٢٨.٢.١٨

تنهيدة الحرية في لبنان وتنفيس الإحتقان الإقليمي رهن بكبح التضخّم إلإيراني

مكابدة الأزمات المزمنة والخانقة التي تُلمّ بلبنان وتحاصره وتعتصره وتتقاذف أبناءه جعلت الملهوفين عليه قلقين ومضطّربين وغاضبين. فزخم اندفاعهم نحو التطوير والتحديث والترقّي يعاكسه تيّار رجعي يعيق حركتهم إذ يخطف خائضيه من الحاضر ليغوص بهم في أغوار عصور البداوة حيث يسود العصب القبلي المثير للغرائز والمعطّل للعقل. هذه الحال هي ذروة الظلم للبنانيّين لأنّها تشعرهم بالغربة في وطنهم وسط بخّات سموم تضخّ التناحر وتفكّك أواصر الإلفة وتشحذ الفرقة عشائر متناوئة ومتناوشة. الاستغراق في قمقم هذه الغيبوبة يمنع استعادة الوعي ويسهّل استغلال الغافلين عن سقوطهم في هوّتها السحيقة وقوداً لمحارق الأوثان المتألّهة. تخدير المتهاوين نحو الهلاك بخوراً لتبجيل الأوثان يتمّ بحقنة غرور "تعبق" ب"الطّهر" وب"يقين" كشف "أسرار الوجود" "الداحض لترّهات تفوّق الرقيّ والتحضّر". هذا الحقن يحنّط الأدمغة بين دفّات "مدوّنات السجلّ العتيق" ويحضّ على نبذ كلّ مستجدّ يستعصي على "تقزيمه وقولبته" ضمن حيّز المفاهيم الضيّقة. هكذا تُصنف دساتير الأنظمة الحديثة والمواثيق الأممية والعهود الوطنية "باطلة" لخروجها عن أطر النطاق المرسوم، ويستحيل التعايش مع هذا التهجين. فالانجذاب نحو فلك سطوة "مراجع" خارجيّة ومبايعتها سلطة وطاعة مطلقتين هو انشقاق عن الولاء الوطني وخروج من بوتقة الحياة الوطنيّة لخدمة غريب مفدّى ومبدّى على حساب السيادة الوطنيّة. للأسف لقد بلغ "إرضاع أمهات" بعض المذاهب لرعاياها في لبنان ب"الحليب" العقائدي والمعنويّ والماديّ حدّاً شدّد عصبهم و"أهّلهم" لتشكيل "كيان خاص" مكتفي القدرات ومكتمل الهيكليّة جعله "محصّناً ومدجّجاً بالسلاح في مواقعه الموغلة في التشعّب" ومستقوياً على الدولة اللبنانية ومواطنيها. هذا "التفوّق" زعزع الأمن واستحوذ النفوذ واغتصب الامتيازات والأملاك وابتزّ المناصب وقضم الحقوق واحتكر المداخيل واحتقر المواهب وجيّر ريع الفوائد لمحظيّه وأغرى الانتهازيّين وأجاز الغشّ والتزوير والتهريب واستباح مؤسّسات الدولة ومرافقها ومعاهد التعليم، فساء الأداء وانحطّ المستوى. وهذا الخلل الخطير المغلّف بتقيّة المواقف وتعرّج التشريع وفجور مطالعات الدفاع عن الباطل هو الذي أربك سياق تعافي الحياة الوطنيّة. فتسرّبه إلى مفاصل الوطن أدّى إلى إحباط جهود البناء الحثيثة وإجهاض النهوض ولجم زخم تدعيم ركائز الدولة وإعاقة تحديث مؤسّساتها وتتويه مساراتها وتكبيل أدوارها ومسخ معايير الكفاءة والجدارة في إناطة المسؤوليّات. كما أفضى إلى إرباك مهامّ القوى الأمنيّة ونقصان التدابير الضامنة لتحصين القضاء تحت قوس توازن العدالة وتعطيل للرقابة بإضعاف أجهزتها الكفيلة بتأمين انسياق سهل وجيد ومنتج للعمل الإداري مضبوط بمجازاة منصفة ثواباً أم عقاباً. فيما يمعن هذا القرض نخراً في هيكل الوطن، يواصل المتشبّعون بحبّ الوطن بذل الجهود وتنسقيها وتجيير "حظوة" العلاقات الخارجية المفيدة لصبّها في خزّان الخير المشترك الذي يرفد نهوض الوطن ويغذّي نموّه. التنكّر للإنتماء الوطني والجحود بأفضاله لتكريس الذات بيدقاً في يد لاعب شطرنج خارجيّ مغرور بالأبّهة يلتذّ بتوسيع رقعة نفوذه المطلق، يشرخ انفصاماً نفسياً داخل المستسلم ويطعن السيادة الوطنيّة في الصميم، لكنه يكثّف احتشاداً متراصّاً للمخلصين لنصرة الوطن ودرء الأخطار عنه. وسط الغليان في مرجل النزاعات التي تحيطنا أُحرق الكثير من البيادق في لجّة النزاع السوري المأساوي، فقوّة جذب لاعبهم تغلّبت على نصائح النأي عن النار. حلم انبعاث إمبراطورية إيرانية راود مخيّلة مرشدها وبطانته فكرّس لبسطها فيالق عسكرية من المشايعين البلديين والإقليميين وضخّ الأموال والفتواى والإستنفار والموارد وشنّ الحملات فشقّ طرقه إلى بلدان شاء ربطها بملكه. بسْط أذرعته العسكرية امتدّ إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن وبلدان أسيوية وإفريقية، مستغلاً ضعف السلطات المحلية وتفاقم القلاقل بين أهلها. "الفتوحات" التي حققها طفحت تهلّلاً عبّر عنه العديد من المسئولين الإيرانيين متبجّحين بسيطرتهم على العديد من البلدان والعواصم. لكن هذه السيطرة ليست كاملة ولا مطلقة إذ يقارعها مناهضون محليون وإقليميون ودوليون. سوريا "المحروثة" والمحروقة بعدّة وذخيرة الحرب التي صلى أهلها بها الثلاثي النظام السوري- إيران وأذرعتها- روسيا هي نموذج. روسيا "افترشت" "حميميم" مهبطاً ومنطلقاً لطائراتها الحربية التي رجّحت الكفة العسكرية وقاعدة طرطوس مرسىً لأسطولها البحري وأستباحت المدى السوري حقل تجارب لأسلحة جديدة، كما شكّلت "ضابطاً" وكابحاً لشبق الهيمنة الإيرانية ف"همست" وعود التطمين في كواليس التحادث مع إسرائيل وهدّأت قلق النظام السوري من انفلاش جموح إيران. طول باع إيران في هذه الحرب أشعرها ب"تبنّي" سوريا كولاية إيرانية وحثّ النظام المنهك ليتّكئ على حليف لائذاً من غلواء وضغوط الآخر. التغلل الإيراني في المدى الجغرافي العربي حاملاً رايات "ولاية الفقيه" و"الإسلام النقيّ" ونصرة "المحرومين والمضطهدين" و"تحرير فلسطين" أغاظ دول الخليج، خاصة بتاليب المسلسين لدعواته داخل هذه الدول على حكّامها.هكذا تأجّج الإحتقان بين المذهبين الشيعي والسنّي وراح ينفث دماء ضحايا كثيرة في باكستان واليمن والعراق وسوريا فيما تمخّض في بلدان أخرى. صراع النفوذ الشرس المضرّج بالدماء والمثير للأحقاد زعزع الاستقرار في المنطقة واستقطب "متكفّنين" بدثار دولة "الخلافة" أرتكبوا الفظائع لإثبات "بأسهم" وترهيب مناوئيهم مستخدمين شبكات التواصل الإلكترونية للترويع والتغرير. في ميادين التطاحن السورية تشتتت الفصائل المعارضة لتضارب ولاءاتها وسُحق أنصار دولة "أضغاث الأحلام" بتوائم صدفة نتج عن بروز عدو مشترك لحلفاء ومتناوئين. لقد ضاعت البوصلة في كثير من المواجهات صعب معها التمييز بين حليف وعدو، فهناك أدوار تلعبها بعض القوى تحيّر المراقبين في فهم نواياها وتحديد موقعها واستكشاف آفاق تحركاتها. تركيا "النايتوية"، بعدما "شهدت رواج سياحة داعشية" عابرة لحدودها عدة سنوات، تركّز اليوم على "بيت القصيد" وهو اجتثاث الفصائل الكردية التي حاربت داعش بدعم أمريكي في سوريا في جوار حدودها. لا همّ لها الإعتراض الواضح من فرنسا وإلمانيا على ذلك والملتبس من أمريكا. تحت شعار حماية حدودها شنّت حملة عسكرية شرسة على "عفرين" فيما هي "شاخصة" بعدها إلى "منبج" (آملة بشراكة مع القوى الأمريكية) حيث يتمركز قوى أمريكية خاصة إلى جانب "وحدات حماية الشعب الكردي". وهي من منطلق التحالف "الأخواني" مع "قطر" أمنّت للأخيرة حماية أمنية وتموينية استكملت بمدد إيراني لكسر المقاطعة الخليجية (والتي ضمّت حلفاء من خارج الخليج) الإعتراضية على مآخذ ناقضت الجهود لمحاربة الإرهاب. القوى الأمريكية لن تتزحزح من "البرزح" البترولي الكردي في شمالي سوريا والعراق ومن معبر النتف والشريط الحدودي الملامس للأردن والعراق وكل المواقع المتاحة التي تعترض الكرّ الحرّ للتموين الإيراني باتجاه سوريا وتحبط الإستئثار بملف مستقبل سوريا (من بوادره ترحيل المحادثات من جنيف لعزلها في أستانة أو سوتشي ب"رعاية" روسيا وإيران وتركيا) لأسباب أمنية وسياسية واستراتيجية واقتصادية داعمة للأكراد الذين أبلوا البلاء الحسن في محاربة داعش. الحسم العسكري يُستأنف بقسوة (في الغوطة الشرقية)، مبيداً أرواح مدنيين، للتخلّص من بقايا البؤر المتمرّدة على النظام وترجيح كفّة الأخير في النفاوض على حلّ "سياسي سلمي". لكن يبدو أنّ المهمّة أعقد من إطفاء جمر. الإنقاذ هو حاصل تسريع التنسيق الصريح والوثيق بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، لاشتقاق السبل الآيلة إلى وقف القتال وابتكار الحلّ الناجع المستولد من حوار بنّاء بين الأطياف السورية، يصيغ مبادئ بناء نظام جديد، يعتق السوريين من القيود التي كبّلتهم ويفكّ طوق الطغيان الذي خنقهم خلال خمسة عقود. هذا التحرر يتيح لسوريا الإنطلاق نحو أطر ديمقراطيّة، حُرم منها أبناؤها، ليتيح لهم مشاركة فعّالة تنتشلها من وضعها المفجع وتنقلها إلى آفاق سلام وازدهار. في الأنظمة الثيوقراطية الولاء للانتماء المذهبيّ يندمج مع الولاء للانتماء الوطني، لكن زجّ نظام ديمقراطي، كالقائم في لبنان، في تلافيف لزاجة هذا "الغراء" هو فخّ قاتل، لأنّه يشحذ الغرائز العدوانيّة ويشلّ حركة التطوير ويشكّل تهديداً وجوديّاً. إستقواء "الراضعين من حليب" النظام الإيراني لا يمنحهم العصمة ولا يسمّنهم لافتراس المخالفين لمقصدهم ولا يسوّغ لهم الإطباق على مفاصل الدولة اللبنانية. لبنان نموذج تفاعل إنساني خلّاق وسامي القيم، خيره خصيب ومعدٍ ووجوده ضرورة لا تنعدم. إستلهام الضمير في قواعد السلوك وتعزيز الكرامة وإتاحة حرية رشيدة لتطواف الفكر والتعبير اللبق والحكيم عما يختلج في الخاطر وصيانة الحقوق وتلبية الواجبات بتفانٍ وتحقيق المعجزات ورفع شأن الوطن إلى ذروة المراتب هي من الشيم اللائقة بصفوة اللبنانيّين، وكلّ ما يناقض هذه السمات ممجوج ومرفوض. حميد عوّاد: مربوط ب"حبل السُّرّة" إلى الوطن ومنذور لمحبّته ورفع شأنه ومواظب على مواكبة مسيرة تعافيه*

ليست هناك تعليقات: