّة التنسيق و البديهية النسب- حلقة جديدة إلى سلسلة الإغتيالات التي استهدفت طليعة موكب الأحرار الثائرين على أسيادها، رعاة الإرهاب و منتهكي الحقوق الإنسانية و مستبيحي الحرمات لإخضاع الأباة و ضمهم إلى مملكة التخلف و التصحر و الإكتئاب، حيث تنحصر الإحتفالات بمراسم الجنازات. لقد ترصد المجرمون النائب و القاضي وليد عيدو، رئيس لجنة الدفاع البرلمانية و الشخصية المرموقة من لفيف قادة 14 آذار، و فجروا سيارة مفخخة لدى خروج سيارته من ناد إعتاد على مراودته، فاستشهد مع أبنه المحامي خالد و بقية مرافقيه، كما استشهد من كانوا في الجوار. كل إنسان نبيل يشجب بغضب هذا العمل الشنيع و يشعر بالصدمة و الأسى و المرارة لفقدان هذه الأرواح العزيزة التي سفك دماءها محترفو الإجرام لصالح رعاتهم و آمريهم الذين يجدون في إضعاف الوطن و تهجير أبنائه و تجفيل المستثمرين انعاشاً لآمالهم في بسط هيمنتهم، لذا يثابرون على زعزعة استقراره بلا هوادة إجهاضاً لجهود إنهاضه و إعادة إعماره. وحدهم الذين إرتبطوا بمحاور التخلف و البؤس الإقليمية يهللون لل"تناقص" في عدد الأكثرية النيابية الحالية و يجعلونها "مادة تندر سمجة" بثتها خطأ إحدى الوسائل المرئية و المسموعة، و هي تنضح بما يجول في خواطر أوساطهم و تضعهم مع من يعارضون إنتخاب بديلين لشهيدين من قافلة شهداء معمودية الإستقلال المستعاد، النائب و الوزير بيار الجميل و النائب و القاضي وليد عيدو، في موقع التواطؤ الموضوعي مع القتلة. الرئيس بري "فاتح" على الإعلام و "مسكّر" على المجلس! فصدّ بهذا الإقفال صيغة المحكمة ذات الطابع الدولي (المختصة بمحاكمة المشتبه بضلوعهم في جريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري و ما يتفرع عنها) علّه يريح أرباب النظام السوري من هذا الكابوس. لكنها "تقمّصت" دولية في مجلس الأمن الدولي بالقرار 1757 القاضي بتشكيلها تحت أحكام البند السابع. و هذا ما دفع النظام السوري إلى رفع وتيرة استنفارحلفائه المحليين و الإقليميين و الدوليين لتطويق مفاعيل هذا القرار رغم نكران علاقته بها و نأيه عنها. و هذا الوضع شحذ توقه إلى و إلحاحه على إنتزاع القدرة على إتخاذ القرار الحر من اللبنانيين ب"الكماشة" السورية-الإيرانية القابضة بفكيها لكبح حركة المؤسسات و لتعطيل كل السلطات وصولاً إلى فرض رئيس للجمهورية طيّع لمشيئته. و إذا قيّض للقحط أن يتمدد، تتحنط الديمقراطية و تتمسّخ العدالة وتجفّ الينابيع و القرائح. و دفعاً لبلاد الأرز نحو التصحّر، يحكم حولها طوق الحصار السياسي و الميداني و الصدامي (الحامي في النهر البارد) و التفجيري بالأفخاخ الملغمة، إضافة إلى تحريض إسرائيل على القصف بإطلاق صواريخ "يتيمة" عليها، و تبرز خطورة و أبعاد الأحداث المتلاحقة على أرض الوطن. و يبدو سيناريو دور "العبسي" كملحق لفيديو "أبو عدس" في لعبة التمويه عن كبار المجرمين. و يأتي قلب الطاولة على "إتفاق مكة" في حسم "حماس" الوضع العسكري في غزة لحسابها رسالة مزدوجة تعبر عن غضب النظام السوري من إقصائه عن سوق المقايضات التي يشتهيها، كما يعطي عيّنة عما يمكن "إنجازه" في "المفارز" و "البؤر" الأمنية "الخارجة" عن "إختصاص" أجهزة أمن الدولة اللبنانية حيث يطوًّق "الأمن الرسمي" إذا تجرأ على عبور "الحدود" و "دخول" "معقل" ما بلا إذن، و "يساق مخفوراً" إلى التحقيق من قبل "الأمن الذاتي" الذي "أتهم" أحد أركانه بالأمس "الآخرين" (بتقليدهم) بإطلاق نداء لإقامة "أمن ذاتي" واصفاً هكذا دعوة بنزعة "تقسيمية"!!! لبنان، متعهّد الحوار و التسامح و الإنفتاح و الإلفة بين أبنائه، لا يجازى بأذية التكفيريين و المتزمتين و المتوحشين و الذبّاحين، و ليتذكر من تخونه الذاكرة أن من يرعى الوحوش و يربيها ينتهي في بطونها. لقد استخرج اللبنانيون وطنهم من بطن الحوت (كالنبي يونان) بدعم دؤوب من المجتمع الدولي، فهل يتوقع الجزارون و الطهاة خدعهم لذبحه و طهوه من جديد ليقدم وليمة لحوتين ما برحا يراودانه؟ الأجدى إطعام الجياع من اللبنانيين بدل التحذلق لجعلهم طعاماً للحوتين الجائعين!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية