٢٠.٧.٠٥

الحصار

حميد عواد*


الرجوع ( و لو متأخراً ) عن الخطأ فضيلة.

خاصة إذا أنتج هذا الخطأ ظلماً ناجماً عن حكم قضائي، أُستثتي من مفاعيل العفو العام، ثم بُنِيَ على استنباط الأدلة أو التلاعب بها، و ارتكز على اختلاق الحيثيات، و استند ألى "استقراء" شهادات شهود أُخضعوا للقهر و الإبتزاز، و أدلوا "باعترفاتهم" تحت وطأة الضيق ( Duress ).

مما يكفي لإعتبارها باطلة إن "تنبّه" القضاء إلى عنصر الجبر هذا.

للأسف "سها" القضاء عن هذه العيوب في محاكمة الدكتور سمير جعجع فوقع خطأ جسيم و أُرتكب ظلم في حقه توخّى مدبروه أن يُسحق المظلوم تحت ثقله.

لكن خسئ الظالمون الخبثاء و سقط رهانهم على انهيار الدكتور جعجع داخل السجن الذي زُجَّ فيه تعسفاً.

فقد صمد بعزيمة صلبة عصيت على قساوة ظروف أسره الطويل.

و ها هو، بقلب طافح بالحبور و عيون متألقة بالأمل، يتأهب لمغادرة السجن "الحصين" ليتنشق نسائم الحرية معانقاً زوجته ستريدا الهارعة إليه من مجلس الأمة "لخطفه" إلى منتجع خارج الحدود، لقضاء فترة نقاهة ضرورية للتعافي قبل العودة لملاقاة الرفاق و المؤيدين و للترحيب بالمهنئين.

لقد خاضت ستريدا جعجع نضالاً حثيثاً و مضنياً لإطلاق زوجها من السجن، إلى أن تكللت جهودها بالنجاح، بعدما تهيأت الظروف المؤاتية لتحريره، إثر انسحاب الجيش السوري من لبنان طبقاً لقرار مجلس الأمن 1559.

مما أتاح استعادة حرية القرار و التحفّز للبدء بورشة الإصلاح و تأهيل السيادة و الإستقلال بعد إجراء انتخابات نيابية حرة على قدر ما أتاحه قانون ال 2000 العائب.

و مع زخم التغيير المستجد في صلب المجلس الجديد المنبثق من صياغة تحالفات فريدة، أمكن استصدار قانون عفو عن الدكتور جعجع مقروناً بآخر يشمل المتهمين بأحداث الضنيه و مجدل عنجر.

فهنيئاً لمن يستحق الحرية متى جيّرها لخير مجتمعه و مبروك للدكتور جعجع عودته الميمونة إلى المسرح السياسي.

كلما ارتسم في الأفق إرتياح للتطورات الإيجابية لا تلبث أن تكمده حوادث مفتعلة بخبث و لؤم أو تعصف به تفجيرات إرهابية مجرمة.

إن "الإشتباك" الذي وقع على تخوم منطقتي عين الرمانه و الشياح ( 18 تموز) لا يمكن أن يكون عفوياً و لا بدّ أن يكون معدّوه و المحرضون على افتعاله ينتسبون إلى الوكر ذاته الذي دبّر و حرّض على ارتكاب حادث "ضهر العين" ( 2 تموز) المؤسف.

بديهي و محتقر مقصد مثيري الإحتكاكات المتكررة هذه، فهم يهدفون ألى أشعال نيران خلافات من شراراتها، علّها تصيب هشيماً يسعّرها و يوسّع رقعتها.

"يرفد" شرّ هؤلاء أذى الغوغائيين المتهورين الذين "يمتشقون" سلاحهم و يضغطون على الزناد لإطلاق ( رشق ) "زلغوطة" "ابتهاجهم" التي تحصد برصاصها أرواح ضحايا مساكين.

و من وحي "شرّ البليّة ما يضحك" تحضر ألى ذهننا طرفة ذكية المدلول عن لسان صحافيين كانا يغطيان أخبار مشاورات الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة فؤاد السنيورة مع الكتل النيابية، عندما وجّه أحدهما ملاحظة إلى المسؤول الإعلامي في المجلس النيابي ( إحزروا إنتماءه) قائلاً: "ليش بتضلّك معصّب؟" فإستبق الصحافي الآخر ردة الفعل قائلاً: " إذا معصّب هيّنة، بس كل شي و لا "يبتهج"! "

بعد الإبتسامة نعود إلى العبوس و نسأل: من يحتفظ بالسلاح ( و المتفجرات و السيارات المسروقة! فتّشوا عن مخازنها و مرائبها! ) و لأي هدف؟

ثم حتى متى تستمر مهزلة تبوؤ زعماء مليشيات مناصب رسمية دون تفكيك مليشياتهم و تسليم سلاحهم للسلطة التى هم شركاء فيها؟

بفضل "نشر" أمثال هؤلاء أزلامهم تحولت بعض مؤسسات الدولة و بعض كليات الجامعة اللبنانية إلى "ثكنات" خاصة يحظّر دخولها على "الآخرين".

قرارات الدولة و أمن المواطنين لا يجوز "تلزيمها" أو تجييرها "لمنظمات" ( ذات مآرب) خاصة.

هذه بدع اختزال تحبط استراتيجية الدولة و تعطل عملها و تنقض سيادتها و تقامر بمستقبل أبنائها و تضرّ بالمصلحة الوطنية العليا.

هناك تشابك بالغ التعقيد بين هذه المنظمات "المخضرمة" و البؤر الأمنية "المستضافة" و تلك "المنسية" "سهواً" وراء المنجلين عنا و تيك المتسللة إلينا عبر الحدود مع سورية المشرعة للمهرّبين ( فيماأرتال شاحنات نقل البضائع و المؤن مشلولة على الأبواب الرسمية للعبور تنتظر "الفحص الأمني" الدقيق!).

من خلف ستر هذا الخليط الأمني العجيب، يترصد زارعو العبوات الناسفة و السيارات المفخخة تحركات الناس و الشخصيات السياسية لينصبوا الكمائن و يزهقوا الأرواح، ناشرين الرعب و الخراب، متحدّين الرعاية الدولية لنهوض لبنان، ، مستقطبين مزيداً من نخب المحققين الدوليين ليضطلعوا بحل ألغاز
الجرائم المرتكبة.


آخر حلقة من سلسلة الجرائم الإرهابية هذه كانت محاولة اغتيال وزير الدفاع في الحكومة المستقيلة و نائب رئيسها الياس المر بتفجير سيارة مفخخة في منطقة النقاش بتاريخ 12 تموز.

لحسن الحظ اقتصر الضرر على إصابات غير مميتة ألمّت بالمر و مرافقيه، فيما قتل للأسف البالغ عابر سبيل بسيارته هو المربّي خالد مورا.

لقد أثارت هذه الجريمة النكراء غضبنا و استهجاننا كما حركت في وجداننا مشاعر التضامن مع ذوي الفقيد مؤاساة لهم في محنتهم الأليمة.

فالعزاء و الصبر لعائلة مورا و التهاني للوزير المر و كافة الجرحى بالنجاة مع التمنيات بالشفاء العاجل.

إنّ الإسراع في جلاء خيوط هذه الجرائم تباعاً و كشف شبكة الضالعين فيها و إحالتهم إلى القضاء هو الوسيلة الرادعة و الحاسمة لقطع دابر الإجرام كما هو صمام الأمان و مبعث الطمأنينة للمواطنين القلقين.

فحبذا الإنباء عن كشف مبين!

ليس الهاجس الأمني هو الكابوس الوحيد الذي يحاصر المواطنين فالخناق الإقتصادي يشتد حول اعناقهم و المبادرة "الودية" لأركان النظام السوري "بتقنين" عبور الشاحنات المكدسة بالبضائع و المتوجهة إلى دول الخليج زاد الوضع تأزماً.

هذا الإستغصاص المتعمد هو شبه إغلاق للحدود القصد منه الإقتصاص و الأذية.

أما التذرع بإجراءات أمنية فهراء يكذبه حركة التهريب النشطة بالإتجاهين التي يستوفى منها "رسوم" ( جعالات ) مخفضة عبر مئات المعابر غير الشرعية.

و إذا كان من خطر فهو تسرب الأسلحة و المتفجرات باتجاه لبنان و ليس العكس.

و غريب أن ترتسم حدود المياه الإقليمية السورية بوضوح في أعين المسؤولين السوريين فتعتقل قواتهم البحرية صيادي سمك لبنانيين زعمت أنهم اصطادوا في مياهها، فيما "يعصى" عليها تبيان الحدود البرية و لا تبذل أي جهد لتوثيق ترسيمها رسمياً.

اللبنانيون يتوقون ألى جلاء الغموض عن الحدود الجغرافية و إزالة الإشكالات عن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

و المراقبون يتساءلون إذا كان التقدم الذي أحرزه ديتليف ميليس في استقصاءاته و تحرياته هو الصاعق الذي كهرب "عرّابي" أمن النظام السوري و المحفّز لإتخاذ تدابير "الحصار" الإقتصادي للبنان .

أما الحصار الأدهى فهو "إعادة تمركز" قوى " الإعاقة و الفساد" و"الجرف السياسي" للخزائن و القرار، في مواقع جديدة و بحلّة جديدة.

فلا عجب ألا يحصل "الإنسجام" في التشكيلة الوزارية الجديدة إلا بإقصاء شريحة أساسية من التمثيل الشعبي، عريقة في إلتزامها الوطني، متجذرة في النضال الذي أفضى إلى استعادة الحرية و السيادة و الإستقلال، متشبثة بصدق و تصميم و تخطيط ( برنامج ) بإستئصال الفساد و الإصلاح و التغيير.

الكفاءات ضرورية للقيام بأعباء الحكم، لكن سيطرة الذهنيات العقيمة و الجشعة عليها تحبط الجهود البناءة و تطيح بالإنجازات.

أما بعد، فيصعب التصديق أن الحكم الصالح "يُدشن" بإقصاء طلائع الإصلاحيين! لذا عمره كعمر الكذب، قصير!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

ليست هناك تعليقات: