١٤.١.١١

إتّزان وخلل، سموّ وإنحطاط

حميد عوّاد*
تطلق صرخة كلّ مولود يطلّ على العالم نبضات "عدّاد ساعته" التي تؤشّر عند إكتمال دورتها السنويّة إلى فجر عام جديد يفتح بصيرته على معارف وتجارب جديدة تكسبه كفاءة و خبرة ومهارة خلال مَخْره عباب يمّ الأحداث وخوضه مغامرات معاركتها.
سرّ النجاح يكمن في تأمين بيئة تنشئة راقية نقيّة من الشوائب ترسّخ القيم السامية والشراكة الإنسانيّة واجباً وحقوقاً ومسؤوليّة ونشاطاً وإلفةً وتوفّر الفرص المتكافئة والعدالة الحكيمة وتؤمّن إعداداً غنيّاً بالمعرفة ينميّ الضمير ويرهف الوجدان ويشحذ المنطق ويصقل الذكاء ، ويثبّت الحقّ ويدحض الباطل.
لكن الإنحرافات الخطيرة التي تنخر بعض البيئات المنغلقة وتصيب أحياناً مواقع السلطة غدت أشرس التحدّيات التي يواجهها العالم اليوم لأنّها تبثّ الخلل والفوضى وتنجب الإجرام.
إنّ التصدّي الجادّ لهذا الإنزلاق يُحتّم معالجة جذريّة تطبّق على مصدر العلّة ألا وهو "مدارس" تُلقّن الكراهية والحقد والخصومة وحصرية "التميّز" مدّعية إستقاءها من "توصيات علويّة" لا "صلاحيّة" للبشر في نقضها.
هكذا يهبّ "خرّيجو" هذه المدارس المضلّلون للقيام ب"واجبهم المقدّس" في "معاقبة" من يتجرّأ على مخالفة معتقداتهم، ويصبح سفك الدماء طقساً إحتفاليّاً وممارسة عبادة ودليل تقوى و"نشاطاً" يستحقّ الثواب.
في هذا السياق تُرتكب المجازر الإرهابية وتُسفك دماء الأبرياء والمتنوّرين في باكستان وأفغانستان والعراق وتستنسخ في مصر ودول أفريقيّة أخرى كما تصيب تموّجاتها بلداناً مضيافة راسخة ومتينة الأنظمة.
في ظلّ الجهل والفوضى والتصلّب الذهني و التعصّب، يتفاقم التناحر المذهبي و يدخل أحياناً طور حلقة الثأر الجهنّميّة ويوسّع إطارها ليزهق أرواح المختلفين دينياً ضيقاً وتبرّماً من ممارستهم الحميمة والحميدة والهادئة والحائدة والمسالمة لطقوس العبادة والصلاة.
يُصدم الناظر إلى بيئات التخلّف حيث يجري "تجويف" وجدان الإنسان من القيم و"تحنيط" العقل البشري فيُحرم من نعمة التطوّر ويغدو عبداً مسيّراً إلى المهاوي فيما يجده زاخراً بالنشاط والإنتاج ومكلّلاً بالإنجازات المدهشة في المجتمعات الراقية التي توفّر له "حراثة بالمعرفة".
مثلما "تُطعّم" أغصان الشجرة البرّية باغصان طيّبة ومنوّعة الثمار يجب "تلقيح" العقول ببذور الخير لتينع وتفيض عطاءً وبِرّاً على مجتمعها.
لبنان لمع بغناه الحضاري و جماله الطبيعي وحزمة أضواء قوس قزح المنبعث من نسيجه البشري الذي تحوّل شلاّلاً من العطاء كلّما تعانقت ألوانه مؤتلفة فيما خبا زهوه ونضب عطاؤه كلّما تشتّتت أضواؤه خلال عصف النزاعات التي إنصبّت عليه.
ليس أمرّ من تجريع العلقم عنوة لمن تعوّد على حلاوة الحياة وليس أخبث من تحطيم كبرياء النفس وتنغيص هناء وعزّ العيش بغصّات القهر وعضّات ألم الجوع و العوز.
قد يتمكن بعض اللبنانيين داخل الوطن أو خارجه من التفلّت موّقتاً من متاعب الحياة و معاناة الأهل في لبنان ليحتفلوا بإستقبال سنة جديدة فرحين متفائلين، لكنّ الكثيرين منهم غير قادرين على طرد هواجسهم وتخدير آلامهم وسدّ رمقهم ليستلقطوا أنفاسهم ويستعيدوا وعيهم.
لا يجوز السكوت على عذابات اللبنانيين وطمس تضحياتهم بعدما تناوب على خطفهم رهائن أفواج من الخاطفين المتنوّعي "المنشأ" أرهبوهم ونكّلوا بهم وحاولوا إذلالهم وإجهاض أنتفاضاتهم و نهضاتهم ضاغطين عليهم لتهجيرهم من "مراقدهم" كما تفنّنوا في إبتزازهم لنكران ولائهم الوطني وتجريدهم من عنفوانهم وهويتهم وأملاكهم.
ليس مستغرباً أن يثبت فعل اليوم قول الأمس عندما عبّر مسؤول في "الكيان الثوري" الذي صاغته "الثورة المصدّرة" إلى لبنان أنّه لو خُيِّر بين أمن الوطن وأمن "الكيان" لإختار الثاني علماً أنّ التناقض لا يحصل إلا في وضع إنفصالي عدائي.
فما نشهده اليوم هو شلّ لمؤسسات الدولة وتجميد لأعمالها ووقف لعجلة الإنتاج وحبس لأنفاس المواطنين وكبح لأنين جوعهم وألمهم كرمى لرفض مسبق غير منطقي لوجهة القرار الإتّهامي للمحكمة الدوليّة الخاصّة بلبنان والتنصّل من الإلتزام المبرم بها لأنّ ظنّ "أهل الثورة" وراعييهم الإقليميين أن الإتّهام سيطالهم.
فمن إرتكب جرائم الإغتيالات في لبنان تعوّد على النفاد دون محاسبة لأنّ القضاء الوطني كان مكبّلاً.
لذا تشكيل المحكمة الدولية المختلطة المخصّصة لكشف قتلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري وقافلة رفاقه الشهداء من نجوم "ثورة الأرز" جسّد إرادة لبنانيّة-دولية مشتركة حازمة لتخليص لبنان من براثن "نقابة الإجرام" التي درجت على زهق أرواح من يناهض طغيانها.
لكسر طوق الحصار المزمن والخروج من دوّامة المراوحة لا بد للبنانيين الشرفاء من جمع الشمل ورصف الجهد وصدّ الجور حماية للوطن وتدعيماً لمؤسسات الدولة وترسيخاً لسلطاتها وتوطيداً لسيادتها.
لكن بدل تبديد شبح الهجرة عن المقيمين وإفساح العودة للمغتربين الذين هجرت غالبيّتهم الوطن تحت وطأة الظروف الخانقة يعمد أصحاب النوايا "الطيّبة" إلى "تمديد" الأزمات و يستخدمون كل الوسائل والسبل لإحباط كلّ تشريع يسهّل إستعادة الجنسيّة لمن إفتقدها أو يمكّن المغترب من ممارسة حقوقه السياسيّة والمدنيّة و الإقتصاديّة في وطنه الأمّ.
وهناك مال سياسي مشبوه المقاصد يغدق على فئات معيّنة لتشتري به أملاك اللبنانيين المنهكين نفسيّاً ومادّيّاً فتُقطع جسور التواصل مع حضن الذكريات وخزّان التراث و يتكرّس الإنفصام عن أصالة الذات.
في ظلّ هذا الواقع المأساوي الذي يجري فيه عمليّاً ليس فقط "فرز" جغرافي طائفي وإنّما أيضاً قضم لأملاك المسيحيين ليس مستغرباً أن يطرح الوزير بطرس حرب مشروع قانون يمنع مؤقّتاً بيع العقارات بين الطوائف لإيقاف هذا النزف الخطير.
يفوت الذين يشيرون إلى الدستور أن يدركوا أن ما يحصل هو طعن له لأنّه إبتزاز تحت وطأة ضغوط هائلة (القلق من زعزعة الإستقرار والتمسّك بالسلاح الفئوي والإغراء بالعروض المضخّمة) للتخلّي عن الممتلكات و فرز جغرافي طائفي يخلّ بميثاق العيش المشترك ولا تقرّه الأخلاق ولا التضامن الوطني.
من يهمّه توطيد الشراكة الوطنيّة وترسيخ الإستقرار عليه العمل على رفع الضغوط الجاثمة على صدور اللبنانيين وكفّ عمليات الشراء الخبيثة ومساعدة المحتاجين بتأمين القروض المتهاودة.
إنّ سياسة ترجيح "ثقل" فريق ما بتخصيب الذُرّيّة والذَرّة والتسلّح والتموّل هي خداع وتآمر يستهدفان تقزيم وتهميش بقيّة الشركاء في الوطن وهي غاية سقيمة ومفضوحة ومرفوضة.
كما هي جنوح أهوج يثبت عدم إكتراث بمستقبل الأجيال فيما تتضخّم كلفة المعيشة وتضمر المداخيل وتشحّ المصادر الطبيعيّة وينضب الغذاء وتتقلّص إمكانات توفير العناية الصحّية والتعليمية.
الخروج من شرانق القوقعة وتحرير الذات من الشرور والشره والأنانية والغرور، والتخلّص من شحن وتوتّر و"وشم" كلّ أنماط العصبيّات القبليّة والإنضمام إلى "ورشة" التآخي الإنساني وشبك الجهود لإنتاج ونشر الخير، هي السبل المتآلفة الآيلة إلى العيش بوئام وسلام وهناء.
*مهندس وأكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية