١٩.٦.٠٦

عقم الإرهاب و خصب الوئام

حميد عواد*


رغم تواصل حقبات التنكيل الفظيع الذي نكب اللبنانيين، المحبّين و المخلصين لوطنهم، عقوداً من الزمن، حافظ هؤلاء على رسوخ إيمانهم بحقوقهم و منعة كيانهم و توقهم إلى الخلاص، فأبقوا جذوة الحرية و العزة و العنفوان و الرجاء متّقدة في وجدانهم.
مواكب الأحرار هبّت لصون السيادة و الإستقلال من الإنتهاكات، و لم تسكت على الضيم فبذلت خلال نضالها أجَلَّ التضحيات.
صمود اللبنانيين أذهل العالم و حضّه على الأخذ بيدهم و رفع عبء الهيمنة العسكرية السورية عنهم، فصدر قرار مجلس الأمن 1559 و اقترن بالسعي الدؤوب لتنفيذ بنوده.
و على وقع سقوط شهداء عمالقة في اغتيالات غادرة، نُفّذ جزء مهمّ من القرار المذكور بانسحاب الجيش السوري و طواقم من مخابراته من وطن الأرز إلى سوريا يوم 26 نيسان 2005.
و أصبح ممكناً التلاقي و الحوار بين شرائح الوطن و إحياء مؤسسات الدولة الديمقراطية و انتشالها من غيبوبة احتضارها، لتمسك بناصية قرارها االحرّ سيّدة مستقلّة.
لكنّ النظامين الوثيقي التحالف السوري و الإيراني ما زالا يستنفران "محبّذي" نفوذهما في لبنان و يرعيان رصّ صفوفهم لإقتطاع حصّة مهمة من القرار اللبناني أو للجمه و إرباكه.
لبنان دخل مرحلة الإنعتاق من الجلادين و واجب كل لبناني مخلص المساهمة في تنقية الإرادة السياسية و الحياة الوطنية من قيوح و قيود و ذيول مرحلة تحوّل فيهاالوطن إلى سوق نخاسة و مسلخ لنحر الأحرار.
و حيث أنّ معظم اللبنانيين لم يصابوا بالخَرَف فإنّ "الضمانات" بإرتداع الذئاب عن مراودة كرومهم، التي "يتبرّع" بمنحها إليهم "رسل" "المعلّمين" الإقليميين لا "تثلج" قلوبهم.
الأجدر، إثباتاً لصدق النوايا، البدء بغسل نفوس "الرعايا" من رواسب الإنقياد الغريزي وراء "الزعامة المؤلّهة"، و الشروع بتنشئة وطنية سليمة تجمع المواطنين في بوتقة الأخوّة في الولاء الوطني و التعاضد في سبل خدمة الوطن.
و لتوسيع المدارك لا بدّ من إغنائها بالمعرفة و التمحيص الدقيق في التفاصيل و الأبعاد و تنمية الحس النقدي لإكتساب القدرة على بناء الأحكام و إعطاء كل شأن استحقاقه.
للأسف الشديد تطالعنا "جماهير" "مرهفة" الإحساس بردود فعل عشوائية و غوغائية على شؤون "تخدش" مشاعرها، فتثبت أنّها بحاجة إلى تأهيل و إكتساب ثقافة وطنية صافية.
بين الحرية المسؤولة و التعبير الحرّ عن الرأي، ليس معصوماً عن متناول البحث أي موضوع أو إنسان شرط أن يكون الكلام موضوعياً و متّزناً و لائقاً. و في مطلق الأحوال، لِيقارع النقد ردّ بقول الحق، يفنّد الأخطاء و يدحض الإدعاءات و يسفّه الإفتراءات بدل لغة الغوغاء و قذف الحجارة و التخريب. لأنّ وقع كلمة هيمنة على مسامع اللبنانيين يثير في خواطرهم ذكريات مريرة، يحاول البعض استعارة هذا التعبير لإلصاقه بالمساعي الدولية الجادة و الحثيثة الآيلة إلى نقاهة و تعافي لبنان.
و ما هذه التورية إلاّ ذرّ للرماد في العيون و ضرب من ضروب الشعوذة. فاللبنانيون يدركون حق المعرفة أنّه لولا تبنّي المجتمع الدولي، بقيادة الولايات المتحدة و فرنسا، لكفاحه من أجل استعادة حريته و سيادته و استقلاله و تقديره لتضحياته و إجلاله لشهدائه ، لطال استرهانهم و معاناتهم إلى أمد غير معروف.
و الدول الحرة لا توفر جهداً لمساعدة لبنان على إحياء مؤسساته و إنعاش التواصل الديمقراطي بينها لتحسين الأداء و تزخيم حركة التوثب نحو مستقبل أفضل.
و إلى جانب إعادة بناء أجهزته الأمنية لتشكل الدرع الحامي للوطن لا بدّ من توسيع المجتمع الدولي لإطار شبكة الأمان التي يسيّج بها لبنان لتردع أي مصدر لإختراق أمنه و زعزعة استقراره خارجياً كان أم داخلياً.
لا يرضى اللبنانيون و معهم العالم الحر بوجود قوى خارجة على القانون تستبيح أرضه و سيادته لإرهاب أهله أو جعله منصّة لإطلاق صواريخ هدفها استدراج إعتداء عليه.
كما يرفضون تحويله حقل كمائن ملغّمة تُنصب لإرتكاب الإغتيالات و تصفية الحسابات.
حذار الإغراق في استنفاد صبر و صمود اللبنانيين.
كفاهم الصدمات المروّعة التي تحملوها بشجاعة فائقة.
أما جراحهم الطرّية فتحتاج إلى بلسمة لا نكء.
و كي تتبدد هواجس قلقهم و تترسخ الطمأنينة في خواطرهم يجب إزالة مصادر التهديد و الخطر و الإجرام، و تسييد و تحصين العدالة الأصيلة.
و ما قرارات مجلس الأمن 1595 (الخاص بتشكيل لجنة التحقيق في الإغتيال الآثم الذي غيّب الرئيس رفيق الحريري و الوزير باسل فليحان و عشرين آخرين من مرافقيهما إضافة إلى شخص مجهول) و 1644 ( الإيعاز بإنشاء محكمة ذات طابع دولي لمحاكمة من يشتبه بضلوعهم في الجريمة المذكورة) و 1686( تمديد مهمة لجنة التحقيق سنة و توسيع صلاحياتها لمدّ السلطات اللبنانية بالمساعدة التقنية في التحقيقات المختصة بالتعديات الإرهابية المرتكبة منذ 1 تشرين الأول 2004)، إلاّ وجه بارز من وجوه الدعم الدولي لتزويد القضاء اللبناني بحصيلة تسخير أحدث الوسائل و الإمكانات و الخبرات العالمية المتوفرة في العلم الجنائي لتحليل مكونات الجريمة.
فيما يكمل القاضي سرج براميرتس تنقيبه في أدقّ أدلتها و يتقصّى بصمت أبعادها و يربط بحنكة عناصرها، يُطمئن الجميع، و إن متكتّماً، بأن تحريّاته تسير بثبات نحو كشف شبكة المتورطين في الجريمة الإرهابية الفظيعة.
مقابل الإرتياح العام لنهج براميرتس و الثناء الشامل على كفاءاته و مهاراته، يرتفع بإنتظام منسوب التوتر و التوجّس و الأرق في نفوس المتآمرين خلال ترقّب موعد إصدار مذكرات الظنّ و الإحالة على المحاكمة.
إنها لمفارقة صارخة أن يجعل العالم الحر لبنان موضع عناية فائقة لإنعاشه، أهله بأمس الحاجة إليها لإستعادة أنفاسهم و الإنطلاق في استثمار خيراتهم، فيما يعاكس البعض المصلحة الوطنية بوضع العوائق الكابحة لإنسياب دورة الحياة حتى الشلل و الإختناق.
و مفارقة أيضاً أن تعلن الأمم المتحدة و حتى إسرائيل ( خلال زيارة رئيس وزرائها إلى فرنسا) أنّ استرجاع مزارع شبعا ممكن متى أثبت لبنانيتها ترسيم للحدود بين لبنان و سوريا، فيما تقف المراوغة حائلاً دون تحقيق هذا الهدف.
صحيح أنّ إغتصاب الحقوق هو انتزاع بالقوة أما استرجاعها سلمياً فممكن بحشد تأييد ضاغت من العالم ثمّ استنهاضه لإحقاق العدل.
و كي يسود السلام و يتخصّب الوئام لا مناص من تثقيف العقل و ترويض الغريزة و تهذيب السلوك و تنقية الضمير و صقل المشاعر، فلا يجد عندها العنف و الإرهاب إلى النفس سبيلاً.
هناك مبادىء منطقية و قواعد ضابطة تعتمدها الأمم الحرة لرعاية العيش الهانىء بين كل الجماعات البشرية و شعوب الأرض، قوامها الإحترام المتبادل و التعاون المخلص و التعامل بإنصاف.
و من جنح عن هذه الأصول و هدد الإستقرار و السلام، و انتهك حقوق الآخرين عُوقب و نُبذ.
فمرحباً بمن انخرط في موكب التآخي الحضاري، و اعتنق الإنفتاح و الأمان و السلام، و الويل لمن انحرف و تقوقع، وانزلق نحو مهاوي الإرهاب و العنف و الإجرام!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية