٢٨.٨.٠٥

مخاض العبور نحو الأمان

*حميد عواد


أيّ انتكاسة، أمنية كانت أم سياسية أم اقتصادية، و إنْ توقظ فظائع شتى في ذاكرة اللبنانيين، الفائقة الحساسية و المثقلة بالهموم و الآلام، تبقى عاجزة عن النيل من قوة تمرّسهم في تذليل الصعاب.

رغم كلفة عالية جداً في الأرواح و الممتلكات دفعها اللبنانيون خلال ثلاثة عقود، حافظ سليلو الإباء و العنفوان على رباطة جأشهم و صلابة صمودهم و تصميمهم على تجاوز المحن.

و كثفوا وتيرة نضالهم حتى قُيّض لتضحياتهم أن تثمر بدعم دولي تفكيكاً لآخر طوق من أطواق الهيمنة و الإحتلال بسحب أفواج الجيش السوري و طوابير "من" مخابراته إلى مواقعهم الطبيعية داخل بلدهم "طبقاً" لقرار مجلس الأمن الدولي 1559.

لقد خُيّل لأركان النظام السوري و قوّاد جيشه أن لبنان سيبقى أسيرهم و ان "امتياز" التصرف المطلق بشؤونه سيُطوّب لملكهم إلى الأبد.

فمارسوا نفوذهم على "رهائنهم" اللبنانيين بقساوة "غريزية" لا رادع لها، و غدا كل انتهاك مباح.

و انتقلت عدوى التنكيل و العبث بكرامة و أرواح اللبنانيين من رأس الهرم إلى أسفله و إلى المقربين و الأقربين.

الكل يذكر "خطبة" "الحجّاج" "المحرجة" خلال حفل خطوبة ابن الرئيس عمر كرامي عشية التجديد للرئيس الهراوي.

و الكل يذكر كيف "تصرّف" إبن "الحجّاج" و حرّاسه بإبني أخت الشيخ بهجت غيث عندما انزعج من ضحكهما خلال وجودهما إلى طاولة مجاورة لطاولته في أحد مطاعم منطقة الروشه.

و الكل يذكر كيف أصبح انتحال صفة "مخبر"، جواز عبور يومي للسارقين و غطاء ارتكاب متكرر للمجرمين.

"المآثر" المشهودة و السرّية لكل "حجّاج" تولّج "الأمن و الإستطلاع" في لبنان كَوَت السياديين و "غسلت" بحممها السياسيين و اخترق سيلها كل الميادين و تركت بصمات لا تمحى و لا تموّه، أما لسان حال صاحبها فقول المتنبي:

إي مكان أرتقي أي عظيم أتّقي
و كل ما قد خلق الله و ما لم يخلق
محتقر في همّتي كشعرة في مفرقي

لكن يبدو أن طيف الشهيد الرئيس رفيق الحريري يراود بإلحاح مهاجع "الحجّاجين" الذين اغتيل في كنف رعايتهم الأمنية اغتيالاً مدوّياً، لأنهم يتطيرون لتبلغهم استدعاء من المحقق الدولي ديتليف ميليس فيجفلون من المثول أمامه لإستجوابهم.

و كي لا يبقى لبنان "متنفساً" لإحتقاناتهم على الحدود أم في الداخل من الملائم أن يبادر الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة كوفي أنان إلى الطلب من مجلس الأمن، إما إحالة القضية إلى محكمة الجنايات الدولية، أو إنشاء محكمة دولية خاصة تقاضي من يثبت ضلوعه في هذه الجريمة الإرهابية الخطيرة.

و يرجّح أستاذ القانون الدولي في جامعة ستراسبورغ، الدكتور دريد بشراوي الإحتمال الأول محللاً:

"وهناك فرضية ثانية، هي الاكثر ترجيحاً، تقول بأن يعتبر مجلس الامن الدولي اغتيال الرئيس الحريري جريمة ضد الانسانية، لأنها كانت في اطار خطة منهجية للقضاء على مجموعة معينة وضرب الوحدة الوطنية واثارة الفتن والحروب الاهلية التي بدأت مع محاولة قتل الوزير مروان حماده واستمرت مع اغتيال الصحافي سمير قصير والامين العام السابق للحزب الشيوعي والتفجيرات الاخرى. فتحال الجريمة برمتها ذلك على المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي."

عندها يسهل فك ألغاز عمليات اغتيال أخرى طالت حياة شخصيات مرموقة عديدة و تُرفع تدابير الحماية الإستثنائية التى أقيمت حول شخصيات سياسية مُستهدَفة، أقعدت بعضها في مساكنها و أبعدت بعضها الآخر خارج حدود الوطن لتنأى بها عن مرمى الخطر.

لقد حاز تعاون لبنان مع لجنة التحقيق الدولية على تنويه تقديري في التقرير الإجرائي الذي أعده ديتليف ميليس و قدّمه إلى الأمين العام كوفي أنان.

و نحن إذ نثني على إقدام الأجهزة الأمنية على كشف ثلاثة مخازن للأسلحة و المتفجرات بدا أنها "خارج الإستعمال" نحضها على المثابرة و مداهمة "الأوكار" الناشطة في تعكير الأمن، و نرى أن نقصاً في اتخاذ تدابير الرقابة و الحماية الإحتياطية من غدر المجرمين، ما زال يعرّض أرواح و ممتلكات المواطنين و المقيمين للخطر و يخرّب موسم السياحة و يقوّض الإقتصاد و ينفّر المستثمرين.

و هذا الخلل يؤكد ضرورة إنتقاءٍ متأنٍ لرؤساء أكفياء أوفياء للوطن يضطلعون بمهام رئاسة الأجهزة الأمنية بعين ثاقبة يقظة و ضمير حي.

و التفكير في الضرر الإقتصادي الفادح، الناتج عن زعزعة الأمن، يقودنا إلى شكر سمو ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز على "تطميننا" بدوام الدعم لمسيرة تعافي لبنان، و يحفزنا على تقدير وزير الطاقة القطري عبد الله بن حمد العطية على لهفته الصادقة، التي أبداها خلال لقاءاته المتتالية مع مراجع سياسية و روحية في لبنان، حيث دعا إلى الإحجام عن المهاترات الإستفزازية ( خاصة و أن البعض استغلّ زيارة "شعلة الحرية" لينفش ريشه و يطلق سهامه ) والإقدام على مبادرات ترسّخ الوفاق.

كما حثّ الحكومة على الإفادة من فائض السيولة في الدول النفطية، الناتج عن ارتفاع أسعار البترول، فتسهّل سبيل المستثمرين بتبسيط المعاملات الإدارية و سن قوانين ثابتة و واضحة تحوز ثقتهم و تضمن توظيفاتهم في ظل وضع أمني مستقر.

و كي يستقر الأمن لا بد من إعادة تأهيل وتنظيم الأجهزة الأمنية لتتمكّن الحكومة من الإمساك بناصية الأمن دون منافس أو شريك فتبسط سلطتها على كامل أراضي الجمهورية اللبنانية، مدعومة بالضمانات الدولية التي تحصّن و تصون لبنان بعد الإنخراط الفاعل في تحريره.

إذن من يحرص على بناء دولة القانون و المؤسسات لا ينازع الدولة على الأمن "بجيشه" الخاص.

و من يسعى إلى تعزيز الوحدة و الإستقرار لا "يخطف" الأجيال الناشئة و يحجرها في عزلة عن أصوانها ليلقنها عقائد إنفصالية.

و من يريد ترسيخ الثقة و الوئام و يتطلع إلى مستقبل مشرق، لا يشجع الإنجاب العشوائي الكارثي العواقب، لينتشي بالإقتراب من "النصر" الآيل إلى السقوط في هاوية الفقر و الجوع والمرض و الجهل و التناحر.

يُبنى الوطن على أساس صفاء النوايا و الوئام والولاء النزيه للكيان، والإجتهاد في تأمين كل مقومات النهوض و التنمية، بشرياً و مادياً و حضارياً، التي لا تزدهر إلا في بيئة السلام.

و لا يقوم على قاعدة إعداد مشاريع حروب ضروس تستنفر العصبيات و تستهلك الإنسان و العمران.

لبنان بجناحيه المقيم و المغترب يملك الرغبة في والقدرة على المساهمة في إحلال العدل و السلام، فإذا تعذّر على حامي الوطيس، المتعطشين إلى خوض معارك في ساحات الوغى، تبريد هممهم، ليفتشوا عن ميادين خارج هذا الوطن لأنه أعيد تكريسه موئل حرية و سلام و إزدهار.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون البنانية

ليست هناك تعليقات: