٢٣.٥.٠٩

تغطية الشذوذ إثم

حميد عواد*


لكل مرحلة أبالستها تنقضّ على لبنان من مكامنها، عبر حدوده و داخل أرضه عند نهوضه من كل كبوة أو نكبة، لتحبط إنطلاقه و تجعله أسيراً لشهواتها و لأطماع المتقمصين فيها.
"مواجهة إسرائيل" هي الردح الذي يستولدها و يستحضرها لحرفها عن الهدف المعلن و يستدرجها لزعزعة أمن اللبنانيين و تشريخ وئامهم و تهشيم مؤسساتهم و إنتهاك سيادتهم إضافة إلى التنكيل بالفلسطينيين و مصادرة حقوقهم.
لا شك أن التلكؤ المتمادي في حل الصراع المشار إليه شحذ حدّي الحمية الدينية و إستغل لتغطية أعمال إرهابية و أفسح المجال لنظام ديني إقليمي ب"تصدير ثورته" و نشر هيمنته لتزيد الحل تعقيداً.
هذا المنزلق الديني الخطير ينذر بتطاحن جامح هلاك و طويل الأمد يستحيل حسمه. و قد شهدنا إنحرافاً و تفرّعاً له تلبّسا إنقساماً مذهبياً على خلفية التطفل على قضية عربية فيما أججه جنون سفك الدماء في العراق.
لذا فالحكمة تقضي بتجنب الإستنفار و إستثارة العصب المذهبي سبيلاً لمد النفوذ داخل الدول العربية. فالأسلوب السليم للتعاطي مع كل بلد هو التواصل الراقي مع سلطاته و مؤسساته الرسمية، و الطريق القويم للتعامل مع المجتمع الدولي هو الشفافية و الصدق و إحترام المعاهدات و مواثيق الأمم المتحدة و الإلتزام بقرارات مجلس الأمن.
لبنان يطالب سائر الدول بإحترام سيادته و إستقلاله و حرية قراره و التعاطي معه من خلال رئيس الجمهورية الحكيم و القدير، الموجه لدفة الحكم من قمة هرم السلطات، و التدرج منه إلى سائر السلطات و المؤسسات الدستورية المختصة.
فقد عانى طويلاً من خروق نخرت وشائج مجتمعه التعددي و حروق بليغة أفجعته بها، مباشرة و بالواسطة، دول و منظمات إقليمية بغية إنهاكه و تقويض مؤسساته و إستتباعه.
لا يمكن تجميل إنتهاك السيادة فهو عمل عدائي تخريبي أياً كان مرتكبه. فإذا صدر عن "شقيق" لا يعتبر "حبياً" و لا مقبولاً بل أشدّ مرارة و أعنف إستهجاناً.
تصدياً لتكرار هذه التعديات و تحصيناً للسيادة إلتف المخلصون و نسقوا جهودهم لتدعيم مؤسسات الدولة و إلتزام القوانين و تسهيل ممارسة السلطات لمهامها.
لكن عهد الوصاية "الأخوية"، الذي إنغرز في أحشاء الوطن ثلاثة عقود كابتاً إتفاق الطائف و ماسخاً صورة الدولة، ظل يرعى، بالتنسيق مع إيران، تنظيمات مسلحة أمعنت في عرقلة نهوض الدولة، و إستباحت القوانين و الأصول و المؤسسات و نفرت و أقلقت بقية شرائح المجتمع.
إن الفصيل الخاص الذي أعدّ تنشئة و تدريباً و تسليحاً لمقارعة إسرائيل، ضمن إرتباط عضوي مع إيران و تنسيق لوجستي مع النظام السوري، بلغ درجة من الإقتدار و التنظيم و التجذر في مواقعه جعلته، حسب خطة مسبقة، يستقوي على مؤسسات الدولة و يرفض تجيير قدراته لوضعها تحت إمرة السلطة الرسمية، بذريعة إتهامها بالعدائية و بالخضوع لمشيئة الدول الكبرى، فيما هو شريك نافذ فيها.
يبدو بديهياً أن هذا الإدعاء ساقط و هو تهرب من واجب وطني و رهان على الوقت يبيّت نوايا غير سليمة. إن نمو شبه دويلة مستنسخة في لبنان عن النظام الإيراني تحاصر بؤرها الأمنية تدريجياً مختلف بقاع الوطن ضاغطة على سكانها، فيما تصرّ قيادتها على فصل إدارة شؤونها عن كنف الدولة اللبنانية، هو قضم منهجي لسلطاتها و مؤسساتها ينجب عواقب وخيمة.
إن الإستقواء بقرقعة السلاح و حشد الرجال في مواجهة مواطنيهم لحسم ميداني لشأن سياسي هو عمل مسيئ لأهل الوطن الذين أضناهم التهويل و التنكيل. فحرية الرأي و العقيدة لا تجيز إكراه المستقوي لمن يخالف نهجه على الرضوخ لمشيئته.
التزمت مذموم فمساحة الحوار و التلاقي في القيم الروحية المشتركة واسعة تجمع الناس و تهذب النفوس و تنقي الضمائر و تقوّم السلوك. أما الخصوصيات فلا تلائم قيام الدولة المدنية الديمقراطية الحاضنة لكل أهلها و المحفزة لإبداع مواهبهم و إبتكار قرائحهم و الراعية لغنى تنوعهم.
الحرية الرصينة الناضجة تنعش أنفاس اللبنانيين المدمنين على تنشقها مع رحيق الورود الفيحاء في ربوع لبنان. كما أن المصل المحيي للعيش فيه، يضخه في عروقهم الإنفتاح الفطن و العلاقات البناءة و الندّية الصائنة للكيان، و النشاط الدائم الخيّر و المجدي و النهل من منابع المعرفة الصافية و السخاء في الحب و العطاء.
إنه تراث اجيال فريد تبلور عبر مجرى تاريخ وطن الأرز الذي إمتزجت فيه روافد من أعرق التيارات الحضارية. فمن ذا الذي يرضى بوقف ضخّ هذا الإكسير المنعش لنبض الحياة.
لقد أنهك لبنان على مدى ما يقارب أربعة عقود لم نبرأ من بلاياها بعد. قوافل من الشهداء إفتدت، خلال صولات نضال متلاحقة، و حمت حرية و سيادة و إستقلال هذا الوطن.
فلنتذكر جلل هذه التضحيات و لنفِ بعهودنا للوطن و لكوكبة الشهداء بصونه و تطييب جراحه و إنهاضه. و لا يغيبنّ عن البال أن الدعم الدولي الحثيث البارز الحضور و الموثق بقرارات متتالية صدرت عن مجلس الأمن، ساهم في الإستجابة لتوق اللبنانيين إلى الحرية و أطلق المحكمة الدولية الخاصة بلبنان و حقق جلاءً شبه مكتمل للجيوش الإقليمية عن لبنان محبطاً أطماع قادتها.
أما أنصار إعادة لبنان إلى حظيرة الوصاية الإقليمية، الضالعون والممعنون في إجهاض الكيان، فيحذرون من "إنفكاك" لبنان عن محيطه، و المقصود إلحاقه بإمرة النظامين السوري و الإيراني، و يظنون أنهم إبتكروا فذلكة حذقة لتجريده من الحضانة الدولية للإستفراد به.
لقد نصّب هؤلاء أنفسهم قيّمين على "تشخيص مصلحة النظام" فقد ورثوا "صلاحيات" أسلافهم و حلفائهم، "ضابطي" إيقاع التحكم برقاب اللبنانيين، و إبتدعوا "حق النقض" و إمتحان كل مرشح لمنصب ما ليقرروا مدى "أهليته" و "إنسجامه" مع أفكارهم و "تطابق" كفاءاته مع معاييرهم.
و لأن هذه المعايير "دقيقة" و "أمينة" نراهم يسفهون السلطات و يطلقون الأحكام و يفتون الإجتهادات لتبرز، كحصيلة، إرادتهم بوصلة لتحديد وجهة المسار و إبرةً لميزان العدالة. تبعاً لذلك تبدو المشاركة في الحكم محصورة في البصم على إجتراحاتهم.
لقد إكتشفوا أن شعارمحاربة الفساد و الوعد بالإصلاح، وطول باعهم "مشهود" في هذا المجال، يخلب الأنظار، فإعتمدوه لهواً يشيح الإنتباه عن إقلاع القطار نحو مشروع جمهوريتهم "الفاضلة". فسار في موكب واحد حلفاء النظامين المتضامنين و المتكافلين السوري و الإيراني، عتاقهم مع جديدهم، حيث إمحى فجأة التناقض الحاد في المبادئ و إمتص العامل المذهبي لفريق الطابع المدني و العلماني للآخرين.
فكفى لنجوم الذمية من بين هؤلاء فرصة التمتع بفسحة المشوار ليحلموا بسراب الجمهورية الثالثة قبل أن تتبدد الأوهام و يستيقظوا على معالم "الجمهورية الفاضلة".
قبل الإقتراع في السابع من حزيران يجب التأكد من وجهة القطار الذي يستقله المقترع كيلا يُخطف إلى سوق النخاسة.
حذار التفريط بمنجزات النضال السيادي و الإنصياع لأمر "إلى الوراء در و سر".

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤو اللبنانية