٢.٢.١٥

تلاطم دامٍ بين نور الفكر وظلام الجهل

المهندس حميد عوّاد* تطلق صرخة كلّ مولود يطلّ على العالم نبضات “عدّاد ساعته” التي تؤشّر عند إكتمال دورتها السنويّة إلى فجر عام جديد ينمّيه ويفتّح بصيرته على معارف وتجارب جديدة تكسبه كفاءة و خبرة ومهارة تعينه على مَخْر عُباب يَمِّ الأحداث وخوض مغامرات معاركتها. سرّ نجاح المجتمع يكمن في تأمين بيئة تنشئة راقية ونقيّة من الشوائب ترسّخ القيم السامية والشراكة الإنسانيّة، واجباً وحقوقاً ومسؤوليّة ونشاطاً وإلفةً، وتوفّر الفرص المتكافئة والعدالة الحكيمة وتؤمّن إعداداً غنيّاً بالمعرفة ينميّ الضمير ويرهف الوجدان ويشحذ المنطق ويصقل الذكاء ، ويبلور ويثبت الحقّ ويفضح ويدحض الباطل. أمّا سرّ الإنحطاط فيكمن في “حياكة” انحرافات رجعيّة خطيرة تلتفّ على بيئات وبؤر منغلقة تمتدّ من شرق آسيا إلى غربها وصولاً إلى أفريقيا. لقد شكّل تشعّبها وتنظيمها وإرهاب معتنقيها تحدّياً شرساً حيّر العالم في اختيار الأساليب الأنجع لقمعها. إنّ التصدّي الجادّ لهذا الوباء المتفاقم، الذي يلهب الغرائز ويخدّر العقل ويحلّل الإجرام، يُحتّم معالجة جذريّة تجتثّ مصادر العلّة ألا وهي “مدارس” متخلّفة تحظّر العلم وتُلقّن الكراهية والحقد والعداء مع “الغير” وتدّعي احتياز واحتكار حصرية “امتياز” أسبغته “توصيات ونعم علويّة” لا “صلاحيّة” للبشر في نقضها. هكذا يهبّ “خرّيجو” هذه المدارس المضلّلون للقيام ب”واجبهم المقدّس” في “معاقبة” من يتجرّأ على مخالفة معتقداتهم، ويصبح سفك الدماء طقساً إحتفاليّاً وممارسة عبادة ودليل تقوى و”نشاطاً” يستحقّ الثواب. في هذا السياق تُرتكب المجازر الإرهابية وتُسفك دماء الأبرياء والمتنوّرين في باكستان وأفغانستان والعراق وسوريا وتُستنسخ في دول أفريقيّة كما يصيب رذاذها وتموّجاتها بلداناً مضيافة راسخة ومتينة الأنظمة. في ظلّ الجهل والفوضى والتصلّب الذهني و التعصّب، يستعر التناحر المذهبي لينخرط في حلقة الثأر الجهنّميّة ويوسّع إطارها ليزهق أرواحاً “كافرة” لا يطيق ممارستها الحميمة والحميدة والمسالمة لطقوس معتقداتها. يُصدم الناظر إلى بيئات التخلّف حيث يجري “تجويف” وجدان الإنسان من القيم و”تحنيط” العقل البشري فيُحرم من نعمة التطوّر ويغدو عبداً هائجاً مسيّراً إلى المهاوي. فيما ينبهر لرؤيته الإنسان المعاصر طافحاً بالنشاط وغزيراً بالإنتاج ومكلّلاً بالإنجازات المدهشة في المجتمعات الراقية التي توفّر له “حراثة حقول المعرفة” وتنمية الطاقات والمهارات والخبرات. مثلما “تُطعّم” أغصان الشجرة البرّية باغصان طيّبة ومنوّعة الثمار يجب “تلقيح” العقول ببذور الخير لتينع وتفيض عطاءً وبِرّاً على مجتمعها. لبنان لمع بغناه الحضاري و جماله الطبيعي وحزمة أضواء قوس قزح المنبعثة من نسيجه البشري الذي يتحوّل شلاّلاً من العطاء كلّما تعانقت ألوانه مؤتلفة فيما يخبو زهوه وينضب عطاؤه وتتشتّت أضواؤه كلّما عصفت النزاعات المنصبّة عليه. ليس أمرّ من تجريع العلقم عنوة لمن تعوّد على حلاوة الحياة وليس أخبث من تحطيم كبرياء النفس وتنغيص هناء وعزّ العيش بغصّات القهر وعضّات ألم الجوع و العوز. قد يتمكن بعض اللبنانيين داخل الوطن أو خارجه من التفلّت موّقتاً من متاعب الحياة و معاناة الأهل في لبنان ليحتفلوا بإستقبال سنة جديدة فرحين متفائلين، لكنّ الكثيرين منهم غير قادرين على طرد هواجسهم وتخدير آلامهم وسدّ رمقهم ليستلقطوا أنفاسهم ويستعيدوا وعيهم. لا يجوز السكوت على عذابات اللبنانيين وطمس تضحياتهم بعدما تناوب على خطفهم رهائن أفواج من الخاطفين المتنوّعي “المنشأ” أرهبوهم ونكّلوا بهم وحاولوا إذلالهم وإجهاض أنتفاضاتهم و نهضاتهم ضاغطين عليهم لتهجيرهم من “مراقدهم” كما تفنّنوا في إبتزازهم لدفعهم إلى نكران ولائهم الوطني وتجريدهم من عنفوانهم وهويتهم وأملاكهم. فلقد طال استنزاف انصار التفريغ -تفريغ الوطن من أصالة خصائصه الميثاقيّة والبنيويّة ومن أهله الأوفياء لصيغته النموذجيّة واستلاب سيادته وصلاحيّات سلطاته وتعطيل دستوره- والشذوذ-شذوذ الولاء وانفصام الهويّة وشرخ المجتمع- والقضم-قضم الأرض ومؤسّسات الدولة- والدمج-دمجه “بجمهوريّة ثيوقراطيّة” كولاية تابعة لها- والتحدّي-تحدّي من يجرؤ على مخالفتهم الرأي وتهديده بالسلاح وبالويل والثبور وعظائم الأمور- غير آبهين بالضرر والأذى اللاحقين بفعاليّة الدولة ومصلحة المواطنين متشفّين بخنق أنفاسهم وكبح أنين جوعهم وألمهم وتجميد أعمالهم ووقف عجلة إنتاجهم. لكسر طوق الحصار المزمن والخروج من دوّامة الدوران المنهك في حلقة مدوّخة، لا بد للبنانيين الشرفاء من جمع الشمل في كنف الدولة ورصف الجهد لترميم بنيتها وتعبئة مناصبها بجهاز بشريّ من الأكفياء، بدءاً من الرئاسة الأولى “العالقة بشباك عناكب” إقليميّة وداخليّة، وسدّ ثغراتها وإنهاض وترسيخ مؤسّساتها وتفعيل نفوذ سلطاتها وتطهير إداراتها وتصويب وتسهيل جريان عملها وتدعيم عامودها الفقريّ وحارس سيادتها الجيش وقواها الأمنيّة حماية للوطن والمواطنين. طالما يستحيل “ترويض” المتطاولين على الكيان الوطني وعلى استقرار المواطن، هناك حاجة ملحّة للانطلاق من واحة أمان واطمئنان نقتطعها في بلاد الأرز خارج نطاق كابوس هيمنتهم يتبدد فيها شبح الهجرة وهاجس خسارة الأرض عن المقيمين ويُستولد فيها الشوق والتوق للعودة عند المغتربين الذين هجرت غالبيّتهم الوطن تحت وطأة ظروف خانقة ليتمكّنوا من إستعادة الجنسيّة لمن إفتقدها وممارسة كامل حقوقهم السياسيّة والمدنيّة و الإقتصاديّة والإستثماريّة في وطنههم الأمّ. وهناك ضرورة قصوى لخسء المتغوّلين وردع السماسرة اللاهثين لشفط أملاك اللبنانيين المنهكين نفسيّاً ومادّيّاً كيلا ينجحوا في قطع جسور تواصل أبناء الوطن مع حضن ذكرياتهم وخزّان تراثهم وكيلا يتكرّس الإنفصام عن أصالة ذواتهم. من يهمّه توطيد الشراكة الوطنيّة وترسيخ الإستقرار عليه إزاحة الضغوط عن صدور اللبنانيين وضبط الطوف الديمغرافيّ والإنفلاش الجغرافيّ والمساهمة في تنشيط أجهزة الدولة لا كبحها. إنّ الجموح الأهوج يضع مستقبل الأجيال في خطر ويتسبّب بتضخّم كلفة المعيشة وضمور المداخيل وشحّ المصادر الطبيعيّة ونضب الغذاء وتفاقم المشاكل الإجتماعيّة وتقلّص إمكانات توفير العناية الصحّية والتعليمية. الخروج من قوقعة شرانق العزلة وتحرير الذات من كلّ أنماط العصبيّات القبليّة وشهوات الهيمنة والطغيان وفتح القلوب للإنضمام إلى “ورشة” التآخي الإنساني وشبك الجهود لإنتاج وتطوير مستلزمات نماء العيش ونشر الخير، هي السبل المتآلفة الآيلة إلى عيش هانئ يسوده الوئام والسلام والازدهار. مرحباً بالراغبين وحمانا الله من كيد الممتنعين! أكاديمي مواظب على تحرّي الشؤون اللبنانيّة* Compassionate empathy, accurate discernment, judicious opinion, support for freedom, justice and Human Rights.