٢٧.١١.١٠

الإيمان بالوطن ضمانة لخلوده

حميد عواد*

يشتهي اللبنانيّون توفّر الإمكانات للدولة كي تمسك بزمام الأمور وتبسط نفوذها وإدارتها في كل مرافق الحياة الوطنية دون أن يعيقها متطفّل أو منافس ذو مصلحة خاصة، فيشعروا بالإطمئنان والإستقرار و ينعموا بحياة هانئة.
لقد توّجت "ثورة الأرز" مسيرة طويلة وشاقّة زاخرة بالتضحيات النفيسة لأحرار لبنان لحماية ديمقراطية النظام والهوية المدموغة بالتراث الغني والمزيّنة بوسام و مهام الرسالة المميزة التي إنتدب حاملوها لها.
الولاء للوطن و التفاني في خدمة أهله و مؤسساته هو أسمى تجلّيات المواطنيّة.
الوفاء له لا يحتمل إعتناق ولاء مناقض لقيمه ودستوره و قوانينه ورسالته.
فالولاء لعقائد تناقض أسس كيان الوطن هو قنبلة موقوتة تنفجر في أحشائه متى فرض فقه العقيدة ذلك.
لقد تمسّخ الولاء المذهبي عند بعض الجماعات بشكل خطير جعله حشوة متفجّرة تنكّرت بشعار مواجهة الإحتلال لتلهب صراع نفوذ حاد في الشرق الأوسط وأبعد منه و تطلق المجازر الإرهابيّة.
لا يتورّع منحرف الولاء عن إحراق وطن ليقدّمه أضحية لوليّه واضعاً جمره في مبخرة التبجيل وماحياً آثار آثامه كأولائك المتفحّمي القلب والضمير الذين يحرقون غابات أشجار لبنان النادرة والمعمّرة لهوس تخريبي وإستيلائي أو لمجرّد صنع فحم يجنون منه مالاً حراماً.
تحلّ ذكرى إستقلال لبنان في ظروف ملبّدة بالضغوط ومشحونة بالتهديدات لإنكار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ونفض اليد من القرار الإتهامي الوشيك الصدور لأن الفريق اللبناني اللصيق بالنظام الإيراني والحليف للسوري أستشعر منذ زمن أنّ الإتهام سيطاله.
لذا يمارس، مدعوماً من عرّابيه المتوجّسين، شتّى أنواع الضغوط ويثير قضيّة "شهود زور" وخرق إسرائيلي لقطاع الإتصالات لجعلهما منفذاً للطعن في صدقيّة الإدعاء ولمدّهما جسراً لإعاقة عمل المحكمة.
وبما أنّ هذه المماحكات لا تؤثر على عملها المستقلّ يجري نقاش سعودي-سوري ومواكبة إيرانية وقطريّة وتركيّة لإجتراح صيغة عجائبيّة تكبح بسحرها جماح المهووسين بنزعة الهيمنة والمنتشين ب"تفويض مارس(إله الحرب)" والمفتونين برهبة القوّة و "طرب" قرقعة السلاح علّهم يهدأون ويستقرّ الوضع في لبنان.
الولايات المتحدة الأميركيّة أعلنت بحزم دعم الدولة ومؤسساتها والنظام والأطر الشرعية وأوروبا كذلك وفرنسا عرضت "سان كلو 2" للتأكيد على جدّية الإهتمام بالإستقرار في لبنان وللتحذير من خطورة عواقب السلوك الإنقلابي والإضطراب الفوضوي.
لقد ترسّخت القناعة الدولية -وقساوة الوقائع تشهد- أنّ اللبنانيين حُمّلوا فوق طاقة القدرة البشرية أوزار صراعات المنطقة و جُعلوا أكباش محارق الآخرين.
فقد تناوب تكراراً الحاقدون المجرمون على جعل حياة اللبنانيين جحيماً بإثارة الفتن وإفتعال الصدامات وشنّ الإعتداءات ونسف المساعي الحميدة وزهق الأرواح ونزع عوامل الصمود الماديّة والمعنويّة وإغتيال الأمل وفرص الفرج والفرح والرجاء بالخلاص، تسريباً لليأس إلى النفوس.
وحوّلوا مناسبات الحبور والإعتزاز إلى ذكريات مأساويّة منها الإغتيالان المفجعان اللذان غيّبا الشهيدين الرئيس رينيه معوّض والنائب والوزير بيار الجميّل فإنطبعا في الضمائر الوضّاءة مع ذكرى عيد الإستقلال.
الإستقلال منغرز في عقول ووجدان وتوق وسلوك أبناء الوطن النبلاء الأباة المبدعين الوثّابين إلى الخدمة والعزّة والعُلا.
وهو مكرّس في الدستور و القوانين والمؤسسات وفي أدوار مارسها حكماؤه وفطناؤه داخل الوطن وفي المحافل الدولية.
لكنّ إستهدافه وإختراقه بالمكائد المعقّدة والمتتالية المصمّمة من أنظمة دول وتنظيمات عسكريّة مرتبطة بها عرّض الإستقلال لهزّات عنيفة تجاوزها حرّاسه حافظين الوديعةَ لكن مثخنين بالجراح مضرّجين بالدماء مثكلين بالشهداء.
إستقلال لبنان بذلت في سبيله الأرواح الغالية والثروات الوافرة.
الثروات تُحتسب لكنّ المُهَجَ العزيزة لا تُعوّض و رصيد الجهود الغزيرة المصبوبة لدفعه قدماً لا يُقدّر بثمن.
الذات اللبنانية الأصيلة هي لُبُّ الوطن الدائم الخفقان يضخّ في عروقه ترياق العافية وإكسير الحياة ورحيق المحبّة وعصارة الوفاء ومصل الصلابة والمناعة.
إنّها باعث النهوض وشعلة الحريّة وثورة العنفوان وشبكة الأمان.
أمّا الذات الهجينة التي كرّست ولاءها وإيمانها وعملها ونشاطها لخدمة عقائد شمولية تناقض أسس الوطن إنحرفت عن السراط القويم و إنخلعت عن جذعها و صوابها وتألّبت على أبناء وطنها وسلخت دويلتها لتتقوقع فيها.
لبنان جنّة جحد بروائعها القبليّون من أبنائه وسرّبوا إلى مجتمعه وأرضه جفاف الفكر وعصبيّة القبليّة وقحل الصحراء فيما حافظ على يناعه وخصبه وإبداعه أبناؤه الميامين.
إن أصرّ القبليّون على نمط عيشهم ورفضوا الإنخراط في كنف الدولة فهذا تكريس لإنفصالهم.
أمّا أن ينكبّوا على تجفيف واحة الشرعية وتعقيم مؤسساتها ونحر أهلها أو إكراههم على الإنتحار فهذا كابوس مستحيل ينقلب فيه السحر على الساحر.
لبنان المعاصر المشرق على الكون يحلّق بجناحيه (المقيم والمغترب) ويتوثّب نحو مستقبلٍ زاهر متجذّر في تاريخ مجيد وممهورٍ تراثاً غنيّاً محميّاً من صفوة وأحرص أبنائه فلا خوف على تلاشيه في سراب و قحط الصحراء.
نَسْغ الأرز في عروقنا يتمدّد خلدك لبنان في إيماننا يتجدّد

*مهندس وأكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١١.٩.١٠

الخلاص في الوئام و العدل و السلام و الهلاك في الخصام و الظلم و تحريض اللئام

حميد عواد*
ما أبهى مشهدي مأدبة الإفطار الرئاسية و "عامّية المصالحة" بين أهالي بريح اللتين أُقيمتا في قصر بيت الدين تحت رعاية رئيس الجمهورية، و ما أفظع مشهد "واقعة" برج أبي حيدر و جوارها.
في القصر تجلّت روح الوئام و الشراكة، و في تلك الأحياء من العاصمة (و إسمها يشتقّ من "عصمها" عن الأذى و الضيم إمتداداً إلى أطراف الوطن) برزت قرون فتنة أردت ضحايا و أوقعت خسائر و أرعبت الأهالي و وتّرت الأعصاب.
إقتضى الظرف الحرج تحرّكاً نشيطاً لعقد لقاءات هدفها "تطُويق" ذيول الحادث و الإنكباب على معالجتها و كانت "إستدعاءات" من الجوار (المرتبط بعلاقة "عضوية" مع فريقي الصدام) ل"إستعراض الملابسات"، أمّا القضاء فبدأ بإستنطاق المتورّطين في الحادث ليستجلي ظروف حصوله و حقيقة أبعاده.
لكن تفاجأ "المتوجّسون" من الشرور كما "المتوسّمون" ببوارق الأمل بإطلالة "مكلومة" تحمّل مسؤولية "الطعن بالسكّين المملّح" لحامل "القلم" و "الكتاب" و "أختام" رئاسة الحكومة.
تسارعت الجهود للحدّ من تفاقم السجال و رست التهدئة على "فتوى" "القلم و الكتاب مفيدان و السكّين لإسرائيل فقط".
لقد لفتت الإنتباه حدّة هذه الهبّة و بدت كأنّها تأكيد لنيّة فرط عقد مجلس الوزراء و إيذان بتغيير يروّج له لتسهيل قطع "حبل السرّة" مع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
ليس مستغرباً أن يظنّ من نخر نفوذه حرمات القضاء الوطني أيام عهد "الوصاية الطاغية" أن يعتبر أنّ القضاء الدولي قابل للإختراق و الإلغاء.
لكنّ القضاة الدوليّين ليسوا رهائن حكم مخابراتي يحرف بعضهم عن مسار العدالة، بل نخبة حرّة الضمير من متفوّقي الكفاءات و مرموقي الميّزات يلتزمون أدقّ معايير العلم و الفقه و الحنكة و الفطنة و الموضوعية التي ستتجلّى و تثبت خلال ممارستهم مهامّهم و في حصيلة مطالعاتهم.
و هم ليسوا هواة إلتقاط ترّهات و جمع إشاعات و إصغاء إلى خرافات و لا هم حائكو أساطير، فلا تستوقفهم أو تبدّد إنتباههم أو تشرّد أذهانهم روايات مزوّرة.
بل هم علماء تنقيب عن الحقيقة المنطقيّة، يجمعون و يرصفون أجزاءها المتلائمة ليصبّوها على هيكل متين من الأدلّة الدامغة، لذا ما زال المدّعي العام دانييل بلمار يخصّب و يمتّن و يسند "فاعليّة الدليل".
و هو لم ينتقل من مهمّة رئاسة لجنة التحقيق الدوليّة إلى موقعه الحالي إلاّ بعد تراكم كمّيّة هائلة من الدلائل و الإثباتات و الوثائق، جعله التمحيص بها و فرزها و ربط حلقاتها و التوسع بشعابها واثقاً من القدرة على كشف شبكاتها كما أكّد مراراً.
الفتنة ليست في صلب عمل المحكمة الواضحة الهدف بل هي كامنة في ذهن و غرائز الذين يهددون بإثارتها أو نشوبها و ب"دقّ الأعناق" و إمتشاق السلاح.
الهيجان المحموم لن يغيّر المعطيات و الدلائل و الإثباتات و "البصمات" و "فحوى" المكالمات الهاتفية "السرّية" التي أحاطت بعملية الإغتيال.
بل المقصود منه إثارة إعصار من الترهيب يُتوخّى منه حصار و إكتساح و شفط بقيّة مصادر السلطات و "إجتثاث" المحكمة و قضّ مضاجع اللبنانيين و إستنفاد صبرهم و إستهلاك صمودهم و إستسلامهم لليأس و تهجيرهم من وطنهم.
إنّ تجريد اللبنانيين من حريّة قرارهم و سيادتهم و رفاههم و حقوقهم و ممتلكاتهم و إقتلاعهم من جذورهم لقذفهم في لجّة دوّامة القلق و التشرّد و العوز هو أفظع أساليب القتل الجماعي.
حقّ المواطن البديهي في العيش بأمان موفور الكرامة حرّ الإرادة و سيّد القرار، بات حاجة ملحّة برزت من غمرة الإغفال و وطأة قهر السلاح فارضةً على المهتمّين بأمره إيجاد سبيل لإعتاقه من أسره الطويل رهينة لِعبث و فورات المنقلبين على النظام.
هذه القضيّة الحيويّة ترتبط بهيبة الدولة التي يعوّل عليها غالبية المواطنين لحمايتهم و رعاية مصالحهم و ينخرطون بشغف في خدمتها و توطيد صروحها.
لكنّ الجهود البنّاءة يجهضها معاكسة الإنقلابيّين الذين يعملون على إسقاط كيان الوطن من مرتبة دولة مدنيّة ديمقراطيّة، مكتملة السلطات و المؤسسات و عريقة الحضارة و خلاّقة الدور و متميّزة الحضور و الشراكة إلى جانب بقيّة الدول، لينحطّوا به إلى درك ولاية مسلوبة السيادة يتحكّم بها رعاتهم الإقليميّون.
لذلك نرى هذه الأذرع منكبّةً على خنق مؤسسات الدولة بالقوّة و الفرض و على توسّع "الإنتشار" و إحباط النهوض و إجهاض الإنتعاش الإقتصادي تحت ذرائع متنوّعة محورها التصدّي لإسرائيل و ضعف إمكانات الدولة الدفاعية.
هذا النفوذ المعيق حفره و جهّزه و مدّه بالسلاح و المال و الدعم التنظيمي و اللوجستي المحور الإيراني-السوري ليغتصب السيادة بإغتصاب ولاء معتنقي خليط مذاهبه و عقائده.
إقتناء السلاح خارج كنف و إمرة الدولة ينهش سلطاتها و يغتصب إرادة المتمسكين بمؤسساتها و يفتح الثغرات لرعاة الإنقلاب كي يتدخّلوا و يديروا شؤون الوطن حسب مقتضيات مصالحهم.
و هؤلاء يصرّحون بإعتزاز أنّ "فرسانهم" في لبنان و فلسطين و العراق هم طلائع جبهة الصدم في مواجهة أعدائهم، فيما هم "يخوضون حروبهم المباشرة" بالخطب الناريّة و المحادثات الدبلوماسيّة يحصدون بنتيجتها عقوبات إقتصادية و مالية و حظراً للتكنولوجيا و أحياناً مكاسب، أما "خوضها" عندنا فيكون بالنار و الدمار و الضحايا.
إنّ مزعزعي النظام اللبناني و محركّي جبهة التماس اللبنانيّة عن بعد يقبعون آمنين داخل حدودهم و يسترون عوراتهم و يبتزّون المكاسب على حساب ويلات اللبنانيين.
يسوّقون أنظمتهم الشمولية القمعية كبديل "مستقرّ" للنظام اللبناني الديمقراطي "المهتزّ" ب"شفاعتهم" و يحاولون طمس مسئولية إحتلال أراضي شبعا و كفرشوبا التي كانت خاضعة للسيادة السورية لمّا إحتلّتها إسرائيل مع الجولان (لقد تكرّم مشكوراً وزير الخارجية السوري مرّة بالقول أنّه سيعيدها إلى لبنان بعد إسترجاعها مع الجولان عبر المفاوضات مع إسرائيل).
مشكلة "التوجّس" من مستبطني "التقيّة" تتجسّد في خطورة التحرّكات الميدانية و تقييد حركة ممارسة السلطات الشرعيّة و خنق الدورة الإقتصادية و إعاقة مشاريع التنمية.
الولاء الوطني و العدالة هما مطهر و مصهر أمّا تخطّيهما قهراً فيوصل إلى جحيم.
محكّ الصدق في بناء قدرات الوطن الدفاعيّة هو تجيير كل الإمكانات العسكرية لصالح و لقرار الدولة الجامع.
الدفاع عن الوطن في الملمّات واجب يمليه الضمير الحيّ و يلبّي نداءه كلّ مواطن مخلص، لكنّ الخلاف حول الإستراتيجية الدفاعية هو أرجحيّة المرجعيّة المفروضة من الواقع الميداني، فيما المتفق عليه هو حصرية مرجعية الدولة الواردة في البيان الوزاري و هي المبدأ المعهود في النظام الديمقراطي.
كما انّ المتّفق عليه في إتّفاق الدوحة عدم إستخدام السلاح و العنف لفرض تغييرات سياسيّة.
الشأن الدفاعي ليس المطلب الوحيد المحقّ الذي يُستغلّ لِمَرامٍ خاصة و هي هيمنة فئوية مجيّرة، فهناك شعار دعم القضيّة الفلسطينيّة و رفض التوطين (الحاظي بإجماع عليه و ذكر في متن الدستور، أمّا الجدّية في منعه تبدأ بخطوة تمهيديّة توصل إلى الضفة الغربية و غزة) اللذين يبطّنان إدامة النزاع عبر جهوزيّة جبهتي لبنان و غزّة و "تيقّظ" العين الساهرة على جبهة الجولان و إمداد الترسانة الإيرانيّة.
إشاعة أجواء الإستنفار تبغي إستقطاب الجماهير المشحونة تأييداً لأصحاب و مدّعيّ الخيارات العسكرية و تأليباً على المراهنين على المسارات التفاوضية.
لقد إستفاد أولائك من تعثّر المفاوضات السابقة لتدعيم حجّتهم، و نعوا مسبقاً المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية المباشرة التي أطلقها بالأمس الرئيس الأميركي باراك أوباما.
التحدّي هائل، لكن إذا صفت النيّات و إستُخلصت الدروس و إستُقيت العبر من مداولات جولات التفاوض السابقة لهان تسديد المباحثات الجديدة نحو بلوغ حلول منصفة، فيُسفّه الموتورون و يُدحض تحريض مولّدي الإرهاب السافر و المقنّع، و تُستأصل مصادر تمويل الجزّارين أو تجفّف مؤنها و يسود صوت الحكمة و إحترام القيم الإنسانيّة.
الرئيس أوباما متحمّس لحلّ هذه المشكلة التي إستعصى فكّ عِقدها على مدى عقود إستولدت خلالها حروباً قاسية فادحة الخسائر و تشعّب ضخّ شحنها و إعتصرت أنواؤها شعوباً عديدة. لذا ممنوع الفشل لإنّه كارثة شاملة الأذى يجب تفادي حصولها.
و لا بدّ لفريقي التفاوض من الإعتبار من مرارة المآسي و التبصّر في تفاقم عواقب التعنّت و الجموح و إدراك أهميّة و فوائد السلام فيبنيا صرحه بالتعاون مع الرئيس أوباما و يتكرّس بذلك ذكر إسمه و إيّاهما كصنّاع سلام تاريخي و يكون وفّى قسطه للعلا و وفى رصيد جائزة نوبل للسلام الذي "سُلّف" إليه تيمّناً بتوقه إلى و دأبه على إحلال السلام في العالم.
بورك زارعو الخير و التسامح و الوئام و السلام و نجّى الله البشر من شرور المستبدّين و تضليل المشعوذين و جموح المجنونين و ذلّ المتزلّفين هادياً إيّاهم إلى السراط المستقيم.
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٨.٧.١٠

وأد الفتنة لا المحكمة

حميد عواد*
منّى اللبنانيّون و أركان سلطات الدولة النفس بموسم إصطياف عامر تحييه مواكب المغتربين المتوقّدي الشوق للعودة إلى "مهبط الوحي" و "مرقد الروح " و "مهجع الوجدان" و "منتزه النظر" و "حضن الحبّ و الحدب و الحنان" يسابقهم إليه حشد من السّيّاح المدمنين على طيب المأكل و المشرب و لذّة الترفيه و روعة الطبيعة و صخب فرح الحياة.

لكن هذا الإندفاع كبا، إذ كبحته روادع أمنيّة مقلقة تنذر بالأدهى بدأت بإنكشاف جديد لثغرات أمن المطار لتتوّجها تهديدات محترفي الحروب التي خرقت "جدار الصوت" و صفحات الإعلام و صعقت أعصاب اللبنانيين الآمنين مشحونة بالتشنّج الذي أزّم المواقف و وتّر الأجواء.

يتساءل من ينشد السلام للبنان - و هم يعرفون الجواب ضمناً- لماذا يشرئبّ مثيرو القلاقل و مروّجو الفتن عند كلّ إنطلاقة نهوض و تعافٍ و عند كلّ إستحقاق "حسّاس" يتعلّق بالوضعين الداخلي و الإقليمي ليعلنوا أنّ لبنان رهينة بطشهم و ترهيبهم شاهرين (إلى جانب سلاحهم) لائحة مطالب متصاعدة يبتزّون من خلالها إستجابةً محليّة و دوليّة و إذعاناً جديداً لبسط هيمنتهم بالأصالة أو الوكالة؟

لماذا البديل عن وقف حرب القذائف الهابطة و الصاعدة هو دائماً حرب الإنذارات الواضحة و المرمّزة، المنطلقة و الوافدة؟

و الغريب عندما يتلاقى إنذاران متقابلان على مضمون واحد يتأرجح تعليله بين "فتنة" أو "نصيحة" حسب موقع قائله!

و الفتنة تُحبط عندما تُفضح مقاصدها و تُبرز مخاطرها و تُفهم عواقبها، فتُضبط الغرائز و يُحكّم المنطق. أمّا المستهجن أن ينزلق "مكتشفها" إلى مهاويها و "يفعّلها" من "جانب واحد" (مستخدماً تفوّق قدراته!) متجاهلاً رفض "الجانب الآخر" لهذه "الدعوة" .

لقد برزت إرادة التعكير منذ إعتراض "قوّات اليونفيل" في الجنوب و تعاظمت مع الهجوم المركّز على المحكمة الدولية الخاصة بلبنان و إثارة ملاحقة "شهود زور" ( تذكّر ببعض "المتطوّعين" الذين خُيّبت عروضهم كهسام هسام الذي "بكّر بمعاينة" مسارح التفجير و تاق إلى الظهور في الإعلام قبل أن يؤوب إلى قنّه كالحمامة الزاجلة) و إعتبار تسجيل المكالمات الهاتفية باطلاً لربطه بقضية التجسس على الإتصالات من قبل المعنيين بتسريبات إعلامية مضخّمة تخمّن مضمون القرار الإتهامي للظنينين بإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري و الجرائم الأخرى المرتبطة به الذي سيصدره المدعي العام دانيال بلمار.

لقد بلغت جسارة التأويلات الصحفية حدّ محاكاة محاكمة علنية تحيد بالتهمة عن جهة لتلصقها
بجهة أخرى ربّما إنطلاقاً من مؤشّرات بعض الإستدعاءات.

إن تداول إستقراءات القرار الظنّي علناً مرفقاً بإدّعاء التسرّب إلى مكمن السرّ المكتوم في فكر
بلمار هو "طبق" لطعن لاحق و تعليل لإدّعاء عيب في محصلة التمحيص في هذه القضيّة إن صحّت التوقّعات.

طرح القرار الظنّي في بورصة التجاذب السياسي المحلّي و الإقليمي هو إستغلال عقيم فاشل "يسهم" فيه "المضاربون" لإفتعال "إغراق" المحكمة التي ستخسئ رهاناتهم بجلاء الحقيقة الكاملة المدعومة بالأدلة الدامغة و البراهين القاطعة و التعليل القانوني المبرم بمهارة.

الشهداء هم أهمّ الشهود في محاكمة المتورّطين في إغتيالاتهم، شهاداتهم أدلوا بها لمّا كانوا أحياء أمام الناس و أسرّوا بخفاياها لأخصّائهم.

أهل الشهداء لا تأكلهم شهوة الثأر و كي يسامحوا يجب أن يعرفوا دوافع المجرمين و هوية من يصفحون عنهم. لذا يمكن وأد الفتنة دون وأد المحكمة.

إنّ القضم المقسّط و المتدرّج لسلطات و مؤسسات الوطن من جانب فريق تفرّد بتنظيم كيانيّة خاصّة تطمح إلى تهميش الآخرين و الإستئثار بحيّز أوسع من السلطة و القرار، يتلبّس أشكالاً منوّعة و يلج منافذ متعدّدة و يحاول رجاله جرف كل من لا يرفد نهجهم.

دول إقليمية تسعى إلى تحقيق مكاسب و بسط نفوذ لها و حماية و تعزيز "أمنها" على حساب أمن و حرية و سيادة و إستقرار الجمهور الإستقلالي في لبنان.

هذا الجمهور العريض المستهدف من الداخل و المحيط الإقليمي بحاجة إلى تضافر جهود أبنائه و دعم الدول الصديقة لدعم صموده و صدّه للضغوط الداخلية و الخارجيّة.

يجب إحباط مساعي التوتير و إجهاض التدابير الميدانية التي يستشفّ منها شقّ الطريق لعودة الجيش "الشقيق" "للجم شبق حلفائه" (و في طليعتهم من نأى عن هذا التصنيف تمويهاً) فيما تراود قيادته رغبة جامحة لإستدراج العروض من زوّار نافذين آتين إليها.
*
مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٧.٧.١٠

كثرة الإلتهام و "الإنتفاخ" تبْقُرُ البطون

حميد عواد*

ليكون المواطن جديراً بممارسة حقوقه و قديراً على النهوض بمقتضيات مسؤولياته يجب إعداده بحدب و عناية من خلال تربية مدنية راقية تجعله فخوراً بتراث وطنه و مؤمناً بعدالة و شمول خيور نظامه و متفانياً في خدمة مجتمعه و توّاقاً لرفع شأنه و وفيّاً في ولائه، فيتآلف المواطنون بقوة جذب هذه الوشائج المشتركة. لكن متى برز خلل و خلاف جوهري في الشؤون الوطنية و عجز المنطق و الحكمة عن ضبط الأمور و معالجتها حدث نفور و ثبور.
لبنان وقع في المحظور تكراراً فلاكته الصراعات التي أنهتكه و غلّبت الأهواء الهجينة على حساب الولاء الوطني ففكّكت العرى بين شرائحه و شرخت فريقاً تفرّد في شدّ عصب أفراده و لم ينسجم أو يندمج في جهود ترميم روابط المواطنية التي بدأت منذ إتّفاق الطائف و إكتسبت زخماً إضافيّاً و صهراً خلال مآسي الإغتيالات.
و حيال مخطّط ترجيح الثقل بالإفراط في الإنجاب، رغم الإكتظاظ و ضيق الحال و خطر الإختناق و الجوع و المرض، و التمدّد البشري "الناشط في النموّ" على مدى جغرافية الوطن الجارف لمواطنين أنهكتهم الضغوط، و التمسّك بالسلاح تحت راية ثالوث رُكّب لإضفاء شرعيّة عائبة، لم يعد للشراكة الوطنية مجال أو معنى و لم تعد آليّة العمل الديمقراطي مجدية لأنّها أُجهضت في دساكر مكتظّة بالبشر المختلفة بالشكل و المتماثلة بالبرمجة التي طُبعت في الأذهان.
الجهود الحثيثة للملهوفين على الهيمنة الشاملة و على إلصاق أهل الوطن "بشباك عناكبهم" تتوالى تارة بوضوح بالضغط السياسي و العسكري و تارة مستترة بنوايا مبطّنة لإلغاء طوائف في معرض "إلغاء الطائفية" و "ضخّ الدمّ الفتيّ" "الخصيب" في جمهور المقترعين.
و قد أثار تواصلها قلقاً بالغاً لدى الفئات المستهدفة و إعتراضاً حازماً على تفاقمها و رفضاً قاطعاً لنتائجها و عزماً وثّاباً لفضح و إفشال مخطّطها الخبيث.
و كي تتكسّر النصال على النصال "صوّب" "روبن هود العروبة و فلسطين"، التائب على رمياته السابقة، سهامه على هدف يثير مخاوف التوطين المرفوض مبدئيّاً و دستوريّاً، بإسم قوننة حقوق "مدنية" للفلسطينيين المقيمين في لبنان من تملّك و عمل و ضمان صحّي وتعويض نهاية الخدمة.
و القصد من هذا السهم إصابة مزدوجة: أوّلاً، جعله إسفيناً يُدقّ لفصل فريقي الصفّ الذي تركه و ثانياً تسجيل نقاط "حسن سلوك" لحشر و عزل و تأليب الفلسطينيين على الفريق العصيّ على الخضوع لرعاته الجدد.
و الغريب أنّ "روبن الطوباوي والطاهر" المدّعي النسيان و المسامحة بخصوص واقعة أليمة منطبعة في ذاكرته، لا يكفّ عن إجهادها بالغوص في أحداث ماضية للتغنّي "بأمجاد و مآثر" بائدة و إنتقاء فواجع منفّرة تجاوزها الزمن يثيرها ليفتري و يغمز من قناة القوم المحبب إستهدافهم حتّى في سياق تعزية.
و فيما يحضّ أهل الشهداء على التخلّي عن بحثهم عن الجناة عبر محاكم القضاء "يبشّرهم" أنّ الإغتيال قد يُستأنف!
إنّ إغفال معاناة اللبنانيين و القفز على الحبال ( أو الحفافي) و التهالك على إستدرار عواطف الفلسطينيين لجعلها دعامات للمواقع المتداعية هو إستخفاف بعقول الناس.
المعروف أنّ مهمة "غوث الفلسطينيين" منوطة بوكالة الأونروا و بمساعدات الدول العربية الغنية، أما تحميل لبنان فوق طاقته العاجزة عن إطعام بنيه راهناً فهو مبالغة مستحيلة و قصم لظهور اللبنانيين.
العمل المثمر يتجسّد بمساعدة لبنان لتأمين الخدمات الأساسية لأهله و للمقيمين في ربوعه و بمساعدة الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم و كخطوة أولى إنضمامهم إلى أشقّائهم القاطنين في الضفّة و القطاع و إلاّ تأمين إستضافة لائقة لهم في بلد(ان) فسيح(ة) الأرجاء قليل(ة) السكّان وافر(ة) الثروة خارج لبنان.
في إنتظار الفرج يساهم لبنان، قدر إمكاناته المتواضعة، في تسهيل معيشة الفلسطينيين.
ليت الساعين إلى إبتلاع لبنان يستخلصون العبرة من خبر مصوّر عميق المغزى يبيّن أفعى إنفجر بطنها إثر إبتلاعها تمساحاً فتيّاً في محمية في فلوريدا.
لكنّ النهم لا يبشّر بالإنحسار، و التململ بلغ ذروته في صفوف الموضوعين على مائدة الإلتهام فبرزت إنتفاضة "حكماء التيّار" و لو متأخرة و إنسحب اللواء نديم لطيف بمرارة. و هو الأب الروحي العطوف والقائد الميداني الصّلب للتيّار الوطني الحرّ أيّام النضال السلمي في مواجهة الهيمنة الجائرة. عفّته و مناقبيته دمغتا شخصيّته و سلوكه فسما بالواجب و الكفاح الوطني إلى مرتبة الرسولية الطاهرة. خروجه من التيّار هو خسارة رصيد نفيس و دلالة على جنوح خطير عصي على العلاج.
تشويش أذهان الضحايا و تلقفهم مشتّتين في دوّار التفرقة هو التحضير لإصطيادهم بسهولة. كذلك إنشاء منظّمة أو حزب ل"تأطير" الأتباع و خطف قرارهم لتجييره أو تأجيره أو بيعه هو عمل رائج يستفيد منه القوي للسيطرة على الضعيف. و في السياق عينه يجري نصب الكمائن لعزل الخصوم و إستفرادهم و الإيقاع بهم.
إنّ تقطيع أوصال الغرماء لا يقتصر على العلاقات الداخلية بل يشمل علاقات اللبنانيين مع الدول الداعمة لنظامهم الديمقراطي و حريّتهم و سيادتهم و إستقلال وطنهم. علاقاتهم مع قوات الطوارئ الدولية كانت مستهدفة في الجنوب.
لقد إنتُدبت هذه القوات للمهام المنوطة بها حسب قرار مجلس الأمن 1701 و فُوّضت إتّخاذ التدابير الضرورية في مناطق إنتشارها (المادة 12) لمنع أي نشاط عدائي (وُجّهت إليها تهديدات بإستهدافها "مجهولة" المصدر) و لمقاومة أي محاولة قسرية لمنعها من تأدية المهام المكلّفة بها (قطع الطرق عليها و رشقها بالحجارة).
إذن لمصلحة مَن التعرّض المباشر لهذه القوات و إفساد علاقاتها الطيّبة و النافعة مع سكّان الجنوب و خرق بنود القرار المذكور الذي أوقف الحرب و أمّن الهدوء و ضبط التحرّشات و ردود الفعل؟
هل الهياج ألهبه إصابة "عصب حسّاس" دفع إلى التشكيك (زكّاه الإعلام الرسمي السوري!) في نقل هذه القوات حصيلة معلوماتها إلى الجانب الإسرائيلي، "فتشاكل الأمر" (كما ألمح أحدهم) و إشتعل في وجدان المعترضين مزيج من واقعتي "سفينة مرمرة" و إستشهاد الضابط الطيّار سامر حنّا علماً أنّ قوّات اليونفيل كما الشهيد لم تطلق النار؟
هل يُعقل أن يُقرن هذا التعكير بالتنديد بالسياسة الخارجية لفرنسا ( المحفّزة الإتحاد الأوروبي على زيادة العقوبات على إيران لتكتّمها عن أوجه تخصيبها النووي) و بقدر أقل إسبانيا و إيطاليا؟
لقد نشأ عن الحوادث المتراوحة بين "العفوي" و "المنظّم" حرج و إرباك لأركان الدولة اللبنانية و إساءة إلى علاقات لبنان مع دول صديقة و إعلان صريح من مسؤولي الأمم المتحدة أن تكرار التجاوزات و مخالفة أحكام القرار 1701 و نصب الأفخاخ لقوات اليونفيل سيفسح المجال لإستئناف العمليات الحربية في إشارة صريحة و تلويح إلى سحب قوات السلام الأممية (الأنظار تترقّب تقرير الأمين العام بان كي مون المزمع إصداره في 14 تمّوز بهذا الشأن).

في ظلّ التوجّس من حصيلة التمحيص في وثائق المحكمة الدولية و إفادات الشهود و ربط الأحداث في حبكة قرار إتهامي محكم لم يوفّر المذعورون ذريعة للطعن بمصداقيتها إلاّ و ساقوها. موضوع التجسّس على الإتصالات هو اللقيّة الجديدة.
إنّ نشاطات التجسس المقنّعة بوظائف متنوّعة و المنتحلة صفات تمثيليّة بريئة قائمة بين الدول ليست المتعادية فحسب ( إسرائيل و دول عربية إضافة إلى إيران) و إنّما بين المتوافقة أو المتجافية (إنكشاف جواسيس روس في إنكلترا و أميركا، و إيرانيين في دول عربيّة) و المتنافرة ( إيران و الغرب) و حتّى الصديقة و المتحالفة ( تجسّس إسرائيلي في أميركا-جوناثان بولارد).
التجسّس ليس إستطلاعاً فقط فهو غالباً سرقة أسرار ثمينة أو ذنوب مكتومة تفيد الجهة السارقة بقدر ما تكشف و تؤذي الطرف المسلوبة أسراره.
و التجسّس في لبنان لا يقتصر على الإختراق الإسرائيلي بل يتعدّاه ليستبيح خصوصيّات المواطنين بحجّة شرعيّة "الإستعلام" و "التنسيق" تحوّطاً "لحماية" جهة ما تسعى للسيطرة على هذا الوطن و ترسل تقاريرها إلى راعييها الإقليميين لأنهما مرجعيتها العليا التي "تسترشد" بتعليماتها.
لقد وجد أنصار "المحاكم الميدانية"، و مروّجو إشاعات تسييس المحكمة الدولية الخاصة بلبنان و شتّامو و مهدّدو قضاتها، في كشف نشاط تجسّسي، يجري التحقّق منه قام به موظف في شركة إتّصالات تشّغل شبكة الهاتف في لبنان، جرعة منشّطة للقفز إلى تشكيك إستباقي في صحّة إدلّة المحكمة الحائزة على مئات المكالمات الهاتفية التي سبقت و تلت عمليّة إغتيال رئيس الوزراء الأسبق الشهيد رفيق الحريري.
طالما هناك سريّةً مضبوطةً بإحكام تُغلّف عمل المدّعي العام دانيال بلمار و مساعديه و التسريبات الإعلامية هي فقاعات، لماذا يصرّ المتطيّرون على الرفض المسبق للقرار الإتهامي المرجّح صدوره في أيلول المقبل؟
لبنان يحتاج إلى مواكبة ومساندة أصدقائه لتدعيم نهوضه و ترسيخ سلطات دولته و إيقاف نزفه البشري كما أنه بحاجة ماسّة إلى تآزر أبنائه الأباة و تضافر جهودهم لتحصين مواقعهم و حماية حقوقهم و إنعاش حيويّتهم و تزخيم إزدهارهم.
لِيهتدِ كلّ مواطن بمحبة القلب و نصائح العقل و همس الضمير و وصايا الشهداء و حكم الأجداد.
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٩.٥.١٠

"ثورة الأرز" لا تُزهق

حميد عواد*

وحده الضغط الجوي هو المعتدل في لبنان أمّا بقية الضغوط فهائلة، تهوي بأثقالها على اللبنانيين من الأجواء الإقليمية المشحونة بلا رحمة، لتنهكهم و تحبط آمالهم و تمنعهم من الإسترخاء و الإستمتاع بالروائع الطبيعية التي حبا الله هذا الوطن بنعمها و لتنتزع من متناولهم فرص النهوض و النمو و الإزدهار.
ضغوط صراعات التناهش الديمغرافي و الجغرافي الإقليمية تلاحقت بلا هوادة مدفوعة بحوافز مترابطة مثل إستتباع شعب أو ضمّ أرض أو رفع غبن أو إسترجاع حقّ أو بسط سلطان، و تضافرت لتطوّق اللبنانيين و تتسرّب بتفجّراتها داخل وطنهم.
فكلّما حَبُل نظام إقليمي بمشكلة أو أزمة لجأ إلى أعوان، تسنّى له تجنيدهم في ظلّ ظروف إنهاك لبنان، لإجهاضها.
و مهما تنمّقت الدوافع بصفاتٍ تعاضد قومي أو دعم حقوقي أو تآزر تاريخي أو تضامن عقائدي، فالثابت هو تمخّض و بروز فرز دينيّ و مذهبي خطير متمادي التموّجات بؤرة فورانه تنطلق من الشرق الأوسط و تنتشر حممه آسيوياً و إفريقياً لتجرف خلال تدفّقها تدريجيّاً أقلّيات مستضعفة.
وُجد لبنان في قلب منطقة غلب على أنظمتها طابع التزمّت و العنف و الإنقلابات الدموية و قمع الحريات العامة و إنتهاك حقوق الإنسان، فجاء نظامه نقيضاً ديمقراطياً، بفضل حيوية أبنائه و توقّد طموحهم و تنوّع مواهبهم و إقبالهم على النهل من صفوة الحضارات، مكرّساً حقّ ممارسة حرية الفكر و الإعتقاد و الرأي.
لكن في خضمّ نشوء و جذب "ثورات" و تيارات مدغدغة لمشاعر و غرائز جماهير المنطقة، و تحت وطأة نشوب و إحتدام الصراع العربي-الإسرائيلي و تداخل الرغبة في الهيمنة و تغيير النظام، أُسِيء إستغلال أجواء الحرية و التسامح في لبنان، فشُلّت المؤسسات و تنوّعت الفتن و الصدامات و تعاقبت "تبدّلات" ميدانية هجينة ما زال لبنان يعاني من آثارها.
بعد معاناة اللبنانيين خسائر فادحة و تعاظم أخطار الأوضاع في لبنان أدركت دول عربية وازنة أهمية إحتوائها و وعت أهمية بقاء لبنان و إفتقدت حاجتها إليه كنموذج فريد خلاّق في الخدمة و الإنتاج و كمنتجع و متنفّس و منتدى ثقلفي و فنّي و كمتحف غنيّ بالروائع، فعُقد مؤتمر الطائف تمهيداً إلى ولوج مرحلة إستقرار مشتهاة.
و بما أن غالبية اللبنانيين متمسّكة بنظامهم الديمقراطي المرن و المحفّز للقرائح و الإبتداع، حافظوا على بنيته و أسسه و بذلوا جهوداً جبّارة لمقاومة و جلاء وطأة الهيمنة الهمجيّة و معالجة إحتقاناتها و جروحها و آثارها. و السعي يتواصل لتأمين ضخّ الحيوية فى مفاصل مؤسسات الدولة تدريجياً و فتح أقنية إنسياب النشاط بلوغاً إلى الإنفراج.
تنوّعت "الثورات" التى إنطلقت من لبنان أو "هبطت" عليه و خدمت مصالح الآخرين على حساب عافيته، لكن وحدها "ثورة الأرز" جمعت معظم شرائحه و وثّقت وشائجهم و صلّبت عودهم و صبّت في صُلب المصلحة الوطنية.
لكن نشوء فصائل عسكرية غير "نظامية" خارج سلطة الدولة في لبنان، "زُرعت" و "طُعّمت" و "لُقّحت" لجعل نظامه هجيهناً ملتصقاً بالنظامين الإيراني و السوري و"مُقَولباً" في "جعبة" حكّامهما، أعاق و ما زال يعيق ترميم مؤسسات الدولة و حركة النهوض و نهدة الإنفراج.
صُلب هذه القوى المسلّحة الهجينة أكتسب قوة و نموّاً و تنظيماً و تجهيزاً جعلته يتحدّى و يتصدّى لمن يعترض على سلوكه داخل الوطن و خارجه، و جعل إسرائيل تتوجّس خطراً مباشراً على أمنها يضاعف قلقها من هاجس التخصيب النووي الإيراني لإرتباط وثيق بينهما، و دفعها لإطلاق تهديدات حازمة نحو لبنان و على حكّام إيران و سوريا أصحاب "براءة إختراع" و "ملك" و "قرار" و "مؤونة" أصل و فروع هذه المنظمات.
و بِحُكم إنطباع الوليد بطبائع الوالد و خصائصه إنتقلت "بالتناسخ" "مزايا" إحتكار السلطة و القرار، و "التطيّر" من الإنتقاد و "الشغف" بخنق الأصوات الحرّة المخالفة للأوامر المُنزلة، فتناسقت الضغوط بكثافة و قوّة، ترغيباً و ترهيباً، لفرط عقد "ثورة الأرز".
نشوة الزهو و الإستقواء بالسلاح بلغ إرتعاشها حدّاً خطيراً سُوّغ معه توسّل العنف في 7 أيار 2008.
وقع هذه "الحملة" صدم "ذاكرة" "زعيم" "ملهوف" على سلامة الرعيّة و التوريث ، فتشوّشت "ذاكرته" و "إنخطف" إلى "لحظة تخلّ" عن "الأهل" و "الرفاق"، و تحوّل، كمن سبقه إلى الإنقلاب على المبادئ، من "قائد" إلى "مذيع" ينطق بمطالب "خاطفيه".
لكنّ "ثورة الأرز" مستمرة و كوهج "الذاكرة" لا تنطفئ شعلتها في وجدان الأحرار الأبرار بِنفخة، طالما هي عابقة بِنفحة صدى وصايا الشهداء و المؤسسين، و بعطر الأرض و بِطِيْب محبّة الوطن.
حماية "ثورة الأرز" هي حماية للصيغة الرسولية و الحضارية للوطن و مظلّة أمان و هناء و حرية و عنفوان لجميع أبنائه و بيئة خصبة لإنخراطهم في مهام النهوض و الإنماء و ضمان لمستقبل باهر.
أمّا مشاريع الذين ينقضّون عليها بلا هوادة فمناقضة لهذه القيم و قاضمة لسيادة سلطات الدولة و آيلة إلى "تحنيط الأدمغة" و تحويل لبنان إلى مقبرة عبودية.
محاربة إسرائيل لا تضفي العصمة و لا الحصانة على من يرفع لواءها، و لا "تؤهّله" لخرق حرمة حقوق اللبنانيين و سلطات دولتهم، و إلاّ "إكتسبت" هكذا "إمتياز" كلّ منظمة إرهابية "إشرأبّت" لتشنّ "حرباً عنقودية" في لبنان. وقد سمعنا مؤخراً تهديدات من مصدرين "يتحرّقان" لدفق "حممهما" فوق "الحواجز" المنتصبة هناك.
خدمة الوطن واجب مشترك يقع على عاتق كلّ المواطنين. عندما تتعاطى بشأن سيادي تتسق و تنساق في مؤسسات الدولة تحت سلطتها و إشرافها. أمّا الهيئات الرديفة حتّى لو كانت ذات منفعة عامة فيقتصر عملها على شؤون غير سيادية و هي غير مخوّلة إنتزاع صلاحيات الدولة المتعلّقة بممارسة السيادة.
كما أنّ حرمة السيادة تقضي برصّ إلتفاف المواطنين لدعم مؤسسات الدولة و تعزيز دفاعاتها و إلتزام المواثيق الدولية و قرارات الأمم المتحدة و مجلس الأمن المنبثق عنها و حصر العلاقات الثنائية بالأقنية الرسمية، لا التسلل المهين والإستفزازي إلى عقر الدار من خلال التغرير بجماعات و تسخيرها لخدمة مصالح الدولة المتسللة.
بهذا الأسلوب تعامل أركان النظامين الإيراني و السوري مع لبنان و رفعوا مستوى تسلّح و تدريب أذرعتهم في لبنان و غزّة لصرف الأنظار عن ملفّ "التخصيب النووي" و إنتهاكات حقوق الإنسان و التنكيل بنخب المفكّرين و السياسيين، و لمحاولة حصر ساحة المواجهة العسكرية مع إسرائيل من جديد بعيداً عن أراضيهما من خلال إشغالها "بتحصينات متقدّمة" و إقامة سباق تسلح و تطوير مستوى التدريب و أنساق القتال أملاً في تحقيق "توازن رعب"، فيما إسرائيل تحرص على ضمان تفوق طاغٍ لا تطيق إضعافه.
"توازن الرعب" بالتكافوء أم بالتفوّق هو عبء ثقيل و عقيم يرهق طرفيه بتفاوت. حالة الترقّب الهادئة، لكن الهشّة، التي يفرضها مؤقتاً ، لا يلبث أن يطيح بها خلل طارئ يعصى على الضبط و الإحتواء فيتفجّر الوضع برمّته.
تحت وطأة جو التوجّس المشحون بالتهديدات ب"تصفية الحسابات" المتراكمة يجري الإستعداد و التحسّب لحرب "إكراهية" قد يفجّرها صاعق "إنزلاق" أو "تَعَثّر" نحو "لغم أمني"، أو ثبوت شبهة عبور صواريخ سكود سورية (أو طراز يفوقها تطوّراً) إلى فصيل مقاتلين صُنّفوا مؤخراً كفيلق مشترك بين الحرس الثوري الإيراني و الجيش السوري أُسند إليه دور محوري في "تفعيل" و "تجويد" إستراتيجية إيرانية-سورية نوقشت خلال إنضمام أمينه العام إلى مداولات الرئيسين الإيراني و السوري في 26 شباط الماضي التى عبّرت عن وثوق و عمق في التحالف بدا معه عصيّاً على التفكيك.
أما توازن السلام فنابع من قناعة صانعيه و هو راسخ و دائم يفتح دروب النمو و النجاح و الإزدهار أمام الشعوب التى تحظى بنعمته.
غالبية اللبنانيين تنشد السلام لأنّه صِنْوَ عزّهم و متجذّر في وجدانهم، و لأنّهم دفعوا و ما زالوا أثماناً باهظة لإستباحة وطنهم ساحة للحروب و الصدامات مع إسرائيل و هدفاً لإشباع نهم سيطرة الأشقّاء و حشد الأتباع على أساس مذهبي و ضمّهم إلى "حرّاس ثورة" دينية إستحوذت على ولائهم و فصلتهم عن مواطنيهم.
بدل السير في موكب الولاء الوطني يستنفر هؤلاء كل عوامل قوتهم للجم و تدجين النزعة السيادية و إستتباع معتنقيها.
قدر اللبنانيين ان يواجهوا بإستمرار ضغوط تفجّر ديموغرافي، مدجّج بالسلاح و مكتنز بالمال و مستقطب بإحكام من "مرشد معصوم"، يتوق بشغفٍ و ثباتٍ إلى الهيمنة على بلاد الأرز و قلب نظامها الديمقراطي لجعله ثيوقراطاً.
على اللبنانيين الأباة، الذين تجاوزوا المحن المريرة و نُكبوا بممتلكاتهم و أعمالهم و بيئتهم، أن يواظبوا بثبات على دعم مؤسسات الدولة و ينخرطوا فيها، و ألاّ يغادروا أرضهم و بيوتهم و ألاّ يبيعوها مهما كانت الإغراءات لئلاّ يسلّموا صكّ بيع الوطن لمن يجيّره للغريب و يهمّشهم و يقذف بهم إلى البحر و ما وراءه.
واجب مسؤولي الدولة الحرصاء على مصلحة اللبنانيين أن يبذلوا بالطرق الشرعيّة كلّ الجهود المخلصة ليحموا أمن مواطنيهم و يحصّنوا سلامة ممارسة السلطات و يؤمّنوا سبل تحصيل العيش بكرامة من خلال إستنهاض الهمم و توفير مصادر التمويل و الإنتاج لإطلاق تنمية شاملة و خلق فرص عمل مجدية و مجزية و تسهيل منال العلم و تطوير مستواه و تحصين مؤسساته من الغزو الميليشياوي و تأمين العناية الصحّية و العقليّة لكل الأجيال من الطفولة إلى الشيخوخة كما لأصحاب الحاجات الخاصّة، و التبشير بتربية وطنية نابعة من تراث لبنان و رسالته الحضارية، و إستيفاء حقوق المواطنين الخاصّة و العامة برفع "اليد الموضوعة" على الأملاك و جباية عائدات دورية عن الإستثمارات القائمة على الأملاك البحرية و تعديل قانون تملّك الأجانب لحصره و الحدّ من لعبة "المونوبولي" (الإحتكار) التي يمارسها لبنانيون يموّلهم رعاتهم ليتوسع ملكهم و سيطرتهم على كامل أرض الوطن. إضافة إلى حماية البيئة من التلوث و حرق الأشجار لصنع الفحم أو قطع النادر و المعمّر منها، مثلما جرى مؤخّراً لغابة أرز في عكّار، و قضم الجبال العشوائي بالمقالع و الكسّارات التي تطحن الصّخر لتقبض ثمنه ذهباً منهوباً.
لتلافي حشر لبنان في قالب شرنقة مظلمة، المطلوب بناء إستراتيجية نهوض شاملة الإنعاش و النفع، مسيّجة بدفاع وطني أصيل، تتيح مشاركة كلّ أبناء الوطن، و توجّهها سلطات الدولة بقوة الدستور و القانون و تحميها من عنوة طغيان و شهر السلاح الفئوي المتفلّت من إمرتها.
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٠.٣.١٠

الثبات على المبادئ و الوفاء لوصايا الشهداء

حميد عواد*

التخلّف الفكري و الإجتماعي و الثقافي بمختلف أشكاله هو حشوة متفجرة تجعل المبتلين به ألغاماً سريعة العطب و التفجّر تهلك حاملها و تشظّي مجتمعه و تؤذي احياناً من يسعى إلى تفكيكها.
يزيد تعاظم هذا الخطر متى تسنّى له ذخيرة تلقّم جنوحه و تعزّز إمكاناته.
لكن رغم المخاطر لا يمكن تجاهل واجب الإسهام في إزالة هذا الخطر فوجوده يحطّ من كرامة الإنسان و يخنق مواهبه و يعيق تقدم البشرية.
و ليس مقبولاً ظهور وهن أو تردّد أو عجز عن إجتراح الحلول لدى العملاق الكامن في الفكر الإنساني الخلاّق المشبع بالمعرفة و النافذ بذكاء و فضول إلى أعماق الفضاء و بواطن الأرض و المياه و دقائق الذرة و الخلايا و أسرار الكون و كيمياء التفاعل بين كل العناصر.
لذا يعي اليوم المجتمع الدولي شدّة إلحاح إبتداع حلول مناسبة لنزاعات كأداء تراعي الوقائع الراهنة و الحقوق و العدالة و الإنصاف.
فإعتباراً من صيغة المبادرة العربية و طرح تحويل كيان السلطة الفلسطينية إلى دولة تتعايش بسلام مع إسرائيل، تترافد جهود المجتمع الدولي لتصبّ في حوض تحفيز المفاوضات الضرورية التي يؤمل أن تفضي إلى حلّ ثابت و دائم.
لكن تكمن عقد هذه القضية الشائكة في التفاصيل و الشروط المتضاربة و ذرّ قرون المتطرفين و المتطفّلين.
طوال تفاقم هذا الصراع جُعل لبنان فوّهة البركان و مرجل حممه و إستبيحت أرضه و أمن شعبه ساحة للحروب البديلة مع إسرائيل.
و كان لكل حقبة "أبطالها" يتناوبون علينا و يتنافسون للسيطرة على لبنان و إلحالقه ب"حظيرة" المتطاولين الطامعين.
و كان النظام السوري بمختلف "وجوهه" "حاضراً و متدخلاً" على الدوام و أصبح "متحصّناً" بنظام "الثورة الإيرانية" و "فيلق مقاتلين" "أنشأته"، على غرار "حرّاسها"، بتنسيق معه داخل لبنان.
تحالف "الممانعة" هذا يغدق السلاح و الأموال و "الإرشاد" و وسائط الدعم على "حرّاس" مصالحه تحت راية مواجهة إسرائيل .
يُسلّط "وهج" جاذبية هذا الشعار على البصر و البصيرة توخّياً لإبهارها، فتعمى عن رؤية قضم مؤسسات الدولة اللبنانية و تكبيلها بحبائل "الدويلة الفاضلة"، و بلوغاً إلى الإطباق بضغط متصاعد على الشرائح السيادية لإحباط صمودها و تجفيلها عن أرض وطنها.
حماوة خطاب هذا التحالف تنفث لهبها ناراً بعيدة عن "عروشه" تستعر على ارض لبنان، و ما يخشى التفوّه به يوكل الإفصاح عنه بفظاظة و تناوب إلى "فدائييه" المنتصبين على المنابر اللبنانية و الكامنين في "المتاريس".
لقد إحتدمت مؤخراً نبرة خطاب "الثنائي الممانع" و إحتدّت أصداؤه اللبنانية، لا لمحاكاة الخطاب الإسرائيلي أو "ردعه" فحسب بل ل"تحريم" التعاطي مع امريكا و أوروبا و لتخوين التيارات السيادية و محاولة تجريدها من أي دعم و محاصرتها و عزلها.
أكثر من ذلك، مع "إستشعار" قرب إصدار المذكرة الإتهامية من المدّعي العام للمحكمة الدولية الخاصّة بلبنان توتّرت أعصاب "جهاز الممانعة" و تقمّص هذا التوتر موجاتٍ صوتيةً نافرةً إنطلقت من حناجر "الأبواق" المزروعة في كواليس المسارح السياسية لتلفظ "حكم إعدام ديتلف ميليس في الشارع" و تهدّد الأمم المتحدة من عواقب تطرّق و إشارة القرار الإتهامي إلى "أركان الدويلة الهجينة".
الألسنة و الذمم و العقول المفخّخة بالبارود السوري-الإيراني و المكرّسة لشقّ الطريق أمام الهيمنة الكاملة على لبنان تُحشد و تُلقّن و تُلقّم للمرافعة عن موكّليها و ل"إزالة العقبات" التي تعيق "إختراقها" و "غزوها" لكلّ مؤسسات الدولة اللبنانية التشريعية و التنفيذية و القضائية و الأمنية.
كما تستجمع مصادر قوتها و نفوذها و مكرِها لإضعاف تحالف التيارات السيادية و محاولة النيل من مهابة المرجعيات الدينية دون التورّع عن زعزعة مكانة ضابط إيقاع عمل السلطات في سياق الدستور رئيس الجمهورية.
و مع التلويح بالمبضع نحو الرئاسة يرتسم في الأذهان صخب الأصوات التي ألحّت سابقاً على "إختصار" ولايتها بسنتين في هذه الدورة أملاً بإنتقال سريع إلى "حليف أمين" لل"مؤمنين" ب"ولاية فقه معصوم" سيّد القرار على مدى حياة صاحبه.
و منذ ترميم قوات الأمن الداخلي و "جهاز المعلومات" بإشراف و تدريب و تجهيز أمريكي متطوّر ضمن برنامج هبة شمل وحدات الجيش أيضاً تصاعدت بإطّراد "رياح الغضب" الإقليمي المشترك.
و حملت زوبعة هذا الغضب "غبار" التشكيك في أهداف "مكافحة الإرهاب" التي أُسندت إلى قوى الأمن و جهاز معلوماتها.
لكن الإنجازات التي حققتها دحضت هذا الإدعاء بكشف شبكات التجسس و التخريب والمخدرات و الإجرام و فكّ رموز التخابر الذي أماط اللثام عن "شبكة إغتيال رفيق الحريري" رئيس الوزراء الأسبق الذائع الصيت لتوفير تمويل التحصيل العلمي الجامعي لآلاف الشباب و لمد يد المساعدة للمحتاجين، و لإثبات مواهبه المميزة و طاقاته الغزيرة و براعته في إدارة الأعمال.
كان، رحمه الله، مُطلق نهضة الإعمار في لبنان و باني شبكة علاقات عالمية عززت موقع الوطن و سندت مضطهديه الذين توجّسوا من نزعته الإستقلالية فسفكوا دمه و دماء قافلة من الشهداء فجّرت "ثورة الأرز" و أجلت عنه جيش الهيمنة الخانفة.

برصاص السلاح نُخرت نتائج الإنتخابات النيابية و بقوته إنتزع حاملوه و رعاتهم "حقّ نقض" لكل قرار لا يخدم مخططهم التسلطي و اليوم يُلوّح به لتطبيق النقض مع "مفعول رجعي".
"طموح" هذا الطابور إذابة معالم الدولة في "قالب دويلته".
لذا يثابر على العربدة و الزهو بقدراته العسكرية و يمارس مختلف الضغوط لتجريد القيادات الإستقلالية من عوامل قوتها و فصلها عن معاونيها و حلفائها لتخور قواها فيسهل الإجهاز عليها.
كما ينقضّ بشراسة على النفوس المرهقة لإهلاكها و تدجينها، و يترصّد الأصوات الحرّة لإصطياد فرص خنقها، و يكمن للعقول المتنوّرة للتآمر عليها و خَسْفها و يكيد للنفوس الأبية لإكتشاف منفذ لترويضها.
بالعمل المنهجي الدؤوب يفسح الدرب لإقامة حكم إستبدادي هجين يكبّل النظام الديمقراطي في بلاد الأرز توطئةً لقلبه.
لذلك لا ينكرنّ مسؤوليته في الأذى اللاحق بصفوة اللبنانيين، مقيمين و مهاجرين، كلّ من سوّلت له نفسه التواطؤ بخبث و ضِعة في دعم و تغطية هذا المحو الآثم لصُلب الرسالة و الهوية و هذا الهدر المجنون لجنى الكدّ و النضال و مخزون التراث و التاريخ، و هذا القضم الخطير لهيكل الوطن.
تضامن أهل "ثورة الأرز" الوثيق هو الدرع الحامي لِبُنيان الوطن و السند المتين لدعم النظام و الضمان الأكيد للعبور إلى ضفّة الإستقرار و هناء العيش و إطّراد النمو و شمول الإزدهار.
الظروف الإستثنائية هي محكّ معدن الصلابة و الأصالة و الشهامة و العنفوان و الأمانة للقيم السامية و الوفاء لعزّة أرواح الشهداء و الصدق بوعود تحقيق أمنياتهم التي إنتُزعوا من دروبها و هم يرنون إليها.
فطوبى لمن سطع صفاؤه فإستحقّ الإكرام و خسئاً لمن تفحّم سجلّه فإستجلب لعنة أبدية!
(نظراً لكثرة الشكاوى من الإستغلال و تفاقم المخاطر التي تلفّ درب المطار حان الوقت ل"تسييجه" ب"مظلّة" أمنيّة مُحكمة لا تُخترق و فتح منافذ جديدة للوطن مضمونة بحماية رسمية حصرية بعيداً عن منال قطّاع الطرق.)
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٤.٢.١٠

لنكفل أمن الحمل بمنأى عن الذئب

حميد عواد*

لكل إمرئٍ من دهره ما تعوّدا و عادة سيف "الظلم" الطعن "بالإبا(ء)"
مَنْ يرتجي الحكمة و الإعتدال و الإنصاف و الحِلْم من مستبدّ عتيق و متمرّس في العسف هو واهم. خاصة إذا سنحت الفرص و الظروف لهكذا جائر أن ينكّل بمناهضيه، داخل مدى نفوذه و حيثما تطال يد بطشه، دون إحكام طوق صارم حوله لإخضاعه للمحاسبة.
قد تبدو المهادنة مفيدة أملاً في تمهيد الطريق لتحسين السلوك لكنّه كلّما إنتزع "تنازلاً" أو "مكسباً" كلّما ترسّخ إقتناع لديه بأن نهجه "مُجْدٍ" و "مربح".
لذا يجدر الحذر الحازم في التعاطي مع كل طاغية متغطرس يرى الكون "صغيراً" عبر "عيينة" (منظار) سلاحه و يعتبر النصح إستجداء و يظنّ أنّ "التكشير" "إبتسام".
قد يتظاهر المُتجبّر بقبول ما يُفرض عليه و يستهيب تهديد الأقوى منه لكنّه يثابر على المناورة و المراوغة و المكر و ينكبّ على إستجماع عوامل قوته ليقتنص كل فرصة تعزّز موقعه و تدعم تسلّطه.
رهان المتعسّف "الرقص" في حلقة مفرغة يدوّخ خلال الدوران فيها العيونَ الدولية الراصدةَ تَحرّكَه علّها تصاب بالإعياء و ترفع عنه ضوابطها فينقضّ على رهائنه دون روادع.
تعدّدت الحلقات و كثر الراقصون و منهم من شكّل حلفاً ليمتّن ركائزه و يعصى على الضغوط الآيلة إلى الإنفتاح و إحترام حقوق الإنسان و الإلتزام بقيم الحرية و الديمقراطية و الحداثة.
بين أذرعة أخطبوط و نسيج عنكبوت و شبكة طاغوت تقلّب لبنان في صراعه لإستعادة حرية قراره و سيادة مؤسساته الدستورية و إستقلال نظامه الديمقراطي البرلماني و حيوية نشاط و تجدد سلطاته.
لكن عند كلّ نهوض بطولي في مسيرة جلجلة العذابات ما أن يتخلّص اللبنانيون من مغتصب حتى ينتصب طامع جديد ليجرّب ضخّ نفوذه عبر "بخّاخين" محليين يتآزرون مع "نافخي أنفاس" سلفه.
لقد ضاق صدر اللبنانيين بمضخّات و فوّهات الهيمنة الإقليمية التي يحرّكها و يوجهها أربابها طبقاً لمصالحهم تاركين للبنانيين وحدهم وزر الصدام مع إسرائيل فيما هم "يحاربونها" من منابرهم ليحوّلوا رصيد دماء و تضحيات اللبنانيين لحساب "إنتصارتهم".
في الوقت الذي يتوخّى لبنان تطبيق مطالب سبق أن طرحها على الجار الشقيق "يشهر" تحالف "الممانعة عن بعد" "سلاح" "حقوق أمنية" داخل لبنان أملاً في إنبعاث "أشباح" الماضي الأليم.
لذا يشهد اللبنانيون حالياً فورةً عجيبةً من "المروّجين" المحليين لهذه المطالب وصلت ببعضهم حدّ "إسباغ" حقّ "إدخال الجيش السوري" إلى لبنان "إن لم تمسك الدولة بزمام الأمور"! و المفارقة أنّ الداعي هو من فريق ينافس الدولة و يضعف قدرتها على الإمساك بزمام الأمور.
اللبنانيون يدركون من التجارب الماضية و الحديثة مصادر و مدى الإختراقات الأمنية التي أصابتهم. منها ما كُشف رسمياً و منها ما هو في طور الكشف. و هم إذ يرتاحون لإنحسار موجة إغتيالات وجهاء سياديين، يعرفون تماماً وجهة الضغوط التي أدّت إلى تلك النتيجة.
تحت شعار "التنسيق الأمني" يسحب "البساط" و "المظلّة" من تحت و فوق اللبنانيين لحصره بأذرعة تحالف النظامين السوري و الإيراني.
اللبنانيون حريصون على إستقلالية مؤسساتهم و يرفضون "التسلل" إلى أراضيهم و بيوتهم و خصوصياتهم من أطراف هجينة البنية و الولاء هاجسها كمّ أفواههم و شلّ حركتهم و ترويعهم.
في رعاية نَسَقٍ من التنسيق يقترن تناسق مريب بين ضغوط ميدانية تحاول حصار فئات سيادية و إستفزازها لإستدراجها إلى إحتكاكات تبرر قمعها و بين تحركات سياسية تهدف إلى الإلتفاف على قياداتها و محاولة الإنتقاص من الدور المحوري الذي إضطلعت به مرجعيّة روحيّة مهيبة تجسّد "ضمير الوطن" و وجدان أحراره في إطلاق و تزخيم مسيرة الإستقلال.
لقد بدت كلّ الأساليب مباحة لبلوغ الغاية. فتلك التحركات تتغلّف بالحوار و تتّشح ب"المصالحات الإنتقائية" التي تزعم "تنقية الذاكرة" في مكان ل"تلوّثها" في مكان آخر و "تتبرّج" بالإحتفالات الدينية إضفاءً لمسحة "طهر" و تنتحل "صلاحية" تحريف اللاهوت إستدراراً لرضى حليف.
ثلاثة "نجوم" لم تعِر مار مارون أي إهتمام في لبنان لاحت لها "إيحاءة" في الأفق فحلّت عليها فجأة "النعمة" و "هدتها" "حميّة الإيمان" إلى براد.
هناك تناغم مشبوه بين "طائفيي" الداخل رافعي شعار "إلغاء الطائفية" و الممعنين بتحوير النظام و بين "التشخيص الإقليمي" لعلّة لبنان و حصرها ب"النظام الطائفي" و إستنتاج أن الخلاص كامن ب"تغيير النظام". هؤلاء يحاولون إشاحة الأنظار عن عوراتهم و التركيز على رجم و خلخلة نظام لبنان الديمقراطي المميز و المرموق من كل شعوب المنطقة.
عند التجرّد من نوازع الهيمنة و التخلّي عن خططها و عدّتها و أجهزتها ليصاغ التضافر و التآلف في بوتقة الدولة و يصير الولاء لها أقوى من أي هوىً، عندئذٍ يستتبّ الإستقرار و يصبح الجو مهيئاً للبحث بكل إصلاح.
أما أي طرح يُساق تحت وطأة إمتشاق السلاح الفئوي و في ظلّ خلل توازن النفوذ و الفاعلية بين قوى المجتمع الجانح بالتوافق المزعوم نحو ترجيح كفّة الفريق المدجج بالسلاح، يكون البحث فيه عقيماً طالما قرار هذا الفريق المتحصّن بإدعاء العصمة لا يقبل النقض فيما كسر قرارات الآخرين جائز و جاهز تلقيمه بتلفيق التهم و التهديد و الوعيد.
جلل تضحيات اللبنانيين رفعهم إلى مصاف الصديقين البررة و زاد أرصدة الوطن على كلّ الصُعُد و أغنى صيغته النموذجية الفريدة الواجبة الوجود و الحماية. لذا سيصمد أهل بلد الأرز في ديارهم رغم هول الضغوط و ستنتصر إرادة الخير على كل الشرور المترصّدة.
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢٩.١.١٠

لَجْماً لِجنون العظمة و كَبْحاً لجموح الهيمنة

حميد عواد*

الأفكار شرارات يقدحها العقل البشري لتوقد قوةً تسيّر مواكب تطوّره عبر الزمن. تتألّق حتى النبوغ متى تناسخت خلايا الدماغ من "جذع" أو "صُلب" "حَذِق" و قُيّض لها "النفاذ" إلى بيئة مختمرة بالمعرفة تنفح فيها "رحيق" مواهبها.
لكنها قد تهوي إلى دوّامة الجنون إن أصابها خلل بنيوي أو مسّها هوس الهيمنة و الطمع أو إنغرست في بيئة موبوءة ضخّت فيها سموم الجهل و التخلّف و التعصّب و الحقد حتى مسختها وحشاً.
مجنون واحد كافٍ لإشعال حرب تشنّ لردعه.
أما أشرس الحروب و أطولها فتنشب عندما يتعارك مجنونان لا يأبهان للألم و لا يكترثان للموت و الخراب و لا يفقهان كُنْه النصح و لا يدركان معنى الحقّ و أبعاد الواجب و حدود المسؤولية.
يتعطّل عمل العقل عندما تُحجب عنه سبل التنوّر و النموّ و الإنتعاش و فرص الإطّلاع و صقل النضج و الرشد و الحكمة، و عندما يقع رهينة مشعوذين دجّالين يعزلونه و "يشحنونه بسحر طلاسم الغيب" و "يعركونه" على وقع "تعاويذ" التحريض ليغدو طيّعاً محكوماً بحذافير التلقين الهجين و محقوناً جاهزاً للتفجير.
ما ظنناه نتاجاً بائداً محصوراً بالعصور البدائية من حروب العصبية الدينية و نزاعات التوريث و تعليل النصوص يحاول إحياءه في عصر الحداثة الراهن الطائشون عن فحوى الكلام و كنه الإنسانية و جوهر الألوهة ليستعبدوا الناس و يؤلّبوهم على حكامهم إن لم ينجرّ هؤلاء خلفهم.
المثابرة على دغدغة الغرائز تطلق وحشاً مخيفاً من القمقم يعيث خراباً و فوضى بلا ضوابط، كما هو معلوم و مشهود، فحذار المواظبة على التهييج.
المطلوب مبادرة المرجعيات الروحية إلى نشر خطاب تبشيري هادئ و رصين و وئامي و تخريج طراز "معاصر" من المرشدين يسفّه المحرّضين.
و لتعزيز و دعم هذه الجهود البنّاءة تجدر مواكبتها بسعي حثيث و فعّال لحل النزاعات الساخنة.
يشعر صاحب الضمير الحي بالمرارة و الإستنكار إزاء إنفلات غرائز التعصّب الذي يدفع ثمنه المسيحيّون نزفاً حادّاً في الشرق الأدنى و الأقصى و أفريقيا و كذلك المسلمون بسبب التناحر المذهبي. بات من الملحّ تكثيف الجهود و تنسيقها و تفعيلها على الصعيد الإسلامي لمعالجة المنحرفين و الضالين.
فيما يركن اللبنانيون إلى التفاؤل بإنطلاقة نشطة للحكومة و بإنعكاسات إيجابية لتحركات و مبادرات رئيس الجمهورية و رئيس الوزراء، بدأت الأجواء تكفهرّ منذرة بحرب يلوّح بها الإسرائيليون لأركان النظام الإيراني و حلفائهم في لبنان و سوريا، قد يفجّرها "صاعق" عملية "أمنية" يُراد التحذير من إرتكابها.
ذلك أن الهاجس الذي يراود خِلد المسؤولين الإسرائيليين و معهم الدوليين هو الخطر "الوجودي" الناشئ عن تضخّم شراسة العداء، الذي يجعل مساعي السلام سراباً، و تضاعفه بتضاعف و إنتشار السلاح المتطوّر المتدفق من إيران و سوريا والذي يُخشى من تذخيره بالتخصيب النووي الإيراني.
هذا التوتر هو الجو المثالي للإستنفار و إحكام القبضة على الداخل المرتعب في كل الأطراف.
لطالما ثابرت الأنظمة المستبدة و مشتقاتها على إخراس رعاياها بحجة الخطر الداهم من الخارج.
الرهان يبقى معقوداً على حلّ الخلافات بالحوار و لو أن البعض يجده بالإبادة كما أن فورة فائض القوة تجعل المنتشي بها يتوهّم أنه يُقَولب الكون و يؤرّخ لمجده فيتوق لتسجيل بعض نقاط التفوق الحربي و لو عبر صولات ميدانية دامية و مدمرة.
يمكن "إستشعار هزّات" "نوبات العظمة" التي تنتاب النظام الإيراني من إنكبابه المحموم على تطوير أسلحته و تدريباته الحربية، وإستغلال طاقاته النووية و البترولية و البشرية و مرجعيته الدينية، و من خلال قمع معارضيه و إطلاق "زخّات أشعّته" و "موجات جذبه" على الجوار لتحفيز و إستقطاب و حشد و عسكرة شيعة البلدان العربية.
و بما أن الرذاذ تمدّد و تشعّب طيفه ليطال شرائح خارج نطاق المذهب الشيعي، إستثار هذا الإنتشار نقمة حكّام غالبية الدول العربية و غضب أكثرية شعوبها.
وللإسهام في تطويق هذا الإنتشار و أملاً بلجم زخم الحلف الإيراني-السوري إندفعت فرنسا والسعودية إلى محاولة إستمالة النظام السوري برفع العزلة عنه نسبياً مقابل أثمان مثل سحب العقبات التي زُرعت عبر حلفائه في وجه الإستحقاقات الدستورية في لبنان و إقامة علاقات دبلوماسية معه و تعهّد بترسيم الحدود و إحترام سيادته و منع تسرّب الإرهابيين إلى العراق، علّ هذا التقارب يؤدّي إلى تراخي التحالف و "عودة الإبن" السوري إلى سرب الأسرة العربية.
لكن لا حاجة إلى "مجهر" للإستنتاج أن تحالف هذين النظامين متجذّر و وثيق و عميق و ضروري لمصلحة مشتركة، حجر عقدها لبنان و مداميكها تبلغ العراق و غزّة و سائر الدول العربية.
ليس سهلاً على النظام السوري، حتى لو شاء، التنصل من إرتباطاته المعقدة بحليفه المتغلغل في مفاصله، و لا شيء يصرفه عن ممارسة هوايته المفضّلة و هي تحيّن الفرص لتعزيز دوره الإقليمي و تثبيت سلطته و نفوذه بنسج علاقات مُجْزية مع بلدان الجوار، خاصة قطر و تركيا.
لذا حرصاً على إمساك الأزمّة تراه يطبق بمخالب فولاذية على الداخل و على "بؤر" نفوذه الرابضة في "متاريس" مزروعة في "الخواصر" غبّ طلبه دون الخشية من "تبعات" "لسعها" بل عكسها، السعي لجني "العسل" من "نشاطها"، و يلبس قفّازات مخملية عند مدّ يده للخارج لتحقيق المكاسب، كما يناور ب"مرونة" لتحاشي الخضّات و الضربات.
صدق نوايا النظام السوري محكّه تفكيك و رفع القواعد الفلسطينية التابعة له و سحب شاغليها و الإسراع في ترسيم الحدود بدءاً من مزاع شبعا و تلال كفرشوبا لينطبق عليها قرار مجلس الأمن 425 فتسحب من إسرائيل خاصة و أن %90 من الحدود بين لبنان و سوريا ترسيمه منجز إستناداً إلى دراسة معمّقة أشبعها تمحيصاً و توثيقاً الخبير الدكتور عصام خليفة نشر خلاصتها في "النهار" بيار عطالله و نقلتها إلى موقع "قدموس": http://kadmous.org/wp/?p=2840
في الظروف الحرجة التي يحتاج فيها الوطن إلى زعماء أفذاذ مبادئها وطنية ثابتة لا تنزلق كالزئبق و مواقفها صلبة مجبولة بقيم الديمقراطية لا تتفتّت، نجد البعض قد تحوّل إلى طيف في مهبّ الريح و تقلّص حجم البعض الآخر إلى درجة من التقزّم المفجع لا تنفع معه التبريرات المنمّقة للإنتهازية السياسية أو الذعر من شبح الإغتيال و "الإجتياح" أو القلق على مصير الإرث السياسي.
السلم الأهلي هو ذخيرة الحياة لا السلاح و أمانة في أعناق الجميع لصونها، فمن يهدّدها و يجعلها مادة إبتزاز؟ و هل يليق الخضوع و دفع الكرامة فدية.
منْع العبث بحياة المواطنين واجب كل مسؤول يعي خطورته. و كذلك إيقاف ممارسة لعبة القضم الديموغرافي و العسكري التي تحوّلت "جهاداً" سنانه "إلغاء" الطائفية "السياسية" و تخفيض سن الإنتخاب إلى 18 (و قريباً حقّ الرضيع بالإنتخاب! قبل تنفيذ حق المغترب بإستعادة الجنسية و الإنتخاب).
لا قيام للدولة طالما بقيت تنظيمات مسلّحة تقتطع قواعد لها و دويلات من ارض الوطن و عجباً كيف أن السلاح الذي طاب وصفه بمانع للتوطين لم يضُرْه مؤخراً تغطية السلاح الفلسطيني خارج المخيمات و خارج التوافق.
حشد عوامل القوة داخل مؤسسات الدولة هو معيار الصدق في دعمها فهي التي تحتضن كل بنيها و التي لها الحقّ الحصري ببسط سيادتها على كل أراضيها دون إباحة أي بقعة لسيطرة تنظيم مسلّح خارج قواها الشرعية و قوات الأمم المتحدة المنتدبة لدعمها.
تحريك الإدارات الرسمية يتطلب إنجازاً ملحّاً لملء المراكز الشاغرة بالمستحقّين من المناقبيّن الموهوبين الذين تليق بكفاءاتهم و جدارتهم المناصب، لا المتسكّعين على أبواب المتنفّذين المستجْدين الشفاعة و الدعم لتغطية النقص في مؤهلاتهم.
حبّذا لو إعتنق كلّنا بإخلاص و شرف و شغف الولاء الوطني الذي ينبع من حبّ سخي و إيمان وطيد و وفاء حريص و فخر مضطرم في كنف الإنتماء لتراث و حضارة و ارض الوطن. إنه أسمى التجليات للذات الوطنية و هو اللحمة و فيه الإنصهار و الخلاص.
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية