١٤.١١.٠٩

فحص الضمير للنهوض بالوطن

*حميد عواد

إستحوذ مخاض ولادة الحكومة على إهتمام شغوف من اللبنانيين، ما لبث أن خَفَتَ تدريجياً ليبلغ حدود الإشمئزاز من مماحكات هواة "كسر مزراب العين" ب"سيف" الظهير المستقوي لنفخ رصيد "الملكيين الجدد" بحقنات حقائب وزارية كانوا إستحقوها لو لم يتنكروا لأصالة الهوية الوطنية.
ضاع الوفاء و إختلّ المنطق و سقطت القيم و طُعنت الحرية و خُدع المناضلون يوم إنقلبت قيادات على مبادئها و راحت تغطي نموّ بؤر فئوية مسلحة جُنّدت إلتزاماً ب"هدي" مرجعية أعجمية فإكتسحت الأرض و نهشت مؤسسات الدولة و قيّدت النظام الديمقراطي و عملت على تغيّر معالم الهوية الوطنية.
و تبريراً لتحوّل "الهوى" لم تدّخر "القيادات الفذّة" صنفاً من "ألعاب الخفّة" السياسية إلا و مارسته لتدرأ الناس "شرّ الفتن"(!) و تصوّر شمول الفائدة و "البركة" و متانة المنعة و "نزاهة" القصد. ثم أطنبت في الإشادة ب"مزايا" الحكّام "البطّاشين" و محضتهم "براءات الذمّة" و أحاطتهم "بالإجلال و الإحترام".
فيما إنتخت لإحياء صور "منتقاة" من ذكريات الحروب العبثية الاليمة التي شاركت في إحدى مراحلها "لإلغاء الميليشيات"(!) و "بسط سيادة الدولة و القانون"(!).
و الهدف هو إدانة قوى منعت تحويل الوطن إلى بديل عن فلسطين في زمن الفوضى و كانت الوحيدة التي سلّمت سلاحها إلتزاماً بإتفاق الطائف و زُجّ بقائدها في السجن لاحقاً بعد "تدبيج" للملفات و رفض للمشاركة في وزارة تفتقر إلى مواصفات الوحدة الوطنية المطلوبة لأول حكومة بعد الطائف و رفض لعرض تسهيل الخروج من لبنان منحه رئيس الجمهورية آنذاك.
و إمعاناً في زرع الشقاق ضمن أوساط الفريق الذي إنفصلت عنه القيادات المذكورة، و تزلّفاً لمن خلع عليها الألقاب البرّاقة و عباءات الزعامة، راحت تصوّب سهامها العشوائية نحو مرجعية روحية و وطنية عميقة التقوى، راسخة الإيمان بالله، متجذّرة في إحتضان الوطن الذي لعب أسلافها دوراً محورياً بولادته و حمت مثلهم إستقلاله و حملته في وجدانها كذخيرة ثمينة تحافظ عليها و تمنع التفريط بها. هذه المرجعية تتجاوز "الأذى الشخصي" القاصر عن النيل من مهابتها، لكنها لا تسكت و تتكتف عند بروز أخطار تهدد أركان الوطن.
حريّ بهكذا قيادات إجراء مراجعة ذاتية و التأمل ببعض التساؤلات التالية:
أين صدقية التبشير بالتسامح متى إقتصر على حلقة الحلفاء الجدد فيما إستمر "رجم" الأخوة؟
و أين صراحة مساندة سيادة الدولة و دعم مؤسساتها و أجهزتها و تعزيز صلاحية سلطاتها فيما الخطاب و الممارسة يقبّحانها ليجمّلا منجزات الدويلة المنافسة؟
و أين العفّة في إدّعاء محاربة الفساد فيما السلوك يصوّر تجاوزات "البطانة" فضيلة و التصرف بأملاك الغير حقّاً مكتسباً؟
و أين الشفافية في الدعوة إلى الإحجام عن بيع الأراضي للأغراب و عودة المهجّرين فيما التمدد المنهجي للحلفاء ينوء بثقله على سكان محيطهم و يدفعهم لبيع أراضيهم و هجر الوطن؟
و أين الجدية في الإلحاح على رفع يافطة "منع التوطين" دون طرح حلّ قابل للتطبيق فيما الهدف هو جعله مطية لإستجرار حروب طاحنة مع إسرائيل لا حسم فيها؟
و أين الثبات على إعتناق مبادئ صيانة حقوق الإنسان و توفير الحريات المشروعة و الحفاظ على النظام الديمقراطي فيما التنكر العقوق لهذه القيم بلغ حدّ لعن حضارة الغرب و حكامه للتدثر ب"مآثر" طغاة المشرق؟
أين الحكمة من التنكر لفضل أحكام القرارات الدولية في إخراج الجيش السوري من لبنان فيما كانت النية معقودة على "إستيطانه"؟
أين المروءة من الإستخفاف بدم شهداء "ثورة الأرز" و تسخيف تضحياتهم و تمويه سفاحيهم؟
أين الشجاعة في قول الحق و التعبير عن القناعات بجرأة و راحة الضمير بدل الرضوخ لضغوط الترهيب و الترغيب؟
أين الأمانة في الولاء للوطن عندما تنبهر الأنظار من أضواء "النجومية" المسلّطة على المسرح السياسي و تحجب المناصب الموقتة الرؤية عن خطر الوجهة التي يُدفع إليها؟
إن الإنفتاح على مختلف شرائح الوطن لا يكون مشروطاً بخضوع الجميع لمشيئة المقتدر مادياً و عسكرياً و لا يقوم على حساب محاصرة فريق و محاولة عزله.
حقّ بديهي للبنانيين ألاّ يشعروا بالأمان و الإطمئنان إلاّ في عهدة قوى الأمن الشرعية. أمّا الأمن الفئوي الخاص فهو حافز لدفع كل فريق لإنشاء جهاز أمنه الخاص.
هل من رهان على سذاجة الناس لإيهامهم إن المهارات القتالية "الرشيقة" يستحيل دمجها ضمن صفوف الفرق النظامية المتعددة المهام و الكفاءات و العالية الأداء أو كفرقة دعم خاصة، و مفهوم الخدمة العسكرية يدخل في هذا النطاق؟
أما إطلاق العنان لقوى "المنعة" غير النظامية ككيان متميز عن الآخرين هو كإفلات خلايا مناعة الجسم من عقالها حين تعلّل خطأًً إشارات صادرة عن أنسجة سليمة فتعتبرها دخيلة و تنطلق لمهاجمتها و تصيب الجسم بعطل معيق لا شفاء منه.
عند كلّ إستحقاق دستوري يستنفر حلفاء المحور الإيراني-السوري قدراتهم التعطيلية لإطالة أمد إنجازه إفساحاً في المجال ل"حاضنيهم"، أركان نظامي الثنائي، لقبض أثمان تسهيل متدرّج لسياق الإستحقاق و لإثبات "طول باعهم" داخل لبنان و على الهامش يركزون الأضواء على "تألق نجوم" فرق المواكبة بوضعهم على خشبة المسرح السياسي و الإختباء وراءهم.
هكذا وُضع سيناريو الحكومة على ثلاث مراحل طالت 4 أشهر و 12 يوماً إعتراها إعتذار و إعادة تكليف الرئيس سعد الحريري إثر أولاها:
1-صفقة هيكلية الحكومة 15-10-5
2-صفقة قبول الراسبين في الإنتخابات و تحديد الوزارات في سلّتي الأكثرية و الأقلية
3-تجاوز "ألغام" توزيع الحقائب ضمن السلّة الواحدة و إختيار الوزراء
و الآن مرحلة رابعة دقيقة هي صياغة البيان الوزاري و القطبة المخفية فيها هي ربط الإلتزام بالقرارات الدولية باإشارة إلى حق تحرير الأرض "بكل الوسائل المتاحة".
لا شكّ أنّ درب التكليف المضني شحذ معدن الرئيس الشاب سعد الحريري فأثبت أنه رجل دولة من عيار أبيه الشهيد.
كما يبدو أنّ كافة الوزراء يتمتعون بكفاءات عالية نأمل أن يكرسوها لخدمة المجتمع بتفانٍ و إتقانٍ و مناقبية و عدل دون تمييز و إنحياز.
فرص إقتران النوايا الحسنة بالعمل المجدى و المنسّق متاحة و لو أنّ إجتراح العجائب وحده يعوّض صبر اللبنانيين و جسامة تضحياتهم. فإستعدوا لممارسة المهام بحرفية و سخّروا كامل طاقاتكم للفوز في سباق التنظيم و الإصلاح و الإنماء و الإنتاج لتستحقوا الثقة و التقدير و الشكر.
*مهندس و اكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية