٦.٣.٠٥

سقوط لا مفرّ منه

حميد عوّاد*


بخار حماوة الحماسة الدولية لتنفيذ أحكام قرار مجاس الأمن 1559 ألهب هواجس أركان النظام السوري و قضّ مضاجعهم. فهبّ منطلقاً من دمشق وزير الخارجية و بعده الرئيس السوري ليستجيرا بحكام مصر و السعودية، علّهم ينفّسون شيئاً من الإحتقان الذي يوشك على خنق أنفاس "أسد" الشام و يشارف على تقويض عرينهم.
لكن حصيلة الإستنفار و الأستنهاض ما برّدت غليل المسؤلين السوريين بل زادتهم غلياناً وقلقاً. فتأييداً لإنتفاضة الإستقلال الراقية و النبيلة و انسجاماً مع الإجماع الدولي (الذي أيّدته روسيا بلا تحفّظ هذه المرة) انضمّ العرب إلى موكب الحرية مطالبين، و في طليعتهم السعودية و مصر، حكام سوريا إلى إنسحاب فوري من لبنان.
رغم حصره في بؤرة أنظار هذا الطوق يحاول النظام السوري المراوغة والتملّص بإعلان انكفاء تكتيكي مرحلي إلى البقاع ("إلتزاماً" باتفاق الطائف) لإستيعاب الصدمة التي مُنِيَ بها آملاً بأن يحالفه الحظ في فرصة لاحقة فيتمدد و يبسط سلطانه من جديد على مدى بلاد الأرز.
فهل نستبعد ما يجول في خاطر الوزير الشرع عن هذا السياق حين يدّعي أنّ الإنسحاب يقتضي مهلة سنتين؟
و هل نتساءل عما يدور في ذهن الرئيس السوري بشار الأسد عندما يعلن أنه لا يمكنه تحديد المدة اللازمة لإكمال الإنسحاب لأنها من اختصاص العسكريين؟

هذا الإبهام المقصود يوحي كأن الجيش السوري بحاجة إلى مرشد يهديه إلى طريق العودة و اللمز في الحالتين يوحي وكأن هناك حاجة لبناء ثكنات جديدة في سورية لإستيعاب عسكرها المنتشر في لبنان ( حيث كان يبدو بقاؤه "ضرورياً" بلا أجل) فيما لا يمكن المسؤولين السوريين نكران حاجتهم الملحّة لنشره على طول الحدود مع العراق لضبطها.

و لإفحام "المتطفّلين" على الدور السوري ( العاصي على الضوابط) "شَهَرَ" الرئيس السوري حجّة لزوم إجماع اللبنانيين (الناقص حتى الآن) على ضرورة خروج جيشه من لبنان.
و كأن العالم يؤخذ بسحر الشعوذات السورية و لا يعرف أنّ العكس هو المبرر: شأن بخطورة إطباق نظام عسكري مستبدّ على بلد ديمقراطي كلبنان هو الذي يتطلب إجماعاً لبنانياً على قبوله و هذا أمر مستحيل و مرفوض من أبناء لبنان الأباة. كما أصبح مرفوضاً وملفوظاً ومداناً و مستهدفاً من المجتمع الدولي كل أنظمة التعسّف و التزمّت لأن خطورتها و أذاها يتجاوزا نطاق شعبها ليطالا العالم بأسره.
يعصى على العاقلين استساغة التناقض الفاضح في كلام الرئيس السوري حين يبدي حرصه على استقرار و وحدة اللبنانيين من ناحية ثم يعكف على تصنيفهم "أكثرية"من "الوطنيين" يتمسكون بهيمنة النظام السوري (آخر الأنظمة المتحدرة من سلالة "القبضة" و "الستار" "الحديديين" البوليسية المنقرضة)، و قلّة من"غير الوطنيين" يمدّون أياديهم إلى "الخارج".
و كأنه بذلك يشتكي من "تنغيص" العالم الحرّ "هناء" تلذذ عسكره بامتصاص رحيق لبنان و إذلال بنيه.
لا يكتفي الرئيس السوري بهذا القدر من الفرز "الطيّب القصد" بل يعمد إلى "تلقيم" و "شهر" "سلاح" حزب الله في وجه بقية اللبنانيين و حتى دول العالم المتمدن.
و هذا السلوك ليس مستغرباً ممن أتقن فنون شنّ الحروب بالواسطة.
لقد سئم اللبنانيون تكرار تهديدات أقانيم التسلط السوري عليهم باندلاع الفتن متى أعتقوهم من جورهم و هم يعرفون تفاصيل كثيرة عن "التبليغات" التي أسمعها هؤلاء لرئيس الوزراء السابق رفيق الحريري الذي اغتيل شهيداً فداء لسيادة و استقلال لبنان فدفنت معه أسرار خطيرة كانت ستطيح برؤوس كثيرة حين يبوح بها كما ألمح قبيل استشهاده.
الرئيس السوري "نبش" اتفاق الطائف من القبر الذي دفنه فيه ممثلو نظامه "المتصرفين" بشؤون لبنان ليجد آلية لتطبيق الشقّ "الممكن" من القرار 1559.
فضّل سيادته التغاضي عن الإنتفاضة الشعبية المتعددة الأضلاع، الصريحة المطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان و المتشبّثة بتشكيل حكومة كفية و قوية و منزّهة، تمسك بزمام السلطة بلا منازع، و تحتضن بنيها، و تجعل المطلب الشعبي مطلباً رسمياً حاسماً يسرّع الإنسحاب، و يعدّ لإنتخابات حرة تفتح الدرب للنهوض بالوطن من كبوته.
جيل النور و الحرية، جيل الإستقلال راسخ في تصميمه على إقالة رؤساء الأجهزة الأمنية الذين تقع على عاتقهم مسؤولية التقصير في إحباط عملية إغتيال الشهيد الرئيس الحريري. جيل اليقظة و العنفوان يضغط في سبيل تسهيل إجراء تحقيق دولي دقيق يكشف منفّذي و مدبّري عملية الإغتيال الأثيم فينالوا عقابهم أمام قضاء مطهّر من شوائب علقت به.
نحن إخوانهم في بلاد الإغتراب معهم قلباً و قالباً نتحرك على إيقاع نبضهم الوطني و العالم كله يدعمهم و يتابع تحركهم عن كثب.
لقد مُنح النظام السوري فرصاً عديدة لإعتاق لبنان من قبضته وللإقلاع عن معاكسة المساعي الدولية لنشر السلام و ترسيخ الإستقرار في المنطقة فلم يتّعِظ، لذا ليس مجدياً للبنانيين، الذين استبدّ بهم ردحاً من الزمن، التعاطي معه مباشرة و إنما عبر المجتمع الدولي الذي يعدّ التدابير الزاجرة لردعه و استعادة رشده.
فقد العالم الأمل بقدرة هذا النظام على إصلاح ذاته لذلك لا مفرّ من سقوطه.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

ليست هناك تعليقات: