١٢.٣.٠٨

"إستئثار" في معرض "المشاركة"

*حميد عواد


تتوثق الشراكة الإنسانية في فضاء ملائم من الأخوة العطوفة، خارج مقابر الجهل و التعصب و العبودية و التقوقع، بتلاقي الإرادات الطيبة و توافقها على أهداف تخدم بحق و إنصاف الخير العام. عندها يترافد التعاون المخلص و ينصب الجهد المجدول في موكب العمل المجدي لبلوغ الترقي و الإزدهار برعاية السلام و الوئام في جو مفعم بالتفاؤل و الطمأنينة، و مضبوط بأحكام القانون و مقتضيات العدالة في أطر المؤسسات.
نستذكر، بأسى وأسف، مآسي الشعوب و معاناتها خلال حقبات من الصراعات الضارية و الحروب المدمرة التي إعتصرتها في مجرى تاريخها، لكننا نتعزى بنهوضها و نعجب بقدرتها على تجاوز محنها بفضل تصميمها على التعافي من ربقتها، للإنطلاق بشغف نحو البناء و النمو و الإرتقاء. و ما أن نستفيق على واقعنا حتى يصيبنا هول صدمة من إستمرار بعضها، و كأنها مرض عضال، و من تكرار اوجه بائدة من وجوهها و بروز أنماط هجينة منها لا تليق بهذا العصر المتطور بزخم في كل المجالات.
المثال الصارخ لصراع إستعصى على الحلول هو الصراع العربي الإسرائيلي الذي تعقد و تشعب و إستقطب المشاعر خارج إطاره الجغرافي ليقحمها في لججه داخل دوائر التعاطف مع فرقاء النزاع، وذلك بسبب إطالة أمده و شدة قساوته. و هو أرخى بثقله على لبنان و شكل غطاء لمحاولة إبتلاعه ولإستباحة سيادته و التنكيل بأهله و تدمير مؤسساته و عمرانه و تشويه وجهه الحضاري و تهجير أهله.
في ثنايا خواطر التأمل في مسار الشأن الوطني تبدو صيغة الميثاق الوطني التي عقدت تمهيداً للإستقلال سنة 1943 و كأنها قبلت على مضض لأن ما أن تصاعدت الفورة العروبية الوحدية في بداية الخمسينات حتى بدأ إهتزاز كيان الوطن و استكمل الإنقضاض عليه مع نشوء فصائل منظمة التحرير الفلسطينية و حصول الصدامات المتشعبة التي دفع اللبنانيون أثماناً باهظة و كاد يتحول إلى وطن بديل للفلسطينيين. لكن النظام السوري الممهد و المترصد لفرص الإنقضاض على لبنان لإستتباعه دخل أراضينا بعسكره و أمسك بالوضع و لم يخرج من لبنان "رسمياً" (زارعاً قنابل غضبه الموقوتة "أمانة" في معسكرات أيتامه) ألا عنوة بعد إستصدار قرار مجلس الأمن الدولي 1559 و إثر إغتيال رئيس الوزراء وشهيد الوطن رفيق الحريري، بعد إختراق كل مؤسسات الدولة و هيمنة عسكرية مباشرة طالت 29 عاماً.
إلتزاماً بخيار إحياء الدولة من خلال "إتفاق الطائف"، تخلت القوات اللبنانية عن سلاحها سنة 1990 و إنخرطت في مسيرة البناء لكن النظام السوري إعتبرها عقبة في وجه سيطرته على قرار الوطن فحلها عندما عصيت عليه و أوقع بقائدها، ثم وثق التحالف مع النظام الإيراني و وجد مصلحة في ترسيخ و استنفار "القاعدة العسكرية" التي ولدت من رحم الثورة الإيرانية المصدرة إلى لبنان، بعد تدريب و تمويل و تبشير ديني جهادي حضر "المؤمنين" لصدام مستديم مع إسرائيل حتى "الإفناء" (و هنا يكمن سر إثارة قضية رفض التوطين رغم توافق كل اللبنانيين إضافة إلى الفلسطينيين على رفضه و إدراجه في نص الدستور).
معاناة لبنان فريدة لا نظير لها في التاريخ. سلسلة من الهزات و الإضطرابات المتلاحقة أستنزفت اللبنانيين و أفرغت لبنان من ثلث ابنائه، و النزف جار، كما أفقدته الكثير من طابعه المتميز. لذا غدا، اليوم أكثر من الأمس، إقحام لبنان في لعبة الصراعات البديلة جريمة لا تغتفر و يجب مقاومتها.
إن الدعم السياسي و المادي للدولة اللبنانية من قبل الدول الصديقة هو عمل مشكور و مقدر، لكن على الصعيد الفردي ليس للبنانيين الأبرار الرافضين لنظام "الرعاية و الدعم"، الذي يمده التحالف الإيراني-السوري، إلا ابناءهم المغتربين الذين يردون عنهم غائلة العوز.
في سياق المفاضلة بين تعامل دولة و أخرى مع لبنان، شتان بين من يرعى التوافق و لم الشمل فيه و بين من يفرز من اللبنانيين قبائل لتناحر بقية شرائح الوطن.
شتان بين الدول الصديقة التي تدعم خزينة الجمهورية اللبنانية و قواها الشرعية و بين تلك التي تتخطى الحكومة الشرعية و تغدق المال و السلاح مباشرة على منظمات مسلحة ترتبط بها و تخدم مصالحها.
شتان بين من يؤازر اللبنانيين في جهود إعادة بناء الدولة و بين من يحبط إنطلاقها.
أما بعد، فهل يصنف هذا العمل، مهما حمل من شعارات جذابة ، إلا في سياق خرق سيادة الدولة و تفكيك أوصالها ودعم التمرد على سلطتها.
كل لبناني أصيل يريد القوة و المنعة و العزة لوطنه، لكن لا يتحقق ذلك إلا من خلال المؤسسات الأمنية الشرعية و في طليعتها الجيش، حصن لبنان.
الأمن لا "يخصخص" و السيادة لا تجير.
كفى إبتزازاً و إستنزافاً و تجويعاً و ترهيباً للبنانيين.
إن أصحاب مشاريع التمدد الديموغرافي و تجريد اللبنانيين من أملاكهم تحت ضغط العوز بعد مصادرة أملاك عامة و خاصة، أصبحوا مكشوفي النيات غايتهم الإستئثار بالوطن في كنف و حضانة الهيمنة الإيرانية-السورية.
كما إن الإرتباط العضوي ل"صلب" المعارضة بمشروع بسط سيادة الأمبراطورية الإيرانية في المنطقة و حماية حليفها النظام السوري من تداعيات إجراءات المحكمة الدولية الطابع المختصة بقضية إغتيال الرئيس الحريري، وضعه في موقع الصاعق الناسف لجهود بناء الدولة، فكيف يؤتمن على ثلث "ضامن" لتعطيل أداء الحكومة؟
و إذا كان من صفاء نية و تقدير للمسؤولية لماذا لا يُبادر إلى إنتخاب مرشح الإجماع الموثوق قائد الجيش العماد ميشال سليمان ليبحث بعدها تحت رعايته مختلف القضايا الوطنية ( و كم قضية أقرت في جلسات الحوار ثم تنكر لها من أفترش الساحات و أقحم مناصريه في أعمال شغب و إستفزاز آلت إلى إحتكاكات مؤسفة) و في طليعتها تشكيل الحكومة طبقاً للإجراءات الدستورية و من ثم ينظر في مقترحات قانون الإنتخاب الذي يبقى عائباً و مرفوضاً إن لم يضمن حق المغتربين بالمشاركة في الترشح و الإنتخاب ( و ما أكثر الذين أضطروا لمغادرة الوطن تاركين وراءهم ارتالاً من إخوانهم مصطفة على ابواب السفارات سعياً وراء مصدر رزق لإطعام عائلاتهم!) ؟
أما القفز إلى الأمام و التورية الهادفة إلى منع إنتخاب رئيس للجمهورية و إلى تبرير ضرب السلطة التنفيذية و إيصاد باب المجلس في وجه السلطة التشريعية، من خلال طرح شروط تعجيزية لإعداد "الوجبة"، إستباقاً لتكليف "الطاهي"، فيما الناس تتضور جوعاً، فهي مناورة مفضوحة.
في هذا السياق أية إنتخابات مبكرة تطرح الآن، طالما شحن النفوس بلغ حداً خطيراً دفع الوطن و مواطنيه إلى حافة الهاوية، حيث "إكتشف" فرسان النظام الإيراني عندنا أن إنتماءهم هو أبعد من حدود الوطن و أن توقهم المتوقد إلى القتال هو "تكليف ديني" يريدون إعادة صياغة الكيان الوطني حول مقتضياته؟
أهل الوطن بحاجة إلى فترة نقاهة لغسل النفوس قبل تنقيح النصوص، و لصفاء الضمائر بعيداً عن "غسل" الأدمغة و الأموال و ترهيب السلاح و إفتعال الإنتكاسات. فلا يجوز إبقاء الوطن رهينة أعمال عسكرية يستنسبها و يقررها و يبتها فيلق غير نظامي لايرتبط بالمؤسسات الوطنية.
ثم أي وطن يُبنى و أي عمران يُشاد وأي مستقبل يُحضر و أي إقتصاد يُنشط و أي بال يُطمأن و أي أمل يُنعش و أية حياة تزدهر في ظل مخيمات التدريب (كبديل عن نوادي اللياقة البدنية) و "منتجعات" البؤر الأمنية و منابر "حلقات التثقيف" المؤثرة في مجالس العزاء و دهاليز النشاط المشبوه؟
أي عاقل يسلس القياد ل"حماية ذمية" و يجرؤ على التبجح ب"مأثرة" تعطيل مؤسسات الدولة و خنق الإقتصاد و تجفيل أبناء وطنه؟ كيف ينقلب من حمل مشروع دولة مدنية ديمقراطية سيدة حرة مستقلة على مبادئ آمن بها و انتخب على اساس إلتزامها، ل"يستأنس" بمعشر أرباب الأنظمة الشمولية و الإستبدادية و يتماهى في مشاريعهم و يشن حملات التهجم على رؤساء الدول الغربية التى رعته و ساندته يوم كان يناضل لإستعادة السيادة؟
هل تسهيل "إرتشاف" الوطن من قبل هكذا أنظمة هو عمل سيادي؟
النظام السوري يحاول، بالتنسيق مع المرتبطين به، إثبات فشل قيامة لبنان، العريق في تراثه و دوره، كوطن مستقل عن هيمنته، لذا يعتبر حريته وسيادته "تعدياً" على سلطته و "تحدياً" ل"سيادة سوريا" و إفتئاتاً لحق مكتسب له، لأنه يطمع بإستعادة السيطرة عليه و مصادرة قراره و عرقلة تدابير المحكمة الدولية، لذلك لا يريد ترسيم الحدود و لا تبادل السفراء و لا الإعتراف بسيادته.
و هو في شعوذته المناقضة للمنطق، يروج للمقاومة المسلحة في لبنان و لا يعتمدها في الجولان بل يركز على الجهود الدبلوماسية و المحادثات السرية و الوساطات.
يؤيد بالكلام إستعادة مزارع شبعا التي سلخت من "عهدته" و لا يتعاون لإصدار وثيقة مكتوبة تحدد نطاقها و تعترف بلبنانيتها.
يحارب بالواسطة وينتحل صفة راعي الحلول و يتنطح ل"قطف" ثمار إنتصارات "حلفائه" في لبنان.
يأوي "المطلوبين" بالجملة و "يبيعهم" بالمفرق و بالمزاد.
يبشر بالمشاركة في لبنان و يستأثر بالحكم في سوريا.
يخضع المخيمات الفلسطينية في سوريا لسيطرته و يجير قواها لصالحه، فيما يقيم قواعد ل"فلسطينييه" في لبنان ليتحدوا سلطة الدولة و يستفزوا قواه الأمنية.
هذا النظام يفعل المستحيل لضمان ديمومة بقائه في سدة الحكم.
لا عجب إذن أن تصتدم مبادرات الحلول التي تريح لبنان بجدار كيد و ضغينة وطمع و ذعر هذا النظام. بل العجب ممن يأملون تعاونه و يعطونه الفرصة تلو الأخرى!
المطلوب تذكيرهذا النظام أن الأجدر به التغلب على غريزة الإستبداد و الأنانية و فك طوق الإحتكار و الفساد، و تركيز إهتمامه على تحسين مستوى حياة شعبه لا التنكيل به و زج مثقفيه في الزنازين. و ليكف عن تحريض شبكة مخبريه في لبنان ضد سائر اللبنانيين. لكن ذلك لن يحصل طوعاً.
كذلك على النظام الإيراني أن يقتنع أن للبنانيين الحق بالهناء في "مراقد عنزاتهم" و عدم تحويلها إلى "مرابض" و "قواعد"
ل"هداياه" المباركة.
لكل من ضاق صدره بطابع لبنان المميز بحلاوة طبع أهله و جمال طبيعته و روعة تحفه التاريخية و غنى تنوعه البشري و إنفتاح أهله على الدنيا و إحتضان تراثه لتيارات حضارية متمازجة يستقي منها أبناؤه، نقول: إلزموا دياركم و إرفعوا أياديكم عن وطننا و دعوا شعبنا يعيش!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية