٢٩.٣.٠٥

تقصي الحقائق و تقفي خطوات الإنسحاب

حميد عوّاد*

بعد تقصٍِِ أولي للحقائق ، بمختلف وجوهها، و معاينة ما لم يُخفَ من الأدلة و جلب شهود "أغفلهم" التحقيق الرسمي و تمنُّع "أقطاب" عن "البوح بمكنوناتهم"، صدر تقرير لجنة خبراء الأمم المتحدة في صيغة مضبطة إتهام لرؤوس "توائم" الأجهزة الأمنية ، بالتقصير الفاضح و الإهمال المشبوه و الإستنكاف المتعمّد عن الإ جتهاد في جلاء حبكة المؤامرة التي استهدفت الرئيس الحريري و أدّت إلى استشهاده و لفيف من مرافقيه.

أثار التقرير إحتقان الإستياء السوري من "تألب" خفي و "إلتفاف" خلفي على سلطان أربابه الآسر لبنان، تبلور بالقرار الأممي 1559 الذي إتُهم الرئيس الشهيد بالضلوع في استصداره.


و قرن هذا الغضب باللقاء "الوداعي" الخاطف و الصاعق بينه و بين الرئيس بشار الأسد. و ربطه بحملات تحريض شعواء أطلقها "أشبال" النظام السوري ضد الفقيد مهدت الدرب و هيأت الأجواء لبلوغ الذروة في التفجير الآثم.

بعد المسح الميداني و الإستقصاء الأمني و الإستقراء السياسي خلص الخبراء إلى قناعة أن رؤساء الأجهزة الأمنية الممسكين بمؤسسات لبنان هم عقبات تعرقل سياق تحقيق دولي سيصدر مجلس الأمن قراراً اليوم بإجرائه.

و كان لافتاً قصة "كبش المحرقة" " أحمد أبو عدس" الذي تلقفه "مرشد روحي" مزعوم و كسب ثقته ليعده "بمفاجأة" اصطحبه إليها صباح 16 كانون الثاني و يختفي أثره بعدها علماً أن الشاب المغرر به وعد أمه بالعودة بعد بضع ساعات.
من الشائع أن يتنكر مخبرون "بحلة" متدينين و أن تسعى المخابرات في الأنظمة الشمولية إلى استمالة و حتى تجنيد رجال دين.

فهل يا ترى انطلت حيلة ما على الشاب "أبو عدس" أو استغلّ إيمانه ليظهر في الفيديو و يصرح بما لُقن؟

ثم تمم فعلاً المهمة بسوق شاحنة الميتسوبيشي البيضاء ( الظاهرة في شريط الفيديو الذي التقطته كاميرا بنك HSBC القريب من موقع الإنفجار) المحملة (فرضاً) طناً من متفجرات TNT ففُجرت بعلمه أو بدون علمه؟

ماذا لو أن السيناريو أختلف و نشطت الأجهزة بمؤازرة ( أو إمرة) الأجهزة "الشقيقة" و اكتشفت "مخبأ" "أبي عدس" و قتلته في اشتباك ما أو اعتقلته و أحالته على محاكمة خاطفة فأعدم ثم طالبت بتثبيت سلطتها جائزة لمهارتها "بصيد" الإرهابيين؟

المذهل أن يتكرر الإتصأل بمكتب محطة تلفزيون "الجزيرة" أربع مرات من جانب "خلية" "أبي عدس" للحثّ على الإسراع في بث الفيديو و مرة إضافية
بوكالة "رويتر" دون تخوف من إنفضاح أمرهم و كأن "الآذان المتنصتة" و "العيون الراصدة" هي "صديقة".

مما لا شكّ فيه أن جريمة الإغتيال تمت في حمأة "استقطاب حاد حول النفوذ السوري" و على خلفية صراع مع الشهيد بشأن التمديد لرئيس الجمهورية و تأمين استمرار حكم أجهزة الأمن المرتبطة عضوياً بالنظام الأمني السوري.

كما أن انخلاع جنبلاط و الحريري عن القبضة السورية و انضمامهما تباعاً إلى الموكب السيادي و التحصن بقرار مجلس الأمن الدولي 1559 زعزع ركائز سطوة أركان القيادة السورية و أثار الهلع و السخط في أوساطها.

و بقدر ما يشكل سلطانها في لبنان طاقة حيوية تنعشها و تعزز موقعها في سوريا بقدر ما تستميت في الحفاظ على امتيازاتها في لبنان. لذلك فهي لن توفر فرصة لإبقاء مواقع نفوذ لها داخله.

من هذا المنطلق يفهم الحديث عن مهلة شهرين أو ثلاثة للمماطلة بالإنسحاب و تفهم جرجرة الخطى في تشكيل حكومة انتقالية نزيهة لقطع الطريق على إجراء إنتخابات نيابية شفافة بإشراف دولي و لتخطي المهل الدستورية فيمدد للمجلس الحالي و يدخل مجدداً من خلاله النفوذ السوري بعد خروج قواته و مخابراته من لبنان.

لكن هذه المناورات و المحاولات مكشوفة للمتبصرين و مرصودة من هيئات المجتمع الدولي وهي حتماً خائبة.

لم يرتق التحقيق اللبناني، حسب تقييم بيتر فيتزجيرالد و فريقه، إلى مستوى المعايير الدولية بل شابته عيوب كثيرة منها إفساح المجال لسحب هياكل السيارات المدمرة و دلائل مادية أخرى من موقع الإنفجار و ترك المياه تتسرب إليه إضافة إلى انعدام التنسيق بين فريق التحقيق الأمني و قضاء التحقيق زد على ذلك بداءة الوسائل التقنية المتبعة.

إن التقصير الفادح في إدارة التحقيق لبنانياً يتطلب محاسبة المسؤولين عنه، إستناداً إلى فريق الخبراء الدولي. و هو يوصي بتفكيك البنى الأمنية الحالية و إعادة بنائها و تأهيل طواقمها ( من رواسب التأهيل السوري) من خلال دورات عالمية راقية المستوى.

لن ينال الإرهاب الجوال من عزيمة أهلنا فقد هزموا قوى الشر بصلابتهم و قد صمدوا.
لن تنجح محاولات صد المد السيادي بتشتيت قواه و فرز تياراته لتتلاطم. فمنارة الحرية و الديمقراطية و الإستقلال و الولاء للوطن هي التي تهديه إلى شاطئ الأمان و موئل الإزدهار و كلما اقترب من الضوء زاد زخم اندفاعه.
بورك هذا الموج الدفاق الذي جعل العالم يرقص على إيقاعه.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

ليست هناك تعليقات: