١٤.٨.٠٩

تحت وطأة قسر السلاح و كابوس السياسة هل من "عودة" للمهاجرين أم هجرة للمقيمين

*حميد عواد

الإنسان الفاضل و المناقبي و الواثق و النزيه و الحكيم قلما يخطئ و إن إنزلق إلى الخطأ لا يتجاوز حدود الجنحة ليسقط في مهاوي خطيئة الجناية في حق مجتمعه. لذا إن أساء إمرؤ لنفسه و لمجتمعه و عمل على تصحيح خطئه و إصلاح الضرر يُحمد مسعاه، أما أن ينقلب على قيم نبيلة طالما آمن بها و يتنكر لمبادئ سامية إعتنقها و أجمعت على تكريس حقها الأمم المتحضرة و الإنسانية جمعاء فهذا إنحطاط يذكرنا بقول أحمد شوقي:
و إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
في ظلّ الفوضى و التناحر و الهيمنة على الأرض و القرار نما في لبنان فطر سام تغذيه سياسة ملتوية و مرتهنة أسقطت الكثير من القيم. رغم "إبعاد" مصادر أساسية لسموم التفرقة تفرّعت عنها عروق بقيت تعلّ صحة الوطن و تحبط نهوضه. و شُكّلت أحلاف ممسوخة "صهَرها" وهج قوة السلاح لخلق شروخ تسلخ جلد الوطن عن لحمه و تحلل كل الوسائل لبلوغ الهدف. و وصلت "الماكيافلية" حدّ ترويج إستغلال مراكز العبادة و المناسبات الدينية من قبل سياسيين لتسويق الكيد السياسي و الزندقة الدينية المضخوخة في قوالب عظات.
أن عزّة النفس و إحترام الذات تنأيان بصاحبهما عن ممارسة أو مشاهدة طقوس الشعوذة و الدجل. لقد سبق أن إستغلت هكذا أماكن لإبرام إتفاقات عشائرية يخطط لتكرار مثلها، ربما تيمناً ب"عامية إنطلياس" لكن خارج روحيتها و ظروفها، كأن أطرافها يعيشون حقبة جاهلية و يمارسون عادات قبائلها فيما الكنف الطبيعي للتوافق الجدي و المتين بين شرائح المجتمع في عصر التحضر و الحداثة هو مؤسسات الدولة.
لكن ما الحيلة و بعض أشاوسة السياسة يتبجح بقطع "حبل الخلاص" مع دول طليعية، رائدة في النهوض و التطور و التعمق في آفاق العلم والثقافة، ليربط لسانه و "حاشيته" بأنظمة شمولية منقبضة على مواطنيها لإخراسهم و عزلهم عن العالم الخارجي و وأدهم في كهوف التخلّف و أنفاق العبودية.
تماشياً مع هذا النمط المهين عينه يتعامل محتكرو السلطة الشمولية في إيران و سوريا النازعة إلى التفشي في الجوار مع حلفائهم في لبنان بصرامة، فارضين عليهم الطاعة المطلقة و التماهي في خططهم.
لذا مؤسف و معيب أن يندفع أحد السياسيين المنتصبين في وجه هذا التمدد الخطر، بسبب "توعّكه" و "إمتعاضه" من "إجحاف" طال "نصيبه" من مواقع السلطة و "أضعف" رصيده، إلى "قلب الطاولة" على حلفائه، مصعوقاً بذعر "قسر" و "جهوزية سلاح" للإرتداد و التصويب نحو الداخل، و يخطو بإتجاه الإرتماء في أحضان الذئب نكاية و "توقاً للأمان!" علّه يطمئن و يعزز موقعه "الجديد" و حصصه.
لقد كبتت سابقاً "رهبة" السلاح "المنبثق" من الحلف الإيراني-السوري نزعة الحرية و الإستقلال لدى فريق سيادي عبر "إغواء" و تلقف "قطب جذب" في شراك شباك العنكبوت السوري و أفخاذ الأخطبوط الإيراني. أما المخاض الجديد فأكثر حدّة و إستهجاناً لغرابة أطواره. و المشهد يتكرر: كلما علقت ضحية في الشرك بدأت "نشوة" الإحتضار بالإنفضاض من خلال فقدان التوازن و الهلوسة و جلد الذات و طعن الأصدقاء ثم إطلاق "صيحات الندامة على إرتكاب خطيئة عظيمة" و تلاوة شعارات جوفاء بائدة مملاة على مطلقيها، مرفقة بتسابيح الحمد و الشكر و المديح تكال لمرتكبي الشنائع و الفظائع.
فهذه هي عادةً طقوس "التطهير" و نكران الذات المرسومة للتمهيد لزيارة "عرين الشبل".
وسط هذه التقلبات ينذهل و يمتعض كل لبناني أصيل و يزداد تشبّثاً بالحرية و السيادة و الإستقلال بينما يثابر "المنذورون" لخدمة مصالح "عرّابيهم" الإقليميين و المكلّفون بإستجرار الصدامات، على إستنزاف الوطن عبر فرض هيمنتهم على بيئتهم و محيطهم من خلال الإستنفار الدائم و نشر اجواء رعب و قلق متجددة تؤمّن لهم "حرارة كافية" ل"ضرب الحديد حامياً" علّهم يلوون صلابة الصامدين و المتصدّين لهيمنتهم.
اللبنانيون بحاجة إلى إستقرار حُرموا منه عنوةً خلال جلجلة طويلة فيما نعِم به من شارك في إعدادها و حاول جدْل عذاباتهم إكليل مجد له.
حان للبنانيين إستعادة كامل عافيتهم للعب أدوار نهضوية أتقنوها فهم رواد نهضات ثقافية و عمرانية و علاقات مميزة في كل أقطار الدول العربية و أنحاء العالم و في مختلف الحقبات و ليسوا بحاجة إلى وسيط أو وصي على علاقاتهم عربية كانت أم أبعد مدى.
يبدو أن "قايين" مسكون بهاجس المحكمة الدولية قلقاً من المضبطة الإتهامية التي ستصدر عنها. فيما يجري ترويج إشاعات و "تسريبات" القصد منها النيل من مصداقية هذه المحكمة ليصوّروها و كأنها مكتبة عامة مفتوحة تقاريرها للشغوفين بالإطلاع على مذاكراتها القانونية. و الهدف هو إغفال واقع أنها موكولة لخيرة من القضاة المشهودي الكفاءات يتوخون كشف الحقيقة الدامغة و في طليعتهم المدعي العام دانيال بلمار، و يحرصون على حماية الشهود و إبقاء مداولاتها و قراراتها بالغة السرية و الدقة و الإتقان، مستندين إلى القرائن غير متأثرين بأمنيات "المهتمين" بخلاصاتهم و الراغبين بتعديلها غِبَّ طلبهم.
أما الإلحاح في إثارة قضية توطين الفلسطينيين يجب ألا تحجب مشكلة الإفراط في ترجيح مبرمج لثقل ديموغرافي معين لما له من أعباء تتعدى طاقة لبنان على الإستيعاب و الرعاية.
فيما لا تكْتم الحكومات المتعاقبة في إسرائيل رغبتها في "إبعاد كأس" عودة اللاجئين الفلسطينيين إليها لا بل تفتش عن سبيل للتخلص من فلسطينيي "الداخل" و إنتزاع إعتراف بيهوديتها، ثبّت المشترع اللبناني في متن الدستور اللبناني رفضاً للتوطين و هذا موقف يحظى بإجماع اللبنانيين و الفلسطينيين و لا يحتمل المزايدات.
أما الحل الشامل وفي صلبه بلورة الدولة الفلسطينية فتعمل عليها الإدارة الأمريكية بالتعاون مع الدول العربية و السلطة الفلسطينية و إسرائيل لإجتراح حلّ منصف. لكن التبني الذي يظهره المحور الإيراني-السوري و حلفاؤه في لبنان و التشدد الإسرائيلي ينبئان بصراع دائم، ميدانه لبنان و مدخله إسترداد مزارع شبعا و مرتفعات كفرشوبا ( التي وعدنا وزير الخارجية السوري بإعادتها إلى لبنان عندما تستردها سوريا من إسرائيل)، يديره عن بُعد أركان المحور فيما يعمل النظام السوري على إعادة إحياء المفاوضات غير المباشرة معها لإستعادة الجولان.
بين إلتهاب و خمود للصراع ينزف لبنان بشرياً و مادياً و نهوضاً. وفيما يحقق معظم اللبنانيين الذين هاجروا نجاحاً مميزاً حيث يقيمون نظراً لإجتهادهم الدؤوب و يمدّون أهلهم و أقاربهم بالدعم المادي و المعنوي للصمود في ديارهم داخل الوطن ( آلاف من اللبنانيين الشرفاء يتضوّرون بإباء بعد شلل أعمالهم وكساد إنتاجهم لسنوات و نفاد مدّخراتهم و "مؤنهم" و دفع فواتيرهم على حساب طعامهم الشحيح، فمن إلتفت إليهم؟) نرى "محظيي الداخل" يغرفون من "النعم" المباحة لهم من المال العام و الخاص و يستغلون النفوذ و الخدمات العامة و أملاك الغير ليكدسوا الثروات المختلسة و الموهوبة و يوظفوها كما يفعل سماسرة "غيلان المال" في شراء أملاك المصابين بالضيق ممارسين لعبة "المونوبولي" (الإحتكار) عل أرض الواقع. خلال ذلك يستشري الغلاء و يكوي الكثير من المواطنين و يفاقم المشاكل الإجتماعية من فقر و جوع و مرض و سرقة و إدمان.
و هكذا يصيب القلق و الإحباط العديد من المواطنين، فينأوا عن مساقط رؤوسهم و يضطروا لبيع أراضيهم و هجر الوطن مفتشين عن بلد مستقر لا يكون جناهم فيه عرضة لمهب الأعاصير و القلاقل.
في هذا الجو المكفهر يمعن غلاة التعصّب و التقوقع في رذل الطائفية و المذهبية و يردّون العلّة إلى النصوص فيما هم ينشئون أجيالاً على ثقافة خاصة و يعودونها على الطاعة العمياء و يركزون أذهانهم على شد أواصر "عصبية قبلية" يغلّفونها بطفرة دعوات إلى الوئام و الإلفة الوطنية لا تخرق "قشرة الشرنقة" لتتسرب فعلياً إلى أعماق الذات. فهل لبقية أبناء الوطن مكان في حساب هؤلاء؟ بالله عليكم، نقّوا النفوس قبل الإنكباب على النصوص!
مفتاح الخلاص يكمن في الإنخراط الصادق و التآلف و التآزر في مسيرة بناء مؤسسات الدولة و تعزيز سلطة القانون و تنشيط الإعلام الرسمي و الخاص و المؤسسات التربوية لتثقيف الأجيال ثقافة مشبعة بالوفاء و الولاء للوطن.
لا فضل للبناني على آخر ألا بمقدار رصيد علمه و معرفته و خبرته و تفانيه في خدمة الوطن. فعسى أن تشكل الحكومة بهذه الروحية لتنطلق في معالجة مختلف أوجه التحديات الإجتماعية و الإقتصادية و المعيشية، و تحديث و ترشيق الإدارة و تنمية الموارد و إستغلال الطاقات و التنقيب عن المصادر الطبيعية الدفينة و حلّ الإشكالات السياسية.
إضافة إلى توظيف القروض و الهبات في تنشيط النهوض، لا بدّ من طلب مساعدة ملحّة من الدول الضليعة في إنتاج الطاقة الشمسية و المائية و الهوائية لبناء شبكة إنتاج كهرباء من الطاقات الطبيعية الوافرة و النظيفة لئلا تُهدر هباءً.
حقّ للبنانيين أن يهنأوا بعيشهم أعزاء في حمى جيشهم الوطني و قوى الأمن و تحت رعاية حكومة زاخرة بالمواهب عالية الجدارة في الأداء و الإنجاز. و حقّ للمغتربين "العودة" إلى الوطن ليشاركوا أهلهم بهجة العيش و نعم العطاء، فإفسحوا المجال لإحتضانهم بدل دفع المقيمين إلى الهجرة.
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية