٢٨.١١.٠٦

شلح من الأرز هوى

*حميد عواد


لن يطمئنّ اللبنانيون و لن يستقرّ لبنان طالما بقي "مفخخاً" بفطر "دويلات" و
بؤر فصائل مسلحة، تبايع الولاء لأنظمة تعتبر لبنان "متراساً" متقدماً "لحروبها" و مختبر "تناسخ" ل"أوليائها" و مكمناً أو حقل رماية مزروعاً بالألغام مستباحاً لتصفية مناهضي هيمنتها. بورك هؤلاء الأبطال لأنهم حماة العزّة و الحرية و الإستقلال و قيم حقوق الإنسان، و بنّائو الوطن الحضاري المحصّن بمؤسسات ديمقراطية رائدة و عريقة.
بالأمس أطلق المذعورون من تشكيل المحكمة الدولية، المطعمة بالقضاء اللبناني و الوشيكة الإبرام، مجرميهم، على وقع ترقب "مفاجآت" موعودة و توجس من "بوادر" تحضير لإغتيالات جديدة، فترصدوا وزير الصناعة الشيخ بيار الجميل و طاردوا السيارة التي كان يقودها و افتعلوا حادثاً لإستصدامها تمهيداً لرميه برصاص مكتوم الصوت، فقتلوه مع مرافقه سمير الشرتوني و هربوا.
صبيحة يوم استشهاد الوزير الشاب، كُلّف رسمياً في اليوم السابق لذكرى عيد الإستقلال بوضع إكليل من الزهر على ضريح جدّه، القائد المميز بمناقبه الوطنية النبيلة و حامل مشعل الإستقلال التأسيسي و الشريك في صياغة الميثاق الوطني سنة 1943، الشيخ بيار جميل الذي أسس حزب الكتائب اللبنانية كصنو لمعاني الإستقلال و كمدرسة للتربية الوطنية، ترتكز عقيدتها على ثالوث (الله، الوطن، العائلة). لقد استقطب الحزب قادة أفذاذاً و قاعدة واسعة عميقة الإيمان بلبنان و راسخة الولاء له، و خرّج كوكبة من النواب و الوزراء و رئيسين للجمهورية اللبنانية: أولهما الرؤيوي الطموح و المقدام بعزم و حزم الشيخ بشير الذي اغتيل قبل تسلم مقاليد الحكم، و ثانيهما شقيقه الرئيس الأسبق الشيخ امين المفجوع اليوم باستشهاد إبنه. لم يخطر على بال وزير الصناعة، سليل هذه العائلة المتجذرة في صناعة السياسة الوطنية، و النابض بزخم هذا التراث العريق أنّ محترفي الإجرام سينقضّون عليه في هذه الذكرى الحافلة بالمآثر و العبر، و إلا لما تخلّى عن مواكبته الأمنية الرسمية أو أنّه لم يستهب الموت فواجه القتلة أعزل. إذ تعوّد المحامي البارع المواجهات بسلاح الكلمة و الموقف، فكان يمتشق لسانه بجرأة و معرفة و كفاءة، و يستلّ نشاطه و حسن تدبيره و طموحه، و يشحذ نصل شغفه بخدمة وطنه و تفانيه في النضال لتحصين استقلاله و ترسيخ ديمقراطيته و حماية طابعه الحضاري الفريد. لقد اعترض طريقه المجرمون و قطعوا عليه مسار حياة زاخرة بالنجاح في السنة الرابعة و الثلاثين من عمره، العمر الذي استشهد فيه عمّه الرئيس الشيخ بشير الجميل. شارك مليون من المشيعين و ملايين من المغتربين و حكام دول، أسى و حزن عائلته، و تجلّت صورة الفقيد كعملاق بحجم الوطن. قتل الشيخ بيار حفيد المؤسس لكن الإستهداف طال ثورة الأرز و الحكومة و المحكمة الدولية و استقرار الوطن.
إنه عمل إجرامي إرهابي يندرج في مسار إعصار يستقلع عصب السيادة و الحرية و الإستقلال و الحداثة، و دورة "منقّحة" لدوّامة حرب إبادة منهجية "مموّهة" تستهدف استهلاك و استنزاف و ترويع و تبديد و تهجير أبناء بلاد الأرز الأحرار الأباة الذين يسري في عروقهم بعض من نسْغُه المُخلّد. ما وفر الضالعون في سلسلة الإغتيالات الخمسة عشر الأخيرة ( و"باعهم" طال أكثر من ذلك بكثير )، التي استهدفت قادة فكر و سياسة بارزين وجّهوا مسيرة الإستقلال، أسلوباً إرهابياً إلا و جرّبوه تمهيداً للسيطرة من جديد على مقومات الحكم في لبنان و نسفاً لآلية تشكيل المحكمة المختصّة بمحاكمتهم في شقّها اللبناني، متناسين أنّ مجلس الأمن يمكنه استصدارها دولية خالصة مشمولة بالبند السابع. و اليوم "ارتأوا" "تقليم" مجلس الوزراء في لعبة تصفية إجرامية متسلسلة تبتغي فرط عقد الحكومة اللبنانية. للأسف الشديد إنّ الذين هبّوا لحشد طاقاتهم و استنفار محازبيهم، ليستكملوا إلتفافهم على مفاتيح الحكم بإمساك الثلث "المُحبِط"، شكّلوا تغطية مفضوحة للحلقة الجديدة من مسلسل القتل، أذهلت اللبنانيين. و إذا شاءوا إثبات شيء من حسن النية فبإمكانهم العودة عن الإستقالة ل"يصدّقوا" ما أقروه سابقاً و يبرموا قانون تنظيم و هيكلية المحكمة المختلطة و يعتكفوا إن أرادوا بعدها. هل خضّ الأوضاع السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية يصبّ في مصلحة اللبنانيين و هم لم يتعافوا بعد من إصاباتهم البالغة بحمم الحرب الصيفية؟ و ما سر تزامن التحركات المطلبية في لبنان مع إدعاء روسيا في مجلس الأمن ان قيام المحكمة يزعزع استقراره؟ فمن زوّدها بهذه المعلومات؟ و لماذا إعترض النظام السوري على استعجال تشكيل محكمة دولية-لبنانية مشتركة و أعتبر أنه غير معني بمقتضياتها و أحكامها؟ و لماذا يتوعد مسؤول إيراني ب"إسقاط" دولة كبرى في لبنان و تكرر "رعيته" هذا التهديد؟ و حتى متى يستمر التحالف الإيراني-السوري في "تموين" و"تغذية" و "تنمية" "دويلات" في أحشاء الوطن خارج و داخل "رحم" الدولة اللبنانية؟ لا بد من الإحتكام إلى العقل و الضمير لتعميق الحوار بين مختلف الفرقاء اللبنانيين والكشف بصراحة و نزاهة عن خطط المستقبل التي لا بد أن تتكامل متى صفت النيّات. و يجب وضع التفاصيل في خدمة الأهداف الوطنية السامية، لا الإنزلاق في مماحكات تفصيلية حامية يحجب ضبابها المبادىء الكبرى. اللبنانيون بأمس الحاجة إلى الإستقرار بسلام و الطمأنينة لمستقبلهم و كل من يعاكس هذه الغاية و يعكّر عيشهم يصبح منبوذاً. فرفقاً بهذا الشعب و تقديراً لتضحياته و إجلالاً لشهدائه دعوه يعيش بأمان و سلام و وئام. لتكن فترة الحداد هذه فرصة تفكير و تأمل و صلاة و هدوء، كما أوصى في ذروة تألمه الوالد المفجوع باستشهاد ابنه، الرئيس الأسبق الشيخ أمين جميل، علّ المسار، المفضي إلى الخير العميم، ينقشع أمام البصائر، فتتبدد الهموم و يحل الصفاء و يحلو العيش و يُكرم الشهداء بالوفاء لأمانيهم.
تغمّد الله روحي الشهيدين الشيخ بيار جميل و مرافقه سمير شرتوني بواسع رحمته و ألهم عائلتيهما و محبيهما الصبر و السلوان.

*مهندس و اكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٤.١١.٠٦

إحتراماً لنباهة العقل و إحباطاً لتضليل الإستتباع

حميد عواد*


يستعر السجال السياسي في لبنان من إستثارته ب"إشعاعات" التخصيب النووي الإيراني، المستولِد تصدٍّ دولي مضطرم، و من شحنه ب"توهّج" توتّر النظام السوري من جرّاء "مراودة أشباح الضحايا"، كوكبة الشهداء المستصرخة و المستحقّة عدالة دولية المحراب و المعايير.
يزداد القلق مع إستشعار حراجة الظرف و يُستشفّ حياكة مؤامرة بزيّ المطالبة ب"حكومة وحدة وطنية" (و قانون إنتخابي راقد في إنتظار بحثه) يحمل ألويتها "الممسوسون بالتشعع" على "صهوات جيادهم" ملوّحين بإستعراض فصائلهم "لإستحداث" التغيير.
ب"تواضع" "المتألّهين" يطلّون على "المسحورين" ب"تنبُئِهم" إستمطار الخيرات بعد استمطار "حمم النار" و إستجلاب الخراب، مبّشرين بإعادة إحياء "مملكة النخاسة" التي ساهموا في ترسيخها سابقاً.
بوقاحة الفاجرين يشرئبّون لإجهاض إستعادة الحرية و السيادة و الإستقلال، ثمرة صمودنا الوطيد و نضالنا العنيد و تضحياتنا الجليلة. ولولا إستنفارنا الحثيث لتحفيز الدعم الدولي و استجابة الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا و حلفائهما، لما أمكننا البدء بتثبيت قرارنا بعد طول إغتصاب، و ترسيخ إستقلالنا بعد حقبة مريعة من الإستلاب. لنتذكر كيف تبلسمت جراحنا لمّا إنضمت إلى موكبنا الأستقلالي جماعات طالما انتظرناها، خرجت من غياهب الضلال و إهتدت إلى دربنا المضيء فإزداد تألّقاً و إشراقاً. لكن و خلال السعي لإستمالة المزيد من القابعين في العتمة، مدّ لهم فريق سيادي أصيل أذرعته للعبور من الظلمة إلى النور، فوجد نفسه عالقاً في منزلة ما بين المنزلتين. لا يغيبنّ عن بال أحد أنه لولا إصرار المجتمع الدولي على استنهاض لبنان من كبوته، و مثابرته على تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي بدءاً من القرار 1559 وصولاً إلى القرار 1701 لما سحب النظام السوري جيشه من لبنان (في 26 نيسان 2005) و لما أوقفت إسرائيل قصفها، رداً على عملية "الوعد الصادق"، (من 12 تموز إلى 14 آب 2006) و سحبت جيشها من مواقع احتلّها داخل الأراضي اللبنانية. لقد رُفع الإلتزام الدولي من مرتبة إحاطة لبنان بمظلّة دبلوماسية إلى دعم ميداني لجيشه بقوّات أممية بحرية و برية و جوية. هذه الدرع كفيلة بردع أي مغامرة عسكرية تستهدف إختراق لبنان. رغم ذلك و رغم "تطمينات" و "كفالات" حلفاء المحور السوري-الإيراني، التي لا يركن إليها، ما زال "طيف" النظام السوري ماثلاً في لبنان عبر المرتبطين به و "حنينه" إلى "المُلك" لم يذوِ. لقد بلغ الذروة قلق هذا النظام من أُزوف موعد تشكيل محكمة دولية مختصّة بالنظر في التهم التي سيوجهها القاضي سرج برامرتس، المحقق الدولي المكلف بإستقصاء حيثيات مؤامرة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، و التي استشهد فيها إلى جانبه الوزير باسل فليحان و لفيف من صحبه و حراسه. هذا القلق تعكسه تصريحات أركانه و توقهم الدائم إلى إستحضار محمد زهير الصديق و استشفاعهم بتدخل روسي للحدّ من صلاحيات المحكمة و لنقل عروض "تأدية خدمات"، كما تظهره الإستعانة بخبرات رجال قانون من جنسيات متعددة لدراسة تقارير المحققين الدوليين ديتلف ميليس و سرج برامرتس و استقراء مفاعيلها. علماً أن الأخير اتسم بالتكتم و لم يكشف أكثر من عناوين لحصيلة تحرّياته بعد. هاجس النظام السوري هذا، دفعه إلى الإلحاح في تحريض حلفائه اللبنانيين على تصعيد ضغطهم ضد الحكومة اللبنانية و التهديد بتسيير الأنصار في الشوارع لإسقاطها إن لم يُستجب المطلبان الذريعتان لإفتعال القلاقل في ظروف إستثنائية "ملبّدة" بمخزون متجدد من شحنات(المساعدات) صواريخ تشتريها إيران(آخر صفقة من روسيا) لتسريبها إلى لبنان. في ظلّ "محاصرة" إيران بطلب مجلس الأمن وقف التخصيب النووي و التلويح بفرض عقوبات عليها، ثم تخبّط النظام السوري في هاجسه، لم يكتفِ الثنائي ب"المونة" على "منتدى" عين التينة و "معتكف" بعبدا، بل "يطمحان" إلى "إختراق" أو "كبح" الحكومة لتعطيل قرارات مفصلية مستحقة. منها تنفيذ أحكام القرار 1701 و إبرام صلاحيات المحكمة الدولية التي نخرت مسودّة قوانين إنشائها ملاحظات "العين الساهرة" في بعبدا. و ظاهر للعيان هذا السباق المحموم بين الضغط نحو التغيير "الضابط" و بلورة صيغة المحكمة الدولية التي تقضّ مضاجع "الأبرياء". و لافت جداً حصر "عيدية التشاور"، المغلّفة بالتهديد، ببندين "ملحّين" لا ثالث لهما، و كأن "ترياقهما" يشفي المريض "المحتضر" بومضة عين متى "جرّعه" أيّاه "خبراء" العقاقير. و الفاضح أيضاً هو قُصر فترة "صلاحية" هذه "الوصفة" و البدء بالعدّ العكسي حالما تأجل موعد الشروع بجلسات التشاور فترة أسبوع. يوم تشكيل الحكومة أعربتُ عن انتقادي فشل اشراك التيار الوطني الحرّ بحقائب أساسية فيها، لكن فورة اليوم لا تُبرَر "بفجائيتها و إلحاحها" بل تلتصق إلتصاقاً وثيقاً بمحاولة إحباط تشكيل المحكمة الدولية و إجهاض استكمال تنفيذ متطلبات القرار 1701 و إجهاد لبنان إقتصادياً بتجفيل المستثمرين و تيئيس اللبنانيين و نسف مؤتمر الدول المانحة باريس-3 . في أحرج ظرف ضمّن مجلس الأمن القرار 1701 النقاط السبع التي أقرتها الحكومة اللبنانية بالإجماع و أغدقت الدول العربية و كوكبة من الدول المانحة مساعداتها للبنان و ذلك كعربون ثقة و دعم لأسلوب الرئيس السنيورة في تحمل أعباء مهامه و تضامناً مع لبنان لإنهاضه من محنته و مواكبته في مسيرة تعافيه. واضح لمن يسمع و يعي تصريحات المسؤولين الدوليين مدى التقدير الذي يكنّونه للرئيس السنيورة و الحرص على سلامة و سيادة و ديمقراطية و استقلال لبنان. لذا فإن الداعين إلى فصل لبنان عن "الوصاية" الدولية "الحرام"، يستهدفون استفراده من جديد لسوقه إلى "حظيرة الوصاية الثنائية الإيرانية-السورية" "الحلال". و شتّان ما بين العزّ في رعاية "الحرام" الدولي و الذلّ في قهر "الحلال" السوراني.
لقد حان الوقت لتتنادى النخب اللبنانية الأصيلة فيجتمع شمل حكمائها ليولّدوا طاقة فكرية راجحة تهدي الضالين إلى الرشد، و يكوّنوا قوة قيادية مرموقة تردع المتطاولين على الحريات و السيادة و الإستقلال و تستقطب حولها حشود الأبرار و الأحرار الضنينين بعزّتهم و رفعة وطنهم، و الحريصين على انتشاله من منال الطامعين الإقليميين و سحبه إلى الفلك الدولي الرحب خارج حقل التجاذب الإقليمي الخانق.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية