٢٧.١٢.٠٨

فضاء الحرية لا فلك "الثقب الأسود"

*حميد عواد

مدرسة الحياة توفر دروساً قيّمة لمن يعتبر و يستخلص الجدوى مما حصل.
نبيه من يتعلّم من أخطائه و أحذق منه من يتعلّم من أخطاء غيره فيتحاشاها.
لكنّ الغريب في عصر التجلي و التنوير، الذي يحملنا على متنه، أن يبقى الظلام مخيّماً على بعض البيئات و يعمي البصائر، فيقع أهلها ضحايا أستغلال "رعاة" ديماغوجيين و دجّالين و مخادعين، يتملّكهم هاجس دوام سلطانهم و تجديد "بيعتهم" و حرمان "رعاياهم" من نعمة المعرفة و مذاق الكرامة الإنسانية.
و كي لا يفقدوا زمام السيطرة و أعنّة الإستعباد، يطوّقون كل من يصحو من ربقة تخديرهم، ليأمنوا شرّ فضحه آثامهم و حشرههم داخل حلقات المساءلة و المحاسبة.
ثم يلتفون حول إحباط كل جهد إصلاحي و يواظبون على ممارسة أساليب التجهيل و التضليل و التنكيل و شحذ الغرائز و "تسمين ثيرانهم" و ترويج نخاستهم لضبط و تطويع "رعاياهم".
إنّ التوق إلى المعرفة مفتوحة أمامه سبل الإتصالات الحديثة التي تفتح نوافذ إلى النور حتى في بيئات منغلقة.
لكن إيكال التدبير إلى أفراد محدودي الإمكانات و القدرات يبقى ضعيف المردود بطيء الخطى.
لذا لا بد من تضافر مساعي الأحرار في أرجاء المعمورة لمساعدة ضحايا الإستبداد ورهائن الجهل و الكبت و التضليل.
و البداية السليمة تنطلق من الإرشاد المحفز للوعي و الإعداد المحصّن لآليات الحصاد وجني الثمار.
لكن ذلك ليس سهل الإنجاز في مواطن إغتصاب الطغاة الظالمين للملك و كرامة الإنسان.
رغم تعثر بعض تجارب تفكيك الأغلال سابقاً لا بد من إكمال جهد تحرير الطاقات المكبوتة و الكفاءات المكبّلة بوسائل أنجع، لأن التخاذل أمام عصب التألّه و التخلّف و التعصّب و الإرهاب، أينما نمت، لن يسلم من شرورها شعوب الأرض قاطبة.
إن الإسراع في حلّ الصراعات و النزاعات بجرأة و نزاهة و عدالة و حزم يكسح الكثير من الألغام من دروب تعميم التفاهم و التعاون و الوئام و السلام و الرفاهية.
فجحافل الإنحطاط كامنة لمواكب الرقي لتنقضّ عليها و تغدر بها حين تعثرها. و المعالجة لا تتوقف على أستصلاح البيئات الموبوءة بل تتعداها إلى حماية موائل الحرية و محاضن تمازج الحضارات من غزوات جاهلية.
و لأنّ لبنان زهوة العنفوان و نهدة الحرية و جنة الإلهام و نعيم العيش و خمّارة الفكر و منبت الخير و مصنع الأفذاذ و معقل الأحرار، تناوب الطامعون و الهجّانة الموتورون على طعنه بنصالهم و حرابهم المسمومة لتمزيق نسيجه الإجتماعي و تهشيم طابعه الحضاري المميز و تشريد أبنائه.
إن الدعم الدولي المشكور، قرارات و تدابير، لنضال اللبنانيين أمّن سنداً متيناً و مستمراً و فعّالاً لإستعادة حريتهم و إستقلالهم و سيادتهم و لحماية منجزات تزداد تبلوراً.
عنفوان كلّّ لبناني فخور بهويته الوطنية و مخلص لتراثه العريق، ينفح فيه المروءة لدفاع شرس عن قيمه و أرضه و مؤسسات وطنه.
و الولاء الوطني ينقشع صافياً متى لم تشبه زندقة تناقضه.
إذ لا يمكن الركون إلى الإعلان عن الإنخراط في ورشة بناء و ترميم مؤسسات الدولة المدنية بنظامها البرلماني الديمقراطي الحرّ، فيما نجد فريقاً أنشأ دويلته الخاصة و بطّن "تقيّة" سلّمت أمره إلى مرجعية، خارج الحدود، عقيدتها منافية للقيم الديمقراطية.
و لا يمكن منح الثقة لشبكة من مجموعات جنّدها و خلّفها نظام "الإنبعاث" من الفشل، ببطشه و مراوغته، بعد جلاء عسكره عن لبنان.
و لا يمكن الوثوق بمن فقد ذاكرته و هويته و تبرّأ من "مطالعاته" السيادية السابقة، فهادن و "نقى الوجدان" في "الجوار" فيما ثابر على التحريض و نبذ المصالحة في "عقر الدار".
و عبثاً التغاوي بمظاهر الحفاوة و "التفخيم"، و "خطف" الألقاب بالتشويش و التأليب على المقامات الرفيعة فهي "مجد" باطل و شيكات بلا رصيد.
إن المحكّ لصدق دعوات الإصلاح و البرّ و الخدمة و الفضيلة هو الإلتزام بها و تطبيقها على الذات قبل "الغمز من قناة" الآخرين.
فكم من سلوك معوجّ كذب إدعاء الإستقامة.
إنّ مسلك فخامة رئيس الجمهورية ميشال سليمان، الحاظي بإعجاب و إحترام جامعين، يصحّ أن يُعتمد معياراً لقياس أداء أرباب السياسة، فهو مطبوع بسعة الفكر و رحابة الصدر و ببعد النظر و رجاحة المنطق و رسوخ الإيمان بالوطن و الإلتزام بصيانة الدستور و تعميق الحوار و حماية السلم الأهلي و حفظ كرامة المواطن و سلامة ربوع لبنان.
كما أن غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير يملي التقدير و الإحترام بمهابة تقواه و عمق حكمته و طهر تفانيه. إنه حقاً ضمير لبنان و وجدان بنيه.
ذروة اليقظة هي ذخيرة الخلاص في خضمّ التجاذب السياسي الحالي.
الوطن بحاجة إلى كل ذرّة من طاقات و قدرات و تعاون و محبة أهله لرصفها في بناء و ترميم مؤسسات الدولة توطيداً لدعائم الديمقراطية و الحرية و السيادة و الإستقلال، و لإحباط المحاولات الخبيثة المقنّعة و السافرة لدفعه نحو "الثقب الأسود".

* مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١.١١.٠٨

صبّ الجهود الطيّبة لإكتساب المناعة

*حميد عواد

لبنان الوديع ينهض على وقع وعد "لبّيك لبنان!" مع إنتفاض أبنائه المخلصين من ركام تخريب الشياطين، و إنتصابهم لإفتدائه بالمهج و إنعاشه و إبراز قيمه الأصيلة، ببذل جهود حثيثة معجونة بالعرق و الدمّ و العنفوان و الوفاء و المحبة.
لبنان يسامح من أساء إليه و شوّه قسماته البهيّة شرط الكف عن الإساءة و التشويه. و هو يفرح ليقظة الضمائر الآيبة من آفاق السراب و التيه.
لبنان يسعد لتفتح بصائر مجتمعات منغلقة أدركها نور نجمه فأكتشفت فيه موئلاً للوئام، لا مسرحاً للخصام، و حوضاً خصباً للتفاعل الخلاّق، لا مسلخاً وسخاً للتناحر الهلاّك، و حاضرة حاضنة للعمران، لا بؤرة توتير للتخريب، و منتجعاً مضيافاً للإستجمام لا "مكسر عصا" للحاقدين و لا "حقل رماية" للمتدربين او "ساحة وغى" للمتطاحنين أو ميدان "حروب وقائية أو بديلة" للمتنازعين.
لبنان ينشرح لمبادرة أصدقائه الكثر إلى زجر و ردع مصادر التهديد و الترهيب، و يقدّر مساعداتهم الإقتصادية و المالية و العسكرية، و مواكبة نهوضه بتعزيز سلطاته و تدعيم مؤسساته و إزالة العقبات و العوائق من درب سريان دورة الحياة الديمقراطية و تزخيم مواهب أبنائه لصبّها في سياق دفعه قدماً نحو الرقي و الإزدهار.
لبنان بدأ بإستعادة زهوة مجده كمنتدى للثقافة و محترف للفنون و مربع للسياحة و صرح حضاري لتعانق الأديان و قد توهّج قبسٌ من أنوار دوره الوئامي و المبدع بالأمس في إحتفال تدشين التحفة المعمارية مسجد محمد الأمين، و ذلك رغم حؤول الظروف الراهنة دون ترسيخ سلطة الدولة على كل الأراضي اللبنانية و ممارسة واجبها الجوهري في حصر حمل السلاح بقواها الشرعية دون منازع لحماية سلامة و حقوق المواطنين و حرمة المؤسسات و صيانة الحدود.
لكلّ مواطن أو زائر ملتزم بالقانون حقّ، غير قابل للجدل أو النقض، بالتنقّل بحرية في ربوع لبنان دون "مفاجأته" بإدعاءات "إنتهاكه" مناطق "عسكرية" غير نظامية تجعله معرّضاً للإستجواب أو حتى تحوّله "هدفاً" لإطلاق النار. إن التعبير الصريح و البليغ عن رغبة من أنشأ فصائله المسلحة الخاصّة داخل لبنان، بتسهيل نهوض الدولة اللبنانية و إحترام سيادتها و إستقلالها، يتجسّد في تفكيك فصائله أولاً و تجيير طاقاته لصالح تدعيم سلطاتها، و إلا ضاعت المساعي هباء و أفصحت التصاريح الإنشائية عن هراء و تهكّم يفضحان الستار الواهي المموّه لنوايا خبيثة.
إنّ حرية الفكر و العقيدة و التعبير هي حقّ فطري و بديهي مصون دستورياً و راسخ في لبنان طالما لم ينتقص من أو يتعدى على حرية عامة الناس.
لكن الجنوح بممارستها إلى التهويل و العنف و الجموح إلى الهيمنة و الإكراه هو شذوذ خطير، لا يخفف من أذاه "تطمين" بتأجيل "التنفيذ" (الإطباق) إلى حين "نضج ظروف التخصيب و التغلغل الميداني".
و لا يطمس عوراتها بخور "إغداق الحفاوة و التكريم" لمن أنتج إضطراب مفاهيمه و إختلال موازينه تبديداً لرصيد مناضلين أبرار من صفوة اللبنانيين خلال جهود "نُذرت" ل"أللبننة" فإنعكست و إنقلبت "أيرنة" و "سورنة"!
في خضمّ حركة بورصة الإبتزاز السياسي يضغط "متعهّدو" مسخ وجه لبنان المتألّق و إغتصاب دوره الطليعي و نهش تراثه المجيد بإتجاه الإرتداد إلى سوق النخاسة التي سادت ثلاثة عقود و الإحتفاظ ب"الغنائم" التي أباحها لنخّاسيه في كافة مؤسسات و إدارات الدولة و أخطرها في المجالين الأمني و القضائي.
لذا يروج التبادل العجيب و التداول المريب و يُسوّق الذمّ في معرض المدح و يُضخّ السمّ في خلاصة الدسم!
لكن الأمل و التفاؤل ينتعشان مع تبلور الإرادة الحرّة و إختمار الوعي و رجحان كفّة الحكمة و تكوكب الطلائع السيادية و تتابع خطوات التلاقي و جهود التهدئة التي نتمنّى أن تؤول إلى نقاء الضمير و صفاء الوجدان و جلاء الرؤية و إرساء الإيمان بالوطن و إنماء اللحمة الوطنية.
لضمان نجاح عملية الإقلاع و التحليق نحو آفاق الهناء، لا بد من إشراك فعلي لجناح الاغتراب اللبناني المرن و النافذ إلى جانب إخوته المقيمين، فيزداد زخم الطيران.
و لا بد من التنويه أن تنشيط الجهود الخيرة، الآيلة إلى تأمين حياة كريمة للبنانيين، تترافق مع رفق ببيئتهم الطبيعية الخلاّبة و تثمير لغلاّتها و تسخير لطاقاتها النظيفة الشمسية و المائية و الهوائية.
فيما تشكو السوق المالية العالمية من "فقدان المناعة (و الثقة) المكتسبة" نرجو أن تُنسج المناعة الوطنية دون زغل متغلبة على دسائس التفرقة ومحبطة لمغريات تهجين الولاء و شراء الذمم.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٨.٩.٠٨

ذخيرتنا الإيمان بالوطن

*حميد عواد

بثّ الخوف و نشر الرعب في نفوس الناس، تهويلاً بالتعنيف و الإستقواء و ترهيباً بشهر السلاح و التنكيل و ترويعاً بالقتل، هو الأسلوب الهمجي الذي تتقنه و تعتمده القوى المتوحشة لإخضاع الناس و إخراسها و تصفية العاصين على التدجين، إغتيالاً أو تهجيراً أو محاصرةً و قمعاً و إضطهاداً أو زجّاً في الزنازين.
تحت وطأة و هول هكذا ضغوط قاهرة يُغيّب الضمير الحرّ و يُخنق صوت الحكمة و يُجرّم الرأي الصريح و الصائب بينما يعلو صخب الغوغاء و التطرّف و الإنتهازية، فيرتاح المفترسون لفرض "ملك" إغتصبوه و غنموه من هضم الحقوق و تعطيل الفكر الناقد و من كشف الحساب الدقيق.
شهد اللبنانيون و صدوا بصلابة صولات و جولات للباطل على مدى عقود في ديارهم. لكنّ ذلك أضناهم و إستنزفهم و أحدث شروخاً في البيئة الإجتماعية و فرزاً جغرافياً بسبب إختراق النفوذ الغريب لنسيج المجتع المختلط خاصة عبر "الضيوف" و "الوافدين" و "الناشئين" على تلقين متزمّت و صراع مستديم مع إسرائيل و نهم جامح لإلتهام لبنان. و في ظلال الفوضى "فرّخت" بؤر تخريب و قواعد مسلّحة متطاولة على سيادة الدولة و متآمرة على أمن المواطن تحت شعارات و ذرائع منوعة و خادعة.
رغم المساندة الدولية المستمرّة لردع الإنتهاك و الإقتحام الإقليمين لحرمات الوطن، مساعٍ و قراراتٍ أممية و حشدٍ لقوات حفظ السلام، و رغم الدعم الحثيث لنهوض الدولة بعد كلّ كبوة برفد جهود مسؤوليها و تزويد و تجهيز مؤسساتها و شدّ أزر الجادّين و المؤمنين بقيام الدولة السّيدة و المستقلة و المسيّرة بحكم القانون المنبثق من الدستور، ينكبّ المحور الإقليمي الإيراني-السوري على تعزيز نفوذه داخل لبنان عبر استنفار "مسلحيه" المرتبطين عضوياً بأوامره مقتطعاً "قواعد" عسكرية يحرك شاغليها طبقاً لمقتضيات تناطحه و تفاوضه مع المجتمع الدولي.
لآ شكّ أنّ إيران الأثقل وزناً و الأكثر إقتداراً و إكتفاءً و غنى في هذا المحور، هي الأكثر ثقة "لنجاح سياستها في لبنان" حيث أوجدت كياناً كامل التجهيز و التسلح و التدريب منافساً لمؤسسات الدولة يذّكر بدويلة منظمة التحرير التى تفككت في لبنان لتقوم في مكانها المناسب: الأراضي الفلسطينية.
لقد شقّت فيالق هذه "القواعد" طريقها إلى الحكم في لبنان لتثابر على توسيع تفوذها و مدّ سيطرتها داخل المؤسسات، و لتواظب على الضغظ الميداني لفرض إرادتها المتحدّرة من مخططات أوليائها.
و طالما إستمرّ فرض مصالح المحور الإيراني-السوري على حساب نهوض و إستقرار الوطن و طالما تواصل تقويض مؤسساته و هضمه و قضمه من الداخل بقي لبنان في دائرة الخطر.
كلما سلك المجتمع الدولي الطرق الدبلوماسية للتعاطي مع هذا المحور، كلما إعتبر الثنائي الإيراني-السوري و طوابيره أنه أنتصر.
في سياق تحصيل الأثمان القصوى للكفّ عن مشاغباته يجزّئ النظام السوري صفقاته. ها هو "يبيع" الرئيس الفرنسي نيقولا ساركوزي وعداً بإقامة علاقات دبلوماسية "حصّله" الرئيس اللبناني ميشال سليمان خلال زيارته لدمشق، ليستوفي ثمنه زيارة من ساركوزي لدمشق. و قد كان قطف ثمار "تسهيل" إجراء الإنتخابات الرئاسية في لبنان ثم تشكيل الحكومة فكّاً جزئيّاً لعزلته الدولية.
لكن المتتبع لتصريحات المسؤولين السوريين فيما يخصّ لبنان يجد أنها تنمّ و تنضح بوضوح عن حلم إستعادة السيطرة عليه. فالدخول الروسي إلى جورجيا و أوسيتيا و أبخازيا دغدغ "حنان" الرئيس السوري بشار الأسد لعودة إلى لبنان. كما أنّه لمّح إلى تدخّل عسكري بذريعة حماية جماعات يعتبرها من "عظام الرقبة" قاطنة في شمال لبنان زجّت في معمعة إشتباكات مسلحة مع جماعات مختلفة "اللون" لكن مماثلة الإرتباط بمن دبّر هذه الفتن.
تحضرني نادرة في هذا السياق تتعلق بفرد يعاني من عقدة نفسية تجعله يظنّ أنّه حبة قمح لأنّ دجاجة جيرانه تطارده. و بعد الخضوع لمعالجة نفسية وثق أنه ليس بحبة قمح. لكن ما أن رأى الدجاجة هرب. فسئل لماذا هربت فقال أنا موقن أنني لست حبة قمح لكن عليكم أن تقنعوا الدجاجة بذلك.
قطعاً لدابر الفتنة حزمت الحكومة أمرها و نشرت لواءً من الجيش اللبناني في مناطق التوتر (طرابلس، التبانة، جبل محسن) بعد التمهيد بإجراء مشاورات واسعة مع ممثلين رسميين و عير رسميين. و أرفقت الإنتشار الأمني بخطة للتنمية الإجتماعية و الإقتصادية لتجنيد كل الطاقات في العمل المجدي و المثمر. هكذا يستنفد حملة السلاح غير الشرعي طاقات جيش الوطن بإفتعال الفتن المتنقلة.
في غمرة الحديث عن إستكمال جلسات الحوار تحت رعاية و إدارة رئيس الجمهورية و بحضور عربي، و عشية تعيين قائد أصيل للجيش، صُعق اللبنانيون بخبر إستهداف مروحية للجيش اللبناني بنار عناصر من التنظيم المسلح المشتقّ من "عظام رقبة" النظام الإيراني، و فجعوا بمقتل ضابظ مرموق عالي المناقب و مصقول المهارات و متعدد المواهب و الكفاءات هو النقيب الطيار سامر حنا. كل المخلصين المتشبثين بتوطيد دعائم الدولة أحسّوا بالمرارة لسقوط شهيد غالٍ، فلذة من كبد الوطن، أرداه رصاص أضاع البوصلة أو أعماه التضليل، فإعتبر كل من إقترب من "قاعدة" إقتطعها من أرض الوطن، هو "عدو" حلّ هدر دمه. المسؤولية ليست فردية و ليت "تحمّلها" يرد الروح لفقيد الوطن.
إنّ محاولة التخفيف من حدة الغضب لا تجيز، "لياقة"، تصنيف هكذا خسارة فادحة حادثاً عابراً، و لا التلميح بأن الفريق المرتكب و إن سلم مطلقاً للنار، تطوّع للإستسلام، ليس ملزماً بالخضوع للمحاسبة.
تنقيباً عن الوضوح في المفاهيم يستذكر المراقب جملة الإفتراءات السابقة على الجيش الهادفة إلى تكبيله و كيف "تحوًر" قرار من مجلس الوزراء السابق "حرباً" فشُنت بإسمها حملة "تأديبية" و "نظيفة" في بيروت و الجبل. ثم يتساءل: هل شُبّه للعين "الراصدة" رؤية العدو في "عيينة" البندقية التي إرتسم في بؤرتها رأس قائد المروحية و غاب عنها العلم فضُغظ على الزناد؟
غريب تنطح من قايض تراث نضال شباب سيادي ب"حضانة ذمّية" و "إمتيازات منوعة" لينبري للدفاع عن حاضنه شاهراً سيفه المستعار في وجه منافسيه و أخصام حليفه!
حبّذا لو توقظ هذه الصدمة كل الضمائر الخدرة، فيستعيد المواطن المحبط أو المضلل عافيته الفكرية و يتحوّل من مفعول به و فيه إلى فاعل نبيه يكرّس ولاءه لوطنه و يلتزم المصلحة الوطنية الشاملة و يفضح المشعوذين و يكشف أضاليلهم.
للإسهام في نشر التوعية و التربية المدنية السليمة يجب على وزارة الإعلام بالإشتراك مع وزارة الثقافة تنظيم حملات تثقيفية من خلال شعارات مأثورة
عميقة المدلول نافذة التوجيه تلزم كل وسائل الإعلام بنشرها و بثها بلا مقابل على دفعات يومياً و تنظم بالتعاون و التنسيق مع رجال الفكر و المؤسسات الثقافية و التربوية ندوات تروّج لتوسيع آفاق المعرفة و شحذ المنطق النقدي و تنمية الطاقات و المهارات و "تخصيب الخير" و "تعقيم الشرّ".

* مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

٢.٧.٠٨

حبّذا العودة إلى الرشد

حميد عواد*

يُحسد لبنان على موقعه الطبيعي الآمن نسبياً من ضربات الهزّات المدمرة و المتكررة، و البعيد عن مدى إنفلاش حمم البراكين و مسارات الزوابع و الأعاصير و عن نطاق بيْد القحط و الجدب و التصحر.
و يُشتهى أكثر لغناه الطبيعي و خصبه و جودة ثماره و طيب مناخه و شواهده التاريخية البارزة للعيان أو المطمورة في كل أرضه.
و لأن "الجنّة من دون ناس (طامحة و مضيافة تضخ فيها صخب الحياة) ما بتنداس"، ما قُدّر للبنان أن يصبح درّة الشرق و منتداه الثقافي لولا الجهود الخيّرة التي بذلها أبناؤه الطافحون بعشقهم لحلاوة الحياة.

يوم نعم لبنان بسلام و إستقرار، أنضجت الخميرة اللبنانية الأصيلة العجين و نفحت نهضة إزدهار و عمران و فورة إقتصاد، و نشّطت التلاقح الفكري والتفاعل الحضاري، فرفعت لبنان إلى مصاف نموذج إنساني فريد و رائد في رقيّه.
لكن للأسف الشديد لم يسلم هذا الوطن الوادع من صليات أطماع الجوار الحاقد، و جموح طغيان العقائد المنحرفة و شهوات السيطرة العنفية، و قذائف البارود و بخّات التحريض، و زخّات المال المسموم التي تناوبت على تخريبه و التنكيل بأهله.
و إذا كانت فظيعةً ذنوبُ الغزاة الذين شنّوا حملاتهم العسكرية على الوطن أو دسّوا الدسائس على أهله، و أهول منها تواطؤ المقيمين في إعداد و حياكة و تنفيذ المؤامرات، فبماذا يُنْعت و كيف يُصنّف حاملو التذاكر اللبنانية الذين ضلّلهم التبشير الهجين فحرفهم عن الولاء الوطني و فسخهم عن مجتمعهم و زجّهم في نهج تصادمي هدّام و خطير؟
يستحق اللبنانيون - بعد طول إجهاد و إستنزاف - فسحة أمان و طمأنينة و سلام لإلتقاط الأنفاس و المثابرة على إحياء الوطن و البناء و الإنماء بالجهود الجبّارة التي ما إنفك عن بذلها الخيّرون خلال إنقشاع فترات الهدوء الفاصلة بين صولات التعكير الناشئة عن إحتدام "مضاربات" بورصة الصراعات الإقليمية.
لا يخفى على أي نبيه مرامي معتنقي عقائد التزمُّت و الفرز و الهيمنة مهما تحذلقوا في تزيينها و إسباغ صفات العصمة عليها.
فإرباك ترميم و إعادة بناء مؤسسات الدولة بذريعة مطالب تعجيزية متوالدة و الإستقواء عليها بالإنتشار الميداني لخلايا و "قواعد" مسلّحة (كالفطر "من فقش الموج لمرمى الثلج"، في عمق السهل و المدن و الريف.) و تطويق المواطنين و المسؤولين و "مداهمتهم!" و التهديد بالمزيد، واضح للعيان.
إن تأسيس "قاعدة" "الرعاية" الإيرانية في لبنان، بالتنسيق الوثيق مع النظام السوري و مخبريه، خلق كياناً يجمع بين مواصفات "الباسيج" و "الباسدران" منفصلاً عن الدولة ، يسعى بشكل حثيث إلى تذويبها في بنيته و إلحاقها بإستراتيجية عرّابيه.
على صورة جموح نزعة السيطرة التي تحرك النظام الإيراني في المنطقة، يتصرف حزب "أبنائه البررة" في لبنان.
و مثلما أنكر النظام السوري على العرب الأقحاح عروبتهم للإستئثار بشعارها، كذلك أنكر أركان الحزب الآنف الذكر على اللبنانيين الأصلاء و طنيتهم.
و كمجلس "صيانة الدستور" الذي يؤهل المرشحين للنيابة في إيران، نصّب نفسه لجنة إمتحان لفرز و رفض أو قبول المرشحين للمناصب "الحساسة" و أكثر.
إن توجيه السلاح نحو المعترضين على "قدسيته" و "حصانته" ضد ولاية الدولة، لفرض مشروع "ولاية" حاضن الدويلة، هو خطأ جسيم شحن العصبية المذهبية و أضعف هيبة الدولة في مواجهة خلايا التطرّف الداعية إلى الحماية المسلحة الذاتية لبؤرها.
يثير هذا الواقع المؤسف في الأذهان القول المأثور: "علّمته رمي السهام، فلم إشتدّ ساعده، رماني!".
لا يظنّن المستقوون بالفصائل المسلّحة على المواطنين الودعاء و دولتهم أنهم يكسبون و يضمنون الأمان من إفتراس "حماتهم"، فكم من غزال هارب من أسد يتّمه ، حظي بحماية أمومة اللبوة لفترة من الزمن تمكن بعدها الأسد المترصّد من مغافلتها و فتك بالغزال.
في هذه الظروف الحرجة لا يجوز الضياع في دهاليز المماحكات السياسية و الطيش في توزيع الأنصبة و المناصب، طالما بقي الخطر كامناً في لبّ الصراع بين مشروع التطور و النمو في رحاب الحداثة النقيّة و الديمقراطية الحقّة، ينازعه مشروع التقوقع و التعصّب و العبودية.
إن عزل الأجيال اليانعة في خلوات التلقين الموتور ليغرز في أذهانها أوامر رجعية صارمة تحرّم الإنفتاح و توصي بالغلبة العددية و التفرّد بالتنظيم العسكري و حمل السلاح خارج مؤسّسات و سلطة الدولة، هو دعوة للتنابذ بدل الإلفة و تفكيك لأواصر الودّ و التضامن و التكافل و التعاضد.
فحرصاً على سلامة الحياة الوطنية يجب تضافر جهود كل المخلصين لإطلاق نهضة وطنية شاملة تدعم تعزيز مؤسسات الدولة و سيادة سلطاتها على كافة المرافق و كامل التراب الوطني و قاطنيه.
الواجب الوطني يقضي بالتحذير من خطورة النهج المنحرف، و بالحضّ على التحرر من العقد و الخوف، و بالإفتخار بقيم التراث الوطني، و بترسيخ أسس تربية مدنية صالحة تساهم في تنقية الضمائر و تصفية النيّات و ترجيح كفّة التعقل و بلورة رؤيا مستقبلية ناصعة و مشرقة للوطن، تليق بنبل رسالته الحضارية و بإستحقاق أبنائه.
في حمأة التناكف و تلاطم الموج بين مدّ و جزر الحركة السياسية و التعكير الأمني و التعطيل الإقتصادي على مدى ستة عشر شهراً عجافاً، إنتُخب رئيساً للجمهورية قائدُ الجيش العماد ميشال سليمان، المرموق الشخصية التي أجمع على تقدير رفعة مناقبها و صفاء وطنيتها و عمق ولائها، كل شرائح الوطن و كل الدول الصديقة.
و قد تمّ ذلك برعاية عربية مشكورة أدارتها دولة قطر و كخطوة أولى من الإتفاق الذي عقد في الدوحة.
و إستجابة لهذا التسهيل و وفاء بوعده، سيفتح الرئيس الفرنسي ساركوزي أبواب الإيلزيه للرئيس السوري بشار الأسد في 13 تموز بعد دعوته للإشتراك في المؤتمر المعدّ لإنشاء "الإتحاد من أجل المتوسط".
أما الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك الذي أوصد باب قصر الرئاسة في وجه الرئيس السوري إستنكاراً لإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فإنه إتخذ موقفاً قاسياً بالغ المدلول بمقاطعة إحتفال العيد الوطني (14 تموز) إستنكاراً لحضور الرئيس الأسد.
في هذا الإطار قد يُعطى الوطن، الذي يقاسي الآن مخاضاً عسيراً لإستيلاد حكومة وحدة وطنية، "حقنة مسهّلة" قبيل الزيارة المذكورة لكسب مزيد من التكريم.
فرأفةً بالوطن و رفقاً بأهله و حرصاً على تسهيل مهمة الرئيسين في إطلاق عجلة ورشة إستكمال بناء الدولة، ليخفّف المتبجّحون من غلوائهم و يكفّوا عن التعقيد المجيّر لحساب مساومات الجار و حليفه الإيراني.
إن فرض الشروط على قيامة الدولة و تشكيل أجهزتها ليس من حقّ أحد بل إن الدولة هي التي تملي، بدستورها و نظامها و مؤسساتها و قوانينها، شروط اللعبة السياسية الديمقراطية على كل الفرقاء.
أحد أوجه المصائب التي تنكب لبنان، هو التطفّل و الإنقضاض على الشأن الوطني العام من جانب جماعات تحاول "تشذيب" اهله و محو تاريخه و تراثه ب"التطهير" العقائدي و الناري.
لا يجوز الإمعان في تشويه صورة لبنان الغنيّ و السخيّ، و لا يصح طمس إنجازات مواهب أبنائه الواسعة الإنتشار.
ليتذكّر كل من يتعاطى بشؤون الوطن أن قرقعة السلاح و ضجيج التهديد و صخب الخطب الجوفاء لا ترفع المقام و لا تبني وطناً. بل بالخدمة المتفانية يسمو الخادم إلى مرتبة السيادة.
فلنقتد بسيرة الطوباوي يعقوب الكبّوشي الذي إغتذى وجدانه من النعمة الإلهية فكرّس حياته لخدمة الضعفاء و أواهم و إعتنى بهم فسلك درب القداسة و إستحقّ التكريم.
*مهندس و أكاديمي باحث في الشرون اللبنانية

٣.٥.٠٨

لؤلؤة الشرق أم علف التنين؟

حميد عواد*

لا نخال لبنانياً فطناً و محباً لوطنه، يستسيغ إجهاض دورة تعافيه في أوج إنطلاقتها و إقحامه في دوامة الغليان و فقدان التوازن و التصدع التي قذفه إليها "فرسان" و "قراصنة" محلّفة لطاعة و مكرّسة لخدمة نظامين "متألّهين" يحركهما "وحام" الهيمنة و "شبق" السلطة و "غريزة" الإستبداد.
فََتَحت شعار "تحسين" شروط "المشاركة" في السلطة تم إنسحاب من الوزارة، لما لاح طيف إستحقاق إبرام إتفاقية المحكمة الدولية الطابع المخصصة للنظر في قضية إغتيال رئيس الوزراء الشهيد رفيق الحريري، و "حُجزت" مفاتيح المجلس النيابي و "أُحتكر" سر صياغة "إعادة تركيب السلطة" و "أُسترهن" حل الأزمة من قبل الثنائي الإيراني-السوري "الممانع" للكف عن "التسلل" و "التسرب" إلى عقر ديار جيرانه.
أخطبوط "بسدران" النظام الإيراني، بالتنسيق مع "الشبل" السوري، فرّخ بوضوح و قوة و زخم في لبنان وفي العراق و في غزة مغتذياً من "مصل" "مقاومة الإحتلال"، و كال"خلد" إمتدت أنفاقه إلى داخل دول عربية أخرى.
إن طول السيطرة المزدوجة على لبنان في ظروف كان فيها مهيض الجناح مكنت النظام الإيراني من بناء دويلته في وطن الأرز و سمحت للنظام السوري بإمتصاص رحيق الديمقراطية منه و بتشعيب بؤر مخابراته وسهلت إختراق مجموعات متعطشة لدور و مال و سلطة، فتوطن بها الثنائي توطئة لتحطيم و إبتلاع كل معالم الكيان النموذجي.
عصبة هذا الحلف إنقلبت على النظام الديمقراطي في لبنان و حالت دون إنتخاب رئيس للجمهورية و غررت بطامح ل"سراب" هذا المنصب كي تتلطى بترشيحه لإكمال ورشة هدمها، و إستدرجت إحتكاكات خطيرة مع الجماهير السيادية و حتى مع عناصر الجيش، في محاولة فاشلة لتشويه إنجازاته الأمنية و لتعييب الإجماع الذي حظي به قائده كمرشح لرئاسة الجمهورية "بعد إكتمال عقده"، و ما زالت تستفز القوى الأمنية و تسخر من هيبة الدولة فيما تنقض لنهش و تسخير مؤسساتها.
و ما الحدث المؤلم الذي أستشهد فيه إبنان باران (نصري ماروني و سليم عاصي المنتميان إلى حزب الكتائب) من أبناء زحلة برصاص مجرمين غادرين "مرعيين" من حاشية الإنقلابيين إلا فصلاً جديداً من مسلسل ترويع القوى السيادية الناشطة في حشد المواطنين للتعبير العلني عن توقهم إلى العبور نحو تدعيم بناء الدولة الشامخة، بدءاً بإنجاز إنتخاب مرشح الإجماع الوطني قائد الجيش العماد ميشال سليمان.
هكذا تُفجّر صواعق الفتن بالتتابع و يختفي مفتعلوها داخل شبكة انفاق بؤر التآمر المعدة لحمايتهم من ملاحقة سلطة الدولة و المتصلة بشرقي الحدود.
تتكثف "الصولات" الميدانية و يتسع مداها لتتراوح بين "إستضافة قسرية" و تحرير محتجزين من أيدي السلطة و إطلاق نار.
و قد تشعبت ميادين التحدي الأمني لتنفذ إلى داخل السجون مثيرة هاجس "التمهيد" لعملية "إخفاء" ما، "تُسحب" خلالها شخصيات أمنية محورية من منال القضاء اللبناني و الدولي المختلط الماثل في المحكمة القريبة الإكتمال لتنظر في قضية إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
و لملء الفراغ بين محطات تعطيل الجلسات النيابية، المحددة نظرياً لإنتخاب رئيس الجمهورية، تخرج من قبعة الساحر "مبادرات باهرة"، تشيح الأنظار عن مصدر العلة، كََلّ منها العاقل و ردد تنبيهه للساحر: "مرتى مرتى تلهجين بأمور كثيرة و المطلوب واحد: تنفيذ بنود المبادرة العربية" التي أكد بوضوح واضعوها و "أصدقاء لبنان" في مؤتمر الكويت و بينهم الوزير القطري ، أن إنتخاب مرشح الإجماع -الصعب و النادر الحصول- قائد الجيش العماد ميشال سليمان ينجز أولاً من غير ربطه سلفاً بتفاصيل ما يليه من تشكيل حكومة وحدة وطنية تتولج بلورة قانون إنتخابي يستخلص من المقترحات المتعددة المتوفرة، ليصاغ القانون الأكثر أمانة للتمثيل. لكن قراءة المزامير على من إرتبط عضوياً بجموح "الإفتراس" الذي يحرك المحور الإيراني-السوري لم تغير ما في نفوسهم، فما زالوا يحضون الدول الداعمة للبنان على إشباع نهم "أباطرتهم" ل"حل" الأزمة فيه، رغم تسليط الضوء على جذور العلة و مطالبة تحالف 14 آذار السيادي بالضغط على الجانب السوري لإصلاح خلل "علاقاته" مع لبنان و ضبطها في أطر تبادل دبلوماسي و إحترام سيادة لبنان و ترسيم الحدود المشتركة.
لكن كيف السبيل إلى إهداء العاقين بالولاء الوطني طالما تاهوا في "غيبوبة نشوة الإستقواء و الإنتصار"، فهم يثابرون على التعبير عن "إعتزازهم" ببناء "دويلتهم" لدرجة التهكم و تحدي قدرة بقية شرائح الوطن على بناء "دولتهم"، و الطريف أن أسياد "الكانتون" يحذرون الآخرين من محاولات "الفدرلة" و التقسيم.
و لتأكيد حسن الطوية طالعنا ناطق من سربهم البارحة بقوله أن النظام السوري أخطأ بالإنسحاب من لبنان (!!!) و هم "يفون بنذورهم لشفيعهم" و حليفه "القلق"، بالمثابرة على إحياء "طقوس" التهديد و الترويع و القضم و الرصد و يمعنون بشل المؤسسات التى تعصى على سيطرتهم ويستنزفون أموال الدولة و يستنفدون خدماتها و يغتصبون أملاكها و أملاك الغير و يتصدون للأجهزة التي تحاول محاسبتهم.
و لأن الأموال "المنظفة" تردهم بإستمرار من راعيهم و تقيهم من الجوع، لا ضير إن شل الإقتصاد بغوغائهم و جفل المستثمرون و جمدت المنح و القروض الميسرة لتمويل المشاريع الحيوية و حولت وجهة أموال الفورة النفطية و ضيقت سبل عيش المواطنين ليسهل رميهم بين أشداق أسماك القرش ليبتلعوا اراضيهم.
و هذا يخدم مآربهم في "إفساح" المجال لتمدد "رعاياهم" بإقتلاع "الآخرين" من موطنهم و سوقهم قسراً إلى الهجرة بعد إحباطهم و تيئيسهم. لذلك يثابرون على زعزعة الإستقرار و يجتهدون في طمس هوية مرتكبي الإغتيالات و يغدقون السلاح و المال على مجموعات رديفة ليهددوا بإحتمالات "خروجها عن السيطرة".
و لأن الأغرار "مغمورون بالأفضال" تراهم "يضربون بسيف" مانحها و يجهدون النفس في تبرير أخطائه رداًً للجميل، و لا يتورعون عن التحريض الفاضح و التنقيب عن القبور بحثاً عن "وليمة سياسية" فاسدة.
فيما يُخلّد الخيرون بمساهماتهم البناءة، جنت زمر التخريب شهرة من قدرتها المشؤومة على الهدم و من إبتداعها وضعاً هجيناً ما عرفه بلد في التاريخ.
إن إختطاف منصب رئاسة الجمهورية رهينة لإرادة الخارجين على القانون و غنيمة لأوليائهم ما هو إلا إغتيال شنيع للوطن.
لقد دأب النظام الإيراني على إستنفار قدرات "خريجيه" و مجنديه و أتباعه و إمكاناته المشفوعة بالتخصيب النووي، لضخّها ميدانياً مستهدفاً تفشيل الجهود الدولية الآيلة إلى عصرنة الأنظمة و فتح آفاق شعوبها و خنق الإرهاب و حماية منابع النفط، و مستشرساً لإنتزاع "إقرار" دولي بزعامته في منطقة الشرق الأوسط.
كما يضغط جاهداً لإقتطاع "دور محوري" لحليفه السوري (المستجير به) يوسع هامش نفوذه.
أما المجتمع الدولي فيطوّق تمدده و يحاول إحتواء أطماعه رافضاً المساومة على حساب أمن و إستقرار الدول العربية الصديقة و يصدّ "مراودات" النظام السوري الطامح إلى إستعادة السيطرة على لبنان.
و ها هوذا الأخير، في سعيه لفتح الأبواب الموصدة في وجهه، يوحي بمباركة دعوة جديدة و منمقة للحوار.
و رغم التوجّس من الخيبات السابقة أعطت الأكثرية فرصة لتثميرها و "أعلنت النية" على إلتزامها بتشكيل حكومة وحدة وطنية كما تبنّت مبدأ قانون إنتخابي يرتكز على القضاء كدائرة إنتخابية مع الموافقة على تقسيم بيروت مقابل ضمانة إجراء إنتخاب الحائز على التزكية الشاملة العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية خلال جلسة 13 أيار.
والآن ينتظر حاضن الأكثرية و رئيس "كتلة المستقبل" النائب سعد الحريري تحديد موعد من طارح المبادرة رئيس "حركة أمل" و كتلة "الإنماء و التحرير" و المجلس النيابي نبيه بري ( الدائم الحضور في مؤتمرات و لقاءات خارج البلاد و النادر الحضور في المجلس النيابي "المحجور" عن الإنعقاد) لتثبيت التوافق.
أنظار اللبنانيين المخلصين شاخصة إلى الموعد التاسع عشر من سلسلة التأجيل المحبط على أمل ان يتم الإستحقاق.
المهزلة طالت و تطبيق الدستور هو محك سلامة النيات و مؤسسات الدولة هي المسلك الشرعي لأي تحرك محق و الديموقراطية هي نظام الشراكة البناءة الضامن لتجدد السلطة و المحفز للقرائح و المنمي للطاقات و الدافع نحو التطور، فهل يعقل طحن كنوز الوطن علفاً لتنين التخلف؟!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١٢.٣.٠٨

"إستئثار" في معرض "المشاركة"

*حميد عواد


تتوثق الشراكة الإنسانية في فضاء ملائم من الأخوة العطوفة، خارج مقابر الجهل و التعصب و العبودية و التقوقع، بتلاقي الإرادات الطيبة و توافقها على أهداف تخدم بحق و إنصاف الخير العام. عندها يترافد التعاون المخلص و ينصب الجهد المجدول في موكب العمل المجدي لبلوغ الترقي و الإزدهار برعاية السلام و الوئام في جو مفعم بالتفاؤل و الطمأنينة، و مضبوط بأحكام القانون و مقتضيات العدالة في أطر المؤسسات.
نستذكر، بأسى وأسف، مآسي الشعوب و معاناتها خلال حقبات من الصراعات الضارية و الحروب المدمرة التي إعتصرتها في مجرى تاريخها، لكننا نتعزى بنهوضها و نعجب بقدرتها على تجاوز محنها بفضل تصميمها على التعافي من ربقتها، للإنطلاق بشغف نحو البناء و النمو و الإرتقاء. و ما أن نستفيق على واقعنا حتى يصيبنا هول صدمة من إستمرار بعضها، و كأنها مرض عضال، و من تكرار اوجه بائدة من وجوهها و بروز أنماط هجينة منها لا تليق بهذا العصر المتطور بزخم في كل المجالات.
المثال الصارخ لصراع إستعصى على الحلول هو الصراع العربي الإسرائيلي الذي تعقد و تشعب و إستقطب المشاعر خارج إطاره الجغرافي ليقحمها في لججه داخل دوائر التعاطف مع فرقاء النزاع، وذلك بسبب إطالة أمده و شدة قساوته. و هو أرخى بثقله على لبنان و شكل غطاء لمحاولة إبتلاعه ولإستباحة سيادته و التنكيل بأهله و تدمير مؤسساته و عمرانه و تشويه وجهه الحضاري و تهجير أهله.
في ثنايا خواطر التأمل في مسار الشأن الوطني تبدو صيغة الميثاق الوطني التي عقدت تمهيداً للإستقلال سنة 1943 و كأنها قبلت على مضض لأن ما أن تصاعدت الفورة العروبية الوحدية في بداية الخمسينات حتى بدأ إهتزاز كيان الوطن و استكمل الإنقضاض عليه مع نشوء فصائل منظمة التحرير الفلسطينية و حصول الصدامات المتشعبة التي دفع اللبنانيون أثماناً باهظة و كاد يتحول إلى وطن بديل للفلسطينيين. لكن النظام السوري الممهد و المترصد لفرص الإنقضاض على لبنان لإستتباعه دخل أراضينا بعسكره و أمسك بالوضع و لم يخرج من لبنان "رسمياً" (زارعاً قنابل غضبه الموقوتة "أمانة" في معسكرات أيتامه) ألا عنوة بعد إستصدار قرار مجلس الأمن الدولي 1559 و إثر إغتيال رئيس الوزراء وشهيد الوطن رفيق الحريري، بعد إختراق كل مؤسسات الدولة و هيمنة عسكرية مباشرة طالت 29 عاماً.
إلتزاماً بخيار إحياء الدولة من خلال "إتفاق الطائف"، تخلت القوات اللبنانية عن سلاحها سنة 1990 و إنخرطت في مسيرة البناء لكن النظام السوري إعتبرها عقبة في وجه سيطرته على قرار الوطن فحلها عندما عصيت عليه و أوقع بقائدها، ثم وثق التحالف مع النظام الإيراني و وجد مصلحة في ترسيخ و استنفار "القاعدة العسكرية" التي ولدت من رحم الثورة الإيرانية المصدرة إلى لبنان، بعد تدريب و تمويل و تبشير ديني جهادي حضر "المؤمنين" لصدام مستديم مع إسرائيل حتى "الإفناء" (و هنا يكمن سر إثارة قضية رفض التوطين رغم توافق كل اللبنانيين إضافة إلى الفلسطينيين على رفضه و إدراجه في نص الدستور).
معاناة لبنان فريدة لا نظير لها في التاريخ. سلسلة من الهزات و الإضطرابات المتلاحقة أستنزفت اللبنانيين و أفرغت لبنان من ثلث ابنائه، و النزف جار، كما أفقدته الكثير من طابعه المتميز. لذا غدا، اليوم أكثر من الأمس، إقحام لبنان في لعبة الصراعات البديلة جريمة لا تغتفر و يجب مقاومتها.
إن الدعم السياسي و المادي للدولة اللبنانية من قبل الدول الصديقة هو عمل مشكور و مقدر، لكن على الصعيد الفردي ليس للبنانيين الأبرار الرافضين لنظام "الرعاية و الدعم"، الذي يمده التحالف الإيراني-السوري، إلا ابناءهم المغتربين الذين يردون عنهم غائلة العوز.
في سياق المفاضلة بين تعامل دولة و أخرى مع لبنان، شتان بين من يرعى التوافق و لم الشمل فيه و بين من يفرز من اللبنانيين قبائل لتناحر بقية شرائح الوطن.
شتان بين الدول الصديقة التي تدعم خزينة الجمهورية اللبنانية و قواها الشرعية و بين تلك التي تتخطى الحكومة الشرعية و تغدق المال و السلاح مباشرة على منظمات مسلحة ترتبط بها و تخدم مصالحها.
شتان بين من يؤازر اللبنانيين في جهود إعادة بناء الدولة و بين من يحبط إنطلاقها.
أما بعد، فهل يصنف هذا العمل، مهما حمل من شعارات جذابة ، إلا في سياق خرق سيادة الدولة و تفكيك أوصالها ودعم التمرد على سلطتها.
كل لبناني أصيل يريد القوة و المنعة و العزة لوطنه، لكن لا يتحقق ذلك إلا من خلال المؤسسات الأمنية الشرعية و في طليعتها الجيش، حصن لبنان.
الأمن لا "يخصخص" و السيادة لا تجير.
كفى إبتزازاً و إستنزافاً و تجويعاً و ترهيباً للبنانيين.
إن أصحاب مشاريع التمدد الديموغرافي و تجريد اللبنانيين من أملاكهم تحت ضغط العوز بعد مصادرة أملاك عامة و خاصة، أصبحوا مكشوفي النيات غايتهم الإستئثار بالوطن في كنف و حضانة الهيمنة الإيرانية-السورية.
كما إن الإرتباط العضوي ل"صلب" المعارضة بمشروع بسط سيادة الأمبراطورية الإيرانية في المنطقة و حماية حليفها النظام السوري من تداعيات إجراءات المحكمة الدولية الطابع المختصة بقضية إغتيال الرئيس الحريري، وضعه في موقع الصاعق الناسف لجهود بناء الدولة، فكيف يؤتمن على ثلث "ضامن" لتعطيل أداء الحكومة؟
و إذا كان من صفاء نية و تقدير للمسؤولية لماذا لا يُبادر إلى إنتخاب مرشح الإجماع الموثوق قائد الجيش العماد ميشال سليمان ليبحث بعدها تحت رعايته مختلف القضايا الوطنية ( و كم قضية أقرت في جلسات الحوار ثم تنكر لها من أفترش الساحات و أقحم مناصريه في أعمال شغب و إستفزاز آلت إلى إحتكاكات مؤسفة) و في طليعتها تشكيل الحكومة طبقاً للإجراءات الدستورية و من ثم ينظر في مقترحات قانون الإنتخاب الذي يبقى عائباً و مرفوضاً إن لم يضمن حق المغتربين بالمشاركة في الترشح و الإنتخاب ( و ما أكثر الذين أضطروا لمغادرة الوطن تاركين وراءهم ارتالاً من إخوانهم مصطفة على ابواب السفارات سعياً وراء مصدر رزق لإطعام عائلاتهم!) ؟
أما القفز إلى الأمام و التورية الهادفة إلى منع إنتخاب رئيس للجمهورية و إلى تبرير ضرب السلطة التنفيذية و إيصاد باب المجلس في وجه السلطة التشريعية، من خلال طرح شروط تعجيزية لإعداد "الوجبة"، إستباقاً لتكليف "الطاهي"، فيما الناس تتضور جوعاً، فهي مناورة مفضوحة.
في هذا السياق أية إنتخابات مبكرة تطرح الآن، طالما شحن النفوس بلغ حداً خطيراً دفع الوطن و مواطنيه إلى حافة الهاوية، حيث "إكتشف" فرسان النظام الإيراني عندنا أن إنتماءهم هو أبعد من حدود الوطن و أن توقهم المتوقد إلى القتال هو "تكليف ديني" يريدون إعادة صياغة الكيان الوطني حول مقتضياته؟
أهل الوطن بحاجة إلى فترة نقاهة لغسل النفوس قبل تنقيح النصوص، و لصفاء الضمائر بعيداً عن "غسل" الأدمغة و الأموال و ترهيب السلاح و إفتعال الإنتكاسات. فلا يجوز إبقاء الوطن رهينة أعمال عسكرية يستنسبها و يقررها و يبتها فيلق غير نظامي لايرتبط بالمؤسسات الوطنية.
ثم أي وطن يُبنى و أي عمران يُشاد وأي مستقبل يُحضر و أي إقتصاد يُنشط و أي بال يُطمأن و أي أمل يُنعش و أية حياة تزدهر في ظل مخيمات التدريب (كبديل عن نوادي اللياقة البدنية) و "منتجعات" البؤر الأمنية و منابر "حلقات التثقيف" المؤثرة في مجالس العزاء و دهاليز النشاط المشبوه؟
أي عاقل يسلس القياد ل"حماية ذمية" و يجرؤ على التبجح ب"مأثرة" تعطيل مؤسسات الدولة و خنق الإقتصاد و تجفيل أبناء وطنه؟ كيف ينقلب من حمل مشروع دولة مدنية ديمقراطية سيدة حرة مستقلة على مبادئ آمن بها و انتخب على اساس إلتزامها، ل"يستأنس" بمعشر أرباب الأنظمة الشمولية و الإستبدادية و يتماهى في مشاريعهم و يشن حملات التهجم على رؤساء الدول الغربية التى رعته و ساندته يوم كان يناضل لإستعادة السيادة؟
هل تسهيل "إرتشاف" الوطن من قبل هكذا أنظمة هو عمل سيادي؟
النظام السوري يحاول، بالتنسيق مع المرتبطين به، إثبات فشل قيامة لبنان، العريق في تراثه و دوره، كوطن مستقل عن هيمنته، لذا يعتبر حريته وسيادته "تعدياً" على سلطته و "تحدياً" ل"سيادة سوريا" و إفتئاتاً لحق مكتسب له، لأنه يطمع بإستعادة السيطرة عليه و مصادرة قراره و عرقلة تدابير المحكمة الدولية، لذلك لا يريد ترسيم الحدود و لا تبادل السفراء و لا الإعتراف بسيادته.
و هو في شعوذته المناقضة للمنطق، يروج للمقاومة المسلحة في لبنان و لا يعتمدها في الجولان بل يركز على الجهود الدبلوماسية و المحادثات السرية و الوساطات.
يؤيد بالكلام إستعادة مزارع شبعا التي سلخت من "عهدته" و لا يتعاون لإصدار وثيقة مكتوبة تحدد نطاقها و تعترف بلبنانيتها.
يحارب بالواسطة وينتحل صفة راعي الحلول و يتنطح ل"قطف" ثمار إنتصارات "حلفائه" في لبنان.
يأوي "المطلوبين" بالجملة و "يبيعهم" بالمفرق و بالمزاد.
يبشر بالمشاركة في لبنان و يستأثر بالحكم في سوريا.
يخضع المخيمات الفلسطينية في سوريا لسيطرته و يجير قواها لصالحه، فيما يقيم قواعد ل"فلسطينييه" في لبنان ليتحدوا سلطة الدولة و يستفزوا قواه الأمنية.
هذا النظام يفعل المستحيل لضمان ديمومة بقائه في سدة الحكم.
لا عجب إذن أن تصتدم مبادرات الحلول التي تريح لبنان بجدار كيد و ضغينة وطمع و ذعر هذا النظام. بل العجب ممن يأملون تعاونه و يعطونه الفرصة تلو الأخرى!
المطلوب تذكيرهذا النظام أن الأجدر به التغلب على غريزة الإستبداد و الأنانية و فك طوق الإحتكار و الفساد، و تركيز إهتمامه على تحسين مستوى حياة شعبه لا التنكيل به و زج مثقفيه في الزنازين. و ليكف عن تحريض شبكة مخبريه في لبنان ضد سائر اللبنانيين. لكن ذلك لن يحصل طوعاً.
كذلك على النظام الإيراني أن يقتنع أن للبنانيين الحق بالهناء في "مراقد عنزاتهم" و عدم تحويلها إلى "مرابض" و "قواعد"
ل"هداياه" المباركة.
لكل من ضاق صدره بطابع لبنان المميز بحلاوة طبع أهله و جمال طبيعته و روعة تحفه التاريخية و غنى تنوعه البشري و إنفتاح أهله على الدنيا و إحتضان تراثه لتيارات حضارية متمازجة يستقي منها أبناؤه، نقول: إلزموا دياركم و إرفعوا أياديكم عن وطننا و دعوا شعبنا يعيش!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

١١.٢.٠٨

حتى يبقى رفيق الحريري حيّاً يرزق

حميد عواد*


عام 2005 في اليوم الذي كرّس لتبادل العشاق و المحبين عرابين المحبة و الوفاء، زوّد عشاق الإرهاب و الكيد و الغدر و الضغينة و الحقد و الإجرام عملاءهم بطنّ من المتفجرات ليترصّدوا و يغتالوا بوحشية زلزال التفجير رجلاً كبير القلب، عصامياً مكافحاً مجتهداً صادقاً، تدرّج في تسلّق سلّم النجاح حتى بلغ قمم المجد و غدا عن إستحقاق قائدأ رؤيوياً و عنفوانياً ملهماً للأجيال، لكن مثيراً بشموخه لغيظ أباطرة الإستبداد، إنه رجل الدولة المرموق لبنانياً و عربياً و عالمياً رفيق الحريري.
لقد سلخوه عن وطنه، في ذلك اليوم المشؤوم، و فجعوا محبيه الكثر و هزّوا أركان جنّة العمران و موئل الأمل و الخير.
كان، رحمه الله و طيّب ذكره، رجل دولة متألقاً يستشرف المستقبل و يحضّر له البشر و الخطط و العدة ليضمنه مشرقاً و مزدهراً.
طمح إلى إحياء رسالة لبنان الحضارية بعد طول تشويه، فعزّز الوئام و مدّ جسور التفاهم و الثقة بمساهمة في هندسة "إتفاق الطائف"، كما منح من خلال "مؤسسة الحريري" نعمة تحصيل الدراسة الجامعية لأكثر من خمسة و ثلاثين ألفاً من الشباب و الصبايا فضخّ في قلب و عروق الوطن نفحة حياة منعشة و قوة دفع لا يستكين لها نبض.
فكان ذلك أسمى و أجدى إستثمار يمكن توظيفه لتموين المستقبل و إغناء دور و تراث لبنان في الريادة و الرقي.
إقتحم رفيق الحريري قبب النجاح بقبوله تحدّ لم يجرؤ عليه غيره، فتعهّد بإنجاز بناء فندق بسرعة قياسية و كان على مستوى التحدي فوفى بعهده و بنى أساساً متيناً لصدقيته و زرع بذوراً خصبة لنجاحه اللاحق و أثبت أنه رجل المهمات الصعبة كي لا نقول المستحيلة.
بعد تسجيله النجاح تلو النجاح و بنائه شبكة شركات متنوعة و عقده علاقات شخصية وطيدة مع قيادات عربية و عالمية بارزة، و بعد إعتياده على لذة حصاد غلّة الخير و متعة إنجاز المشاريع العمرانية و فرح تحقيق الأحلام واقعاً، إختلجت في وجدان رفيق الحريري ذروة النشوة بتحقيق حلم إعادة بناء لبنان، دولة سيدة حرة مستقلة و حاضرة عمرانية رائعة تليق بعزة و طموح أبنائها.
فكرّس الرفيق بمحبةٍ و تفان ٍ قدراته و أرصدته المادية و المعنوية لخدمة وطنه و خاض المعترك السياسي فمحضه إخوانه اللبنانيون الثقة و عقدوا عليه الآمال، فقاد كتلة نيابية عريضة و ترأس غالبية المجالس الوزارية و أنطلق بمشاريع الإعمار في ظلّ هيمنة سورية خانقة كبّلت المؤسسات و أعاقت النهوض.
و رغم ذلك حقق الرئيس الحريري إنجازات ضخمة بفضل تصميمه و مثابرته من جهة، و صبره و حنكته و حكمته في التعامل مع ديناصور النظام السوري من جهة أخرى.
و لأن حلم هذا القائد متوّج بإكليل الحرية و السيادة و الإستقلال لوطنه، و لأن نضال الأحرار لنيل هذا الهدف ما إستكان، تبنى المجتمع الدولي هذا التوق المشروع و شقّ طريقه بإصدار قرار مجلس الأمن 1559.
و كان غضب الديناصور لمحاولة إخراجه من مرعاه الخصب مروعاً، فقذف ألسنة لهبه على موكب الرئيس الحريري بتفجير إرهابي ضخم إستشهِد على أثره الرئيس الحريري و الوزير باسل فليحان و لفيف من المرافقين و المجاورين لموقع التفجير.
فُجعت النفوس الحرة و الأبية في لبنان لفقدان الرئيس الحريري و صحبه وكان غضبها بحجم الإنفجار الآثم فبعد مأتم حاشد تقاطب أبناء العزة و الحرية و الكرامة من كل أنحاء لبنان و طافوا في تظاهرة ضخمة أستحقت تسمية "ثورة الأرز" يوم 14 آذار 2005، طالبت بخروج جيش النظام السوري من لبنان و محاكمة المتورطين في تدبير هذه الجريمة الشنعاء.
و هكذا حقق شهيد لبنان بمماته إنجازاً جليلاً يضاف إلى إنجازاته الباهرة خلال حياته، ألا و هو إنبعاث الوحدة الوطنية بين معظم شرائح الوطن.
لكن للأسف البالغ إن الذين يضمرون صيغة مخالفة لتطلعات اللبنانيين في العيش الآمن و الهانئ في كنف دولة قوية ديمقراطية سيدة حرة مستقلة ما زالوا يدورون في فلك رعاتهم، متمسكين برؤيتهم الهجينة للوطن و بتحصنهم في معاقلهم الخارجة عن سلطة الدولة و بإنسلاخهم عن بقية المواطنين.
و قد بلغت حدة ممارساتهم حداً خطيراً بات يهدد الكيان و يمهد للغور بالوطن من جديد في غياهب عهد الطغيان الذي ودّعوه بالرياحين و أكاليل الغار في تظاهرة "الوفاء" في 8 آذار 2005 .
واجب كل لبناني التيقظ للمكائد التي تحاك لإغتيال الوطن و للإنقضاض على إنجازات القوى السيادية و إغتصاب ودائع لفيف شهداء الإستقلال المنتشل.
و حفاظاً على تراثنا العريق المجبول بالعزة و الكرامة و الحرية و كرمى لإزدهار مستقبلنا و أمانة لتطلعاتنا و وفاء لتوصيات شهدائنا الأبرار، لنشبك السواعد و نقف صفاً واحداً و سدا منيعاً لإسقاط تعديات الردة الرجعية و لنواكب مسار المحكمة الدولية للقبض على رؤوس شبكة الإجرام لننعم بالأمان.
و لنستلهم مناقب و خصال الشهداء النبيلة لننقّي ضمائرنا، و لنستمدّ عوامل القوة و أسرار النجاح من مزايا القدوة في المبادرة الناجحة و العمل الخيّر رفيق الحريري فيبقى في وجداننا حيّاً يرزق.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية