١٤.٢.٠٦

لِنَحْمِ الوطن من الأنواء

حميد عواد*


صحيح أن حركة التطور البشري قد تقسو على الإنسانية إذا ما كَبَتْ خلال إندفاعها الآلي المجرد من الإحساس و العاطفة.

لكن هذا لا يبرر النأي عنها و الإعتكاف في عزلة متوحشة تُحقن فيها العقول، حتى الجنون، بمشاعرالعداء و الكره و التشفي الجامحة ضد من لم يلتحق بسرب الإرتداد الرجعي إلى عصور البداوة الجاهلية.

في عصر الإنفتاح على كل الآفاق و التواصل الدائم، يُصدم المرء ل" اكتشاف" جماعات تخلّفت عن الركب الحضاري لتنحجر في كهوف تمارس فيها طقوساً هجينة، تغادرها بهدف "الإغارة" على "العالم الخارجي" لتعود بعد "إتمام المهمة" فتنكفئ إلى مغاورها.

نموذج جديد عن هكذا "غارة" تمّ على القنصلية الدانماركية الواقعة في منطقة الأشرفية، استكمالاً لما جرى في دمشق اليوم السابق حيث حُرقت سفارتا الدانمارك و النروج والسفارة التشيلية الواقعة بينهما.

لكن حلفاء النظام السوري و "رسله"، من "المعتزلة" "المفخخي العقول" الذين "خاضوا غمار" تظاهرة الأشرفية، تمادوا في لبنان و وسّعوا نطاق تخريبهم و استفزازهم.

فشملوا رجال الأمن و مركباتهم و أهل المحلة و أملاكهم إضافة إلى دور للعبادة.

بلغ هذا الإنحراف حداً معيباً و محرجاً دفع معه فرقاء أساسيين للتنصل من مسؤولية تحول مجرى التظاهرة.

تحمّل أبناء الأشرفية الأبرار الأذية بصبر و أبوا الإنجرار إلى مواجهة مع الرعاع ففوّتوا عليهم فرصة افتعال فتنة و استحقوا إعجاب الجميع بحكمتهم و تقديرهم لترفعهم.

و لوضع بعض النقاط على الحروف نشير إلى أن عدم استساغة تعدي حرية التعبير ضوابط الموضوعية و الإتزان و اللياقة و التهذيب و حصر الذنب بمرتكبه دون تعميمه، لا تجيز الرد على الرأي، مهما كان خبيثاً، بالغوغاء و التخريب و الإعتداء.

إلا إذا شاء الفوضويون تبرير التهم الموصوم بها قوم ظلموا بجريرتهم.

فالرأي العائب يسيئ إلى صاحبه أدبياً قبل النيل من غيره حتى و لو لم يطله القانون، أما العمل المؤذي فيدين فاعله معنوياً و مادياً بقوة القانون.

تبدو هذه الجولة من التعكير الأمني و خضّ المزاج العام و استدراج الصدامات كحلقة جديدة مرتبطة بسلسلة التعديات و الإغتيالات الشنيعة السابقة.

فالهدف واحد و هو الإنتقام من طلائع المدّ الإستقلالي و بثّ الذعر و الفوضى وترويع المواطنين و زعزعة استقرار لبنان لإظهاره هشاً و ضعيفاً بنأيه عن هيمنة محور التحالف السوري – الإيراني و توابعه.

في غمرة تصدي هذا المحور للعزلة الدولية ينتصر له حلفاؤه في لبنان و في المنطقة.

لذلك يطالب المؤمنون بلبنان وطناً حراً، سيداً، عزيزاً، مستقلاً و مستقراً، بصوت واحد مع المجتمع الدولي، أقطاب المحور و أطرافه بالكفّ عن تكرار محاولاتهم إغتصاب إرادتهم و إحباط عزيمتهم و العبث بأمنهم.

و يحذرونهم من مغبة الإصرار على اختراق لبنان لإبقائه ميداناً لصراع مستديم مع إسرائيل و منطلقاً لممارسة الضغوط لإبتزاز مآرب غريبة و لو غُلّفت أحياناً بمطلب وطني.

إن التجاذب الذي يتنازع لبنان يحتّم على أحراره، الناشطين في حماية سيادته و صون استقلاله و الحريصين على تقدم مسيرته و نمو قدراته، أن يعوا ضرر و عقم المعارك الإنتخابية في الظرف الحالي.

وأن ينصرفوا إلى توحيد جهودهم و تنسيق أدوارهم و حماية منجزاتهم أولاً.

ثم يتوجهوا بعدها ككتلة متراصة إلى مشتتي الولاءات ليقنعوهم بالتزام صريح و صادق النية بأحقية المصلحة الوطنية العليا الواضحة المعالم و المجردة من الأغراض المبطنة التي تغشوا نصاعتها بالإلتباسات.

لم يعد الوطن قادراً على تحمل الإستنزاف المادي و البشري.

و إذا كان فريق ما قادراً على الصمود لتزوّده بمؤن تمدّه بها دولة ما تحبّذ إطالة أمد الصراع مع إسرائيل، فالمواطنية الصالحة لا ترتضي إغفال معاناة الآخرين من أبناء الوطن.

لا يغيبنّ عن بال اللبنانيين أن المجتمع الدولي التفّ موحداً حول سبل إنهاض لبنان من كبوته، و اتخذ القرارات التي شقّت درب استعادة قراره و سيادته و استقلاله، و شكلت لجنة تحقيق دولية بذلت جهوداً جبارة لكشف خيوط حبكة جريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري.

و قد أفصح المحقق برامرتس الذي خلف ميليس عن دنو موعد إصدار مضبطة الإتهام بحق من يشتبه بضلوعهم فيها تمهيداً لإحالتهم على المحاكمة.

لذلك فإن أي إنقلاب على القرارات الدولية هو انقلاب على الوطن و طعنة في صميم الذين ناضلوا من أجل حريته و هو تحقير لذكرى شهداء استقلاله و في طليعتهم من نحيي ذكرى استشهاده بعد يومين، الرئيس رفيق الحريري.

الحكمة تملي علينا التحسب للمستجدات و إقفال الأبواب و النوافذ في وجه الرياح العاتية.

فإذا غرق النظام السوري في لجج الرمال المتحركة لتورطه في إرتكاب الجريمة الشنعاء، لا يجوز لأحد قطع الطريق لإعاقة سريان العدالة.

و إذا تأزمت علاقة إيران مع المجتمع الدولي عبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية و مجلس الأمن بسبب قضية تخصيب اليورانيوم، لا يجوز زجّ لبنان في خضمّ هذا الصراع.

المطلوب السعي الدؤوب و المخلص لترسيخ مقومات الدولة الديمقراطية السيّدة و العادلة و الأمينة و الموثوقة و القوية و القادرة و الفاعلة و المنتجة.

و المطلوب تخصيب وشائج المحبة و الإنسجام و التعاضد بين اللبنانيين بتنشئتهم على اعتناق قيم المواطنية الصالحة و تمتين الولاء للوطن بعرى أوثق و أقوى من اي ارتباط.

و المطلوب إدراك إهمية الحفاظ على فرادة لبنان كحاضن للحضارات و الأديان و مستوعب لتفاعلها و محوّل لطاقاتها و مصدّر لخيراتها.

فأمانة للتاريخ و شهادة لإستحقاقنا دعونا نحفظ تراث وطن الأرز الشامخ لنا و لبنينا بعدنا.

* مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية