١.١٠.٠٧

وطن مرصود

حميد عواد*

الأمثال الشعبية تختصر حكمة شعب بلغة بليغة، لكن العبرة تكمن في الإسترشاد بها: "الجار قبل الدار" و " ألف عدو خارج الدار و لا عدو داخلها" ( يتسلل إليها و يمارس إرهابه على أهلها ) و " إن أنت أكرمت الكريم ملكته و إن أنت أكرمت اللئيم تمرد " و "يا ضيفنا لو زرتنا ألفيتنا نحن الضيوف و أنت ربّ المنزل" نعطفه إستدراكاً على المثل الفرنسي : " خذ راحتك و كأنك في بيتك، لكن لا تنس أنك في بيتنا". " Soyez chez vous, mais n'oubliez pas que vous etes chez nous!"
و فيما يتعذر على المرء أن يختار دائماً جيرانه، فيبتلي بشرور الحاسدين و الطامعين و الحاقدين منهم، فمن الظلم أن يفرض عليه "نزلاؤه". لكن للأسف هذه حال لبنان المنكوب ليس فقط ب" نزلائه" و " جيرانه" ، و إنما أيضاً ببعض أهله الذين جحدوا بأفضال وطنهم و نكصوا بعهود الإخاء الوطني فبايعوا الولاء لمرجعيات منبوذة و "محاصرة" دولياً و منفّرة و مقلقة إقليمياً، لخطورة شبقها الجامح أبداً نحو الهيمنة و لتهوّر نهجها و عنف سلوكها و نزف إبتزازها، و لتعنتها في تحريض غريزة العداء على منطق التفاهم و ترويض الناس على الإسلاس لتضليلها.
للأسف الشديد، بين الإرتزاق و الإنزلاق، إرتبطت هذه الجماعات بمخططات مموليها و "ملهميها" و مدرّبيها و إلتزمت نهجها المستهجن، فحادت عن التطلعات و المصلحة الوطنية الجامعة.
و غدا لبنان معترك صراعات دائمة التناسل، دفع اللبنانيون أثماناً باهظة الكلفة لها، كلما وقع إحتكاك يواكب غالباً إحتدام إشتباك الإرادة و القرارات الدولية مع سلوك المحور الإيراني-السوري. كرمى ل"مَونة" هذا الثنائي، ترخص في عيون أغراره كل النعم الطبيعية التي أسبغها الله على لبنان و كل كنوزه الحضارية و التاريخية وكل أرصدته الثقافية و الإنمائية و البشرية و المادية، فيضعوها فجأة على كفّ عفريت، في مهبّ أهواء و مصالح راعييهما.
كيف لا و أصحاب "النخوة" و طفيليوهم المغتذون بنسغهم يتمردون على شرعية و سيادة الدولة ليمعنوا في إضعافها، إنطلاقاً من "إقطاعياتهم" و بؤرهم، حيث تُشنّف آذانهم و تُشبع أدمغتهم بفتاوى و فذلكات تدعي الإمرة و تنتحل العصمة.
لقد عرف لبنان أنماطاً منوعة من المقاومة، منها فلسطينية و منها متكنية بفلسطين (مدعومة من أنظمة عربية أبرزها النظام السوري) إنطلقت إساساً لمحاربة إسرائيل و أُحيطت بهالة من القداسة. لكن ما لبثت أن جنحت عن هدفها، و إنحرفت لمحاربة اللبنانيين (و لو بمساندة فرقاء منهم ) في عقر دارهم فاستثارت مقاومة لبنانية لإنحرافها و استوجبت لاحقاً إستحضار "قوات ردع عربية" ما لبث أن إستأثر بها النظام السوري إرواءً لظمإٍ مزمن في ضم لبنان إلى "حظيرته"، كما حفّزت إجتياحات إسرائيلية لضرب "الفصائل الفلسطينية" في حلبة الصراع اللبنانية.
و بعد إحباط متكرر لتفاهم اللبنانيين فيما بينهم و بعد التمادي في إنهاكهم "نضجت ظروف" إنعقاد مداولات "إتفاق الطائف" و ما أعقبه من صدامات و حسم لها، تخلّت إثره الميليشيات اللبنانية عن السلاح لتنضم إلى مسيرة بناء الدولة. لكن مشيئة النظام السوري المتصرف المطلق بلبنان حينها، إستثنى فصائل مسلحة مرتبطة بإمرته أو متحالفة معه، أهمها فصيل رعته إيران مباشرة خارج الأطر و الأعراف الدبلوماسية (تماشياً مع الإنتهاكات السورية للسيادة) فثقّفه عقائدياً و درّبه عسكرياً "حرسها الثوري".
و فيما شكّل جلاء الإحتلال الإسرائيلي في 21 أيار سنة 2000 ما وراء "الخط الأزرق" مرحلة أولى من التحرير، أنجز صمود شباب الخط السيادي في إعتراضهم السلمي الحثيث على الهيمنة السورية العسكرية، بمؤازرة القرار الدولي 1559، المرحلة المكملة بإنسحاب الجيش السوري في 26 نيسان سنة 2005 من لبنان.
إن المرتبطين عضوياً بالمحور السوري-الإيراني ما إنتظروا طويلاً ليثبتوا لبقية اللبنانيين أن تحالفهم مع المحور المذكور هو أقوى من عرى شراكتهم الوطنية. فكان "الوعد الصادق" و كان الرد الصاعق حرباً تموزية (2006) ضارية مكلفة و مؤلمة. و ما أن صدر القرار الدولي 1701 بعد مفاوضات عسيرة حتى هبّ من كان يراقب بالمنظار، عليه الأمان، جسامة الدمار من برجه العاجي شرقي الحدود ليشتم الحكام العرب و "يزفّ" نبأ البدء بقطاف الثمار السياسية لتضحيات اللبنانيين!
و كان ذلك إيذاناً بإنسحاب الوزراء "المتناغمين" من الحكومة لتجريدها من صفة "المقاومة الدبلوماسية" و تصنيفها "بتراء" و "غير ميثاقية" و "غير شرعية" تمهيداً لمنعها من إتخاذ القرارات و الطعن بها في حال إصدارها.
الهدف الأساس الذي أفلت من قبضة النظام السوري الهارب من الحساب هو إحباط تشكيل المحكمة الدولية الطابع المخصصة لمحاكمة من يثبت ضلوعه في إغتيال الرئيس رفيق الحريري شهيد استعادة السيادة والإستقلال و في سلسلة إبادة سواه من قادة "ثورة الأرز".
لم ينجح مخطط فرط الحكومة للتحكم بإعادة تشكيلها من قبل حلفاء سوريا و إيران و رُسم خط أحمر عربي و دولي منع إقتحام السراي الحكومي، لكن إحتلال الساحات العامة إستمر مسبباً خسارة فادحة للأقتصاد الوطني تجاوزت 22 مليار دولار ( 75 مليون يومياً على مدى اكثر من ثلاثماية يوم) و ذلك تعبيراً عن "الضنّ بأحوال الفقراء" و إفساحاً لإستيلاد "فرص عمل" توقف نزف هجرة الأدمغة (أم المطلوب التخلص من هذه النخب فيسهل التدجين؟).
من غريب "المصادفات" أنه كلما إنتصب سائس من ساسة المعارضة ليتهم فريق الأكثرية بالتآمر لقتل "نجم" من صفوفهم أو كلما "أُعلن" عن محاولة إغتيال فاشلة لأحد المسؤولين منهم، نُصعق بعد حين بفاجعة إغتيال وحشي تستهدف شخصية استقلالية برلمانية أو حكومية. و بديهي أن هكذا عمل إجرامي يستهدف ترويع نواب و وزراء من قادة مسيرة 14 آذار لشلّ نشاطهم و تثبيط عزائمهم و إنقاص عددهم توخياً لفرط عقد الحكومة أو الأكثرية النيابية.
هكذا تحول إتهام أحد سياسيي مسيرة التبعية و الوفاء للنظام السوري (8 آذار) (مؤيداً بإدعاء موازٍ من وكالة أنباء إقليمية) رعيل مسيرة 14 آذار الإستقلالية بالتخطيط لقتل قائد من خطه، إلى نذير شؤم أفضى إلى إغتيال النائب و المحامي انطوان غانم، الكتائبي العتيق السامي المناقب و الطاهر الضمير و الخادم المتواضع الناشط بصمت.
و مثلما سبقت إغتيال النائب و الصحافي الشهيد جبران التويني، "ديك النهار" المقدام و الصدّاح، محاولة إغتيال مسؤول حزبي مرعي من النظامين الإيراني و السوري، نتوجس خيفة أن تكون محاولة إغتيال مشابهة أُعلن عنها مؤخراً، تمهيداً لإرتكاب إغتيال جديد يغيّب وجهاً جديداً من قادة "ثورة الأرز" لاسمح الله.
مع استعار حماوة التوتر بين إيران و المجتمع الدولي حيال ملف التخصيب النووي و التدخل في الشأن العراقي و اللبناني و الفلسطيني يستنفر النظام الإيراني قوته العسكرية ليرفع معنويات شعبه و حلفائه، و يزيد من توثبه لملء و إستيعاب "فراغات" يساهم في خلقها في المنطقة، لكن لايبدو أنه سيصحو من نشوة القوة ليدرك خطورة الإنذارات التي وجهتها إليه مختلف الدول النافذة و نأمل ألا تتأخر الصحوة كيلا تاتي على وقع صدمة قاصمة.
و حبذا لو يكفّ أركان النظام السوري عن المراوغة و يفقهوا كنه التحذيرات التي يوجهها إليهم قادة المجتمع الدولي كيلا يعبثوا بأمن لبنان و لا يتدخلوا في شؤونه و يعيقوا تعافيه، فقد أصبح أمانة في كنف الرعاية الدولية، يحظى بحضانة و حصانة دوليتين.
لقد ذكّر نبأ غارة الطيران الإسرائيلية الأخيرة على موقع في دير الزور التي خرقت وسائط الدفاع السورية و قصفت و دمرت أهدافاً لم يفصح عن طبيعتها، بعملية قصف ورشة بناء مفاعل "تمّوز" العراقي في حزيران 1981، و جاء إطلاق "الجهاد الإسلامي" لصاروخ من غزة على ثكنة عسكرية إسرائيلية و كأنه ردّ... لبعض الإعتبار.
كما بيّن مسار الغارة لأهل هذا النظام أن سبل خرق الأجواء السورية لا تمر بالضرورة عبر "الخاصرة الرخوة" المدغدغة لأحلام الهيمنة الماثلة في مخيلة أهله.
عسى أن تشكل مظلة الأمان الدولية المناخ المناسب لإتمام إستحقاق إنتخاب رئيس للجمهورية ضمن المهل و الآلية الدستورية، قائد لا منقاد، مستقيم الرأي لا يخطئ و لا يحابي، موثوق الإلتزام بحماية الدستور و رعاية الشعب و أحكام القرارات الدولية، قادر على إبتكار الحلول و استنباط السبل الملائمة لتطبيقها.
عندها يراقب عن كثب سلامة ممارسة سلطات الدولة من الجهات المختصّة المؤتمنة دون أن ينازعها طارئ هجين، فيجري التوجيه و النقد و الإصلاح و البناء عبر مؤسساتها لا خارجها و بأسلوب ديمقراطي لا إنقلابي.
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية