٢٤.١٢.٠٦

أملاً في الإنعتاق من الضيق

حميد عواد*
سِجلُّ الحياة الوطنية في لبنان يحفل بالعزّ و الفرح كلما شاع الوئام و توثقت المحبة بين بنيه. لكنّه يتشح بالحزن و يكتوي بالألم و يُنكب بالخراب و العوز كلما هبّت الفتن و دُبّرت المكائد للإنقلاب على مواثيق و عهود الولاء الوطني. كانت الكوارث تُلمّ بنا كلما تعرّض الوطن لعدوان و إحتلال، و كلما تورّط في التألّب عليه "ضيوفه" و جماعات جاحدة بأفضال وطنها، تأخذ و لا تبذل، جرفها هوج الأهواء و ضلّلها إنحراف التطيّف. منها من تململ و إلتبست عليه هويته حتى مقاربة الإنفصام، و منها من طغى عليه نزعة هجينة ضللته و زيّنت له فكرة الإنسلاخ عن بوتقة نسيج "قوس قزح" الوطني، بل راقت له فكرة الطغيان على بقية مكوناته و طمس فرادته و إلحاقه بمن حرّض على زعزعته من الطامعين بلبنان. و الطامة الكبرى أن لبنان، بوداعته و انفتاحه و تنوّعه البشري و صيغته الديمقراطية الحضارية و موقعه في عين زوابع الصراعات المتجددة من حوله، غدا بؤرة تلاطم لأمواجها العاتية. و بتنا في دوّامة: ما إن ينحسر جزر صراع، يستعيد إثره خائضوه وعيهم الوطني، حتى يكتسحنا مدّ صراع آخر يُفتن بخوضه ربابنة جدد، أغرار أو متمرسين، لحساب "مرشدين" و " رعاة" "منّوا" عليهم بالسلاح و المال و التدريب و الدعم اللوجستي، بعد تنظيم دورات "تلقين و تدجين و تعبئة".
لنقف و نستعد بعض المحطات المصيرية في حياة الوطن، فنتذكر أن إخراج محتلّ ما من أرض الوطن "لإهدائه" برمّته كغنيمة لعسكر محتلّ آخر كان تواطؤاً خبيثاً و عبودية شنيعة فرضها النظام السوري على اللبنانيين تكريساً لتفكيك أوصال الوطن و شلّ نظامه الديمقراطي، تمهيداً لتصفيته و ضمّه. لذا استباح حقوق اللبنانيين و كراماتهم و أرواحهم، و تصرّف بمصائرهم كسلطان جائر يستبدّ بجواريه و غلمانه. و لم يخطر على بال أسياده و نخاسيه أنه سيخلي لبنان ( طبقاً لأحكام قرار مجلس الأمن 1559 و تحت وطأة إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ) و سيُحاسب على سجله الأمني الحافل ( بناء على جملة قرارات لاحقة ). و من هنا تصاعد وتيرة ارتعاده ذعراً من تشكيل المحكمة ذات الطابع الدولي المختصة بمحاكمة المتهمين بإرتكاب الجريمة المذكورة أعلاه و "ملحقاتها". و بالتالي، اندفع مستنفراً "عرّابه" الإيراني، المتشعّع أصلاً من كثرة تخصيب اليورانيوم، لحضّ المدينين للإثنين "بالرعاية" و التنشئة و التمويل و "التموين" على قلب الموازين في لبنان. و هكذا هبّ "حزب إستفتاء الفقيه" لنجدة حليفه ،الذي أطلّ بإعتزاز الواثق من "مشروعه" إثر الحرب التموزية ليحثّ المنفذين على "قطف ثمار النصر" سياسياً داخل لبنان. و ها هو التوقيت "الحرج" لإبرام نظام المحكمة و صلاحياتها "يحتّم" إطلاق "الإ نتفاضة الإنقلابية" "لإغتيال" سلطة التقرير "بِكاتم الصوت" "الضامن" لإجهاضها. إنّ افتعال الأزمات الحادة، كلما همَّ اللبنانيون للنهوض بعزيمة و تفاؤل و أمل، هو إغتيال لطموح و رجاء و أحلام كل لبناني، و إجهاز آثم على مقومات الوطن. إنّ حشد الجماهير "المدجّنة" في الساحات العامة و "تطويق" السرايا الحكومي و شلّ الحركة الإقتصادية في قلب العاصمة، هو عملية تلحيس المواطنين المبرد و إطالة تجويعهم حتى التأكد من لفظهم الرمق الأخير. إنّه تجفيل لمن رجع إلى الوطن و لمن يفكر بالعودة إليه و لمن صمد فيه رغم قساوة القهر و العذاب و سمو التضحيات، و نكران لوصايا الشهداء التي جددنا وفاءنا لها بالأمس القريب في وقفات وجدانية مهيبة مع بيار و جبران و سمير. كما إنه للأسف تنفير لكل مستثمر. و الأخطر من ذلك أنه استقطاب حاد للقواعد بين تيّار يندفع بزخم للإلتحاق بالركب الحضاري و آخر يجرف الوطن نحو التخلّف و الإحتضار. إنه إدمان على افتعال المعارك المدبّرة لتفريغ الوطن من أبنائه و جعله كبش محرقة في مناورات إقليمية تأسره رهينة في خضمّ صراع يديره "بأمان" و "عن بُعد" لاعبوه. إنه انقضاض على السلطة للتنصل من موجبات القرارات الدولية بدءاً بقرار مجلس الأمن 1559 وصولاً إلى القرار 1701، أملاً بإخلاء الجنوب من القوات الدولية و إعادة "افتتاح" حلبة الصراع. إنه تنفيذ لخطة "سورانية" خبيثة لنسف فرص النهوض الإقتصادي، من موسم الإصطياف إلى موسم الأعياد و إجهاض لمؤتمر الدول المانحة باريس-3 المزمع عقده في 25 كانون الثاني المقبل. إنه إمعان في اجتراح شروخ تتشقق على حدود إفرازات معينة و تتسع لتفصل بين أبناء الوطن الواحد لتمنع التفاهم بينهم و "توكل" أمر "ترويضهم" ل"متعهّدي القلاقل": أركان المحور "السوراني". بدل "أيقاظ الفتنة النائمة" في "قرارة" البعض، أيقظ الله ضمائر من شكّل "قبيلة" من أبناء ملّته مكتملة أوصاف الدويلة، و سلخ شيبها و أولادها و شبابها عن بقية أخوتهم في المواطنية فحجرهم في "معاقل" إعداد منغلق الأفق يجافي حقوق الإنسان و يعادي قيم الحداثة و الديمقراطية، فأوصد كل أبواب التفاهم و الشراكة. أمّا حصيلة هذه التنشئة فالتخوين "الوقائي" للآخرين و سلوك غريزي لا يليق بإنسان هذا العصر. و لا عجب كيف تحولت بعض مؤسسات التعليم إلى بخّاخ سموم و مغسل أدمغة لمحو معالم المعرفة و العلم و الثقافة و التمييز و الحسّ النقدي و المحاسبة، فيما أصبحت بعض كليات الجامعة اللبنانية أشبه بثكنات تسيطر عليها فصائل مسلحة "تسهر" على إقصاء مناوئيها و لو اقتضى الأمر تلقينهم "دروساً" دامية. إنّ قيام دولة العناية الرفيقة بأبنائها و العادلة و القادرة و القوية و الآمنة و المزدهرة، يرتكز على الإنخراط الصادق و الفعّال لكل أبنائها في بنائها. لكن يبدو أنّ أشبال النظام السوري و أتباع النظام الإيراني "متضررون" من قيام الدولة المنيعة، فهم يمعنون في إضعافها و هم يريدون الإستئثار بكل المقدرات لإقامة "جماهيرية" متفلتة من القرارات الدولية، مرتهنة للأمبراطورية الفارسية الجديدة و "محظيها" النظام السوري اللذين يرغبان في جعل "جماهيرية لبنان" جبهة دائمة الإشتعال ل"محاربة أمريكا" و "إزالة إسرائيل". إعتصامات اليوم هي استكمال لهدف لم ينجح تحقيقه إثر حرب تموز و هو إسقاط الحكومة لأستبدالها بما يشبه "مجلس ثوري" يجرّ عربة نار. في غمرة هذا اللهيب و إنقاذاً لرؤوس "نقابة المجرمين"، هان العبث باستقرار الوطن و جرّه إلى شفير هاوية، عندما صدر الأمر بإحباط تشكيل المحكمة المختصة بإدانة الضالعين في إغتيال الرئيس الحريري و الإغتيالات المرتبطة به. فمن درج على خرق حرمة القضاء في ظلّ عهد الهيمنة المشؤوم يطمح ربما إلى زرع "عضّوم ما" في المحكمة العتيدة أو تجريدها من صلاحيات إدانة الرؤوس "المحصّنة". أخيراً "صح النوم" لمن استفاق من السياسيين بعد استيعاب أهمية الدعوة الموجهة إليهم عبر ثوابت الكنيسة المارونية و مجلس المطارنة ليجتمعوا في بكركي و يتجاوزوا الموافقة اللفظية بصياغة ميثاق شرف يلتزمونه في المرحلة المقبلة و يلعبوا دوراً وطنياً توفيقياً مستوحىً من خلاصة البنود التي أجمعوا عليه. و هنيئاً "التشريف" لمن طُولب بالتنحي عن كرسي استُغِلّت صلاحيات شاغلها لإحباط نهوض الوطن من كبوته، ولشريك "أدار" اللعبة البرلمانية ب"هَدْيٍ" من تحالفاته الإقليمية و أوصد باب مجلس الأمة في وجه نوابها!!!
نتوجه إلى أهل الخير و الحكمة، وهم كثر، لنحضّهم على التلاقي و القيام بالدور الذي يليق بإخلاصهم و كفاءاتهم و قدراتهم، فيساهموا بفعالية في إنتشال الوطن من الأنواء الإقليمية و دفعه قدماً لإحلال السلام و الوئام و الرفاهية. أعياد مباركة مفعمة بالرجاء و سنة طيبة مقرونة ب"فسحة الأمل" و التفاؤل!
*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية