٢٠.١٢.٠٤

بين المطرقة ...و السندان...

بقلم حميد عوّاد*

رصيد الإنسان كامن في معرفته و فكره و ثقافته و ذكائه و منطقه و قيمه و مناقبيته و مصداقيته و عطائه. لذا فالإنصاف يقضي بإعطائه استحقاقه بناءً على قدر و أصالة هذه الخصال. لكن و للأسف تنتج ظروف الفوضى و الغفلة عند نشوئها أوضاعاً هجينة تتحدى المنطق و تستفزّ الذكاء و تحتقر الثقافة و تهزأ بالقيم. عندئذ تسنح الفرص الملائمة لتناسخ الوحوش المتخلفة والمؤاتية لسيطرتها على الموقف و القرار, فتطلق مسوخها للإنقضاض على مراتب لا تتناسب مع "مواهبهم" و لا تمتّ إلى "كفاءاتهم" بصلة. و بلمحة بصر يتسلّل حفنة من الجهلة المأجورين و أصحاب الأدمغة المتحجرة و حملة الشهادات المزورة أو الألقاب المكتسبة بلا جدارة أو استحقاق إلى وسائل الإعلام وإلى سدّات سلطات القضاء و التشريع و التنفيذ, ليفسدوا حياة الناس و يحولونها جحيماً.

نحن اللبنانيين أدرى من غيرنا بهذه الأجواء، فقد تفجرت صراعات قولبة المنطقة فينا و حولنا, و أطلقت العنان تباعاً لقطعان من الوحوش الضارية نهشت أحشاءنا و كادت تُحوّلنا أشلاء و دكّت أركان وطننا و أوشكت على جعله ركاماً. لكن تعاضد اللبنانيين الأُصلاء, مقيمين و مهاجرين, و سعيهم الحثيث و تصدّيهم الباسل لمحاولات الهضم و "الصهر" و صمودهم الصلب حال سابقاً وسيحول مستقبلاً دون تصفية الوطن إلى مشاع للعسكر السوري و "حاضن" ل"صادرات" النظام الإيراني و بؤرة تخريب لفصائل الإرهاب. و كما عصا لبنان على الغزاة قديماً و حديثاً سينتصب اليوم جبّاراً ليتغلّب على جراحه و يتعافى من كبوته.

لن ينسى اللبنانيون الأوفياء مواكبة الأمم المتحدة الدائمة في جلجلتهم و مشاركة قواتها آلامهم و نزفها الدماء و بذلها الأرواح في اعتداءات و في سلسلة تفجيرات إرهابية(القوات المتعددة الجنسيات)استهدفتها و تكررت لاحقاً في بلدان متفرقة فهزّت العالم و زعزت الوجدان العالمي و أيقظته من سباته ليدرك أن المناطق النائية من العالم هي أقرب مما يظنّ و أن إقفال "مختبرات" "استنساخ" محاربي "داحس و الغبراء" أمر ملحّ لا يمكن التغاضي عنه. كما أن حماية العالم بثرواته البشرية و الطبيعية غدت شأناً عالمياً حيوياً. فبدأ التصدي للإرهاب وتوسع نطاقه لتطويق معاقله, كما بدأت ورش إصلاح الأنظمة المتعثرة و المتزمّتة لتحديثها و تطويرها بوتائر متفاوتة. أما التعنّت و إلإصرار على الجمود و تحصين النوايا الخبيثة بأسلحة متطورة أو كاسدة و ادّعاءات مريبة فأصبح عملياً يشكّل اعتداءً على الأمن العالمي يوجب مواجهته.

في هذه "الليالي الظلماء"افتُقِد "بدر" لبنان, الرسالة الحضارية, فتألّق كنموذج مصغّر عن الوطن العالمي المعاصر الآخذ بالتبلور متجاوزاً الحدود الجغرافية ليجمع الأسرة البشرية في بوتقة تآخٍ و وئام. لتتويج هذه القناعة, و كما تتبنّى اليونسكو بعض المواقع الأثرية و التراثية في العالم لتحميها و تصونها فتطوّبها جزءاً من التراث العالمي, كرّس مجلس الأمن بقراره المرقم ,1559 و بإجماعٍ أمريكي أوروبي, جعل لبنان "محمية" دولية هي مثال يحتذى و قدوة حضارية لبناء الديمقراطية و حماية حقوق الإنسان في دول المنطقة و تمّ إعلانه بشرى تفاؤل للعالم بجعل التنوع غنىً و الحوار سبيلاً للحلول. لقد كلّل هذا الإنجاز جهوداً دؤوبة بذلها المناضلون من أجل استعادة الحرية و السيادة و الإستقلال, لبنانيون و أصدقاء, داخل الوطن و في المهجر, فدعمهم الكونغرس الاميركي بإستصدار قانون"محاسبة سوريا و استعادة سيادة لبنان" (شكراً للذين أعدّاه و لتأييد كافة الأعضاء)مؤكداً عزم الإدارة الأميركية و عزم العالم الحرّ المقرون بالقرار 1559 (شكراً للرئيسين بوش و شيراك اللذين توافقاعلى بلورته)على دفع النظام السوري إلى سحب مخابراته و جيشه و راداراته ( التي ما رصدت تحركات "العدو" و غاراته مرة بل "وُجّهت" لتقصّي خُطى اللبنانيين
و استشعار "نواياهم" حصراً) من لبنان.

دائرة رفض الهيمنة السورية على لبنان آخذة بالإتساع رغم محاولة اغتيال آثمة. فبعد عودة إلى الذات و فحص ضميرو مراجعة حساب أدرك(و لو متأخراً) الأستاذ وليد جنبلاط و فريقه أن حكم المخابرات السورية لا يطاق و طالب بسحبها مع جيشها من لبنان (مع الإبقاء على بعض "شعرات معاوية" الإستراتيجية في البقاع) لإنقاذ الديمقراطية و الحرية فيه. كذلك تحررت نسبياً خطى رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري فأعلن تأييده لقانون إنتخابي يعتمد القضاء كدائرة(و هذا لا يغيظ سوى "سوّاقي المحادل" الساعين بوقاحة إلى دهس المعارضين بحمولة من المجنسين و الأموات المنبعثين في جداول الشطب). و في هذا الصدد تنطلق الألسنة البلغية لتشيد "بالصَّهر" الوطني في "مرجل" دائرة انتخابية واحدة يُؤمَّن لها الحشد الكافي و "الدعم" اللوجستي لطمس معالم عشّاق الحرية و السيادة و الإستقلال. هذه عيّنة من الخطط الخبيثة المضمرة التي يراود أصحابها حلم إغراق المجتمعات ب"سيل" بشري عارم لقلبها و قهقرتها و العالم مدرك لما يُبيّت.

هذا الإغراق هو سلاح في يد النظام السوري و رهن إشارة من حاميه و "عرّابه" الإيراني الطامح إلى إقامة "إمبراطورية" مترامية الأطراف "واسعة الأجنحة" . لكن هذا التحالف الوثيق لن يشكّل مظلّة واقية تغيّبهما عن تدقيق المجهر الدولي و لن يكسبهما الكثير من الحصانة و المنعة و العصمة. إذ أن العد العكسي لبزوغ فجر الحرية و التجدد و الانفتاح بدأ بالتناقص و مع انبلاج أنواره ستتبدد العتمات الحالكات. بوتيرة موازية يتناقص صبر اللبنانيين و يفرغ جَلَد المجتمع الدولي الذي لا ينفكّ يؤكد للنظام السوري بألسنة مسؤولين متنوعين أن سياسة التلكؤ و المراوغة وفذلكة الألفاظ(قوات أجنبية لا تشمل الأخوية) و التهديد و الوعيد و الأخذ و المطالبة بالمزيد و إيواء الإرهابيين بالجملة لبيعهم بالمفرّق لم تعد قابلة للصرف في مقاصّة البورصة الدولية و أنه لن يجني منها سوى الخيبة و العقوبة. النظام السوري مقبل مع سماسرته و مبشّريه و"روابيقه" على مواعيد لجولات حساب إبتداء من منتصف كانون الثاني, حيث "مطرقة" قانون "المحاسبة" و "سندان" القرار 1559 جاهزان لدقّ عنقه. فهل سيستمر في المناورة والمجازفة أم سيجرّ أذياله و ينكفئ إلى دياره لإصلاح ما أفسده؟

مع انفتاح أبواب السنة الجديدة نتمنى انفتاح القلوب والعقول للتلاقي والحوار و ندعو إلى تنقية الضمائر والذاكرة في سبيل التضامن والتواصل بمحبة كي تعمّ الطمأنينة و يتحقق العدل و ينتشر السلام و تزدهر البحبوحة و يطّرد الرقي.
فلتتضافر جهودنا لجعل السنة الجديدة 2005مصدر خير و بركة لكل أخوتنا في المجتمع الإنساني.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

ليست هناك تعليقات: