٣.١٠.٠٥

قريباً تزول الألغام يا مي

حميد عواد*


من خارج "جدول" الإغتيالات "المتداول"، "انتخب" مهووسو الإجرام مي الشدياق لخطفها من الواجهة الإعلامية و لإنتزاعها من قلوب المعجبين بشخصيتها الذكية و الجذابة.

ذلك أن لبنان، محضن التاريخ المتوّج بالأرز الخالد، و وطن العزة و الكرامة و العنفوان، و محفّز الطموح الجامح و التنقيب الشغوف عن المعرفة، و موئل الإنسان الخيّر و الخلاّق، و منتدى الثقافة الصاخب، و منبت الثمار الطيبة، و منتجع الضيافة الكريمة، و معقل الحرية الصامد، شُرّع قسراً لغزوات قبائل متخلفة شرسة، صُدّت معظم أصولها عنه، لكن بعد أن أمعنت في نهش أحشائه، ثم "توارت" مخلّفة وراءها فروعاً تيتّمت دون أن تتخلى عن إرث ممارسة الإجرام الذي دربها عليه أهلها.

لا يضاهي تصميم اللبنانيين على التخلص من بؤر التخريب و الإرهاب و التفجير و القتل، و على الإنطلاق بورشة الإصلاح و التأهيل، إلا حمّية و همّة المجتمع الدولي الهارع إلى المساعدة لأنه أصبح "أم الصبي".

لقد دفعت نجمة الإعلام المتألقة مي الشدياق ضريبة باهظة الكلفة، ثمن الرأي الصادق و الجريء و الحر الذي لقي صدىً طيباً في مسامع مشاهديها.

استهدفها الجزّارون، عبدة رموز العنف و السحق والسحل، لأنها تمثل قبساً نيّراً من شمس 14 آذار الوضّاءة.

تعطشوا إلى جرعة جديدة من دم طيّب لأنهم أدمنوا على هدر الدماء الزكية لينتشوا بها.

أرادوا افتعال صدمة جديدة ليهزّوا بها وجدان محبّي لبنان الحر و الديمقراطي الفذ. فاختاروا مي العصامية المناضلة التي رافقت الناس عبر شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال منذ تأسيسها، فتبوأت، عن استحقاق، موقعاً مميزاً في المؤسسة و في قلوب الناس.

شاء لقطاء أسياد الإرهاب أن يغطّوا فظائع من تبنّاهم فامتثلوا لأوامرهم و استمروا في التورط في حلقة الإغتيالات الجهنمية، فكمنوا للنمرة مي و فجّروا عبوتهم تحت سيارتها، فاقتطعوا نصف أطرافها.

هذا التفجير الآثم فجّر جام غضب عموم الناس و الشخصيات التي برز بينها مسؤولون في الإدارة الأمريكية و في جمعية الأمم المتحدة، إضافة إلى الرئيس الفرنسي الذي خصّ مي برسالة تعاطف معها عبّر فيها عن "حزنه" لإصابتها البالغة و عن أدانته "لوحشية" الجناة و عن تمنياته لها "بالسلامة".

ظنّ عملاء أساطين "القبضة الحديدية" أن الإرهاب الجوال يشيح الإنتباه عن ذنوب و معاصي آلهتهم "فيُظننّ أن "الإثم" حيث يُنظر".

لكنً ثلاثة آلاف صفحة من التحقيقات في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، حصيلة استقصاءات و تنقيبات المدعي العام ديتليف ميليس و فريقه الدولي، يضاف إليها فصول جديدة عن "عجائب ممالك الخليوي" و "صندوقها الأسود" ستكشف ليس فقط حبكة "أُمّ جرائم الإغتيال" و إنما سلسة أسرار عن مسلسل الجرائم التي سبقتها و لحقتها.

رغم اتخاذ الحكومة اللبنانية بعض التدابير النافعة كتكثيف الدوريات، لوقف تسلل المارقين عبر الحدود مع سوريا، و حشد عناصر من الجيش على مداخل بعض البؤر "المحيّدة" عن سلطة القانون و التوسع في مداهمات مواقع الشبهات، فإن متطلبات التصدي للوضع الأمني المعقّد تفوق قدراتها.

و لتعويض هذا التقصير طلب رئيس الحكومة فؤاد السنيورة مزيداً من الدعم الدولي الجاهز غبّ طلب الحكومة. حتى أن الرئيس الدوري لمجلس الأمن عرض عليها توسيع صلاحيات فريق التحقيق الدولي لتشمل سلسلة التفجيرات المتلاحقة إن طلبت ذلك رسمياً.

شغف المجتمع الدولي لإنتشال لبنان من كبوته و لإنعاش ديمقراطيته و تزخيم رسالته الحضارية، بزّ اهتمام حكومته و لم يهدأ رغم انشغال كل من دوله بمشاكلها الداخلية ( يكفي التذكير بأضرار و ضحايا الإعصارات في الولايات المتحدة ليزيد تقديرنا و امتناننا لإدارة الرئيس بوش ).

و ما تشكيل اللجنة الدولية التأسيسية لمساعدة لبنان خلال اجتماعات نيويورك و عزمها على الإنعقاد لاحقاً في بيروت خلال شهر تشرين الثاني إلا دليل على جدية المثابرة.

و بما أن السعودية و مصر هما شريكان أصيلان في هذه اللجنة نتساءل عن جدية و جدوى وصف البعض هذا المنحى "بالتغريب". و كأنه جرّد هاتين الدولتين العريقتين من عروبتهما ( جعلهما "ممنوعتين من الإعراب") ليحتكر لنفسه امتياز "التعريب".

هؤلاء ارتضوا و تمسكوا بوصاية النخّاسين حتى إخراجهم بقرار دولي من لبنان (1559) و ما زالوا يحنّون إليها، فيما هم يدأبون على التشكيك و التريّب بنزاهة النخوة الدولية لمؤازرة قيامة لبنان السيد الديمقراطي الحر المستقل، و لحفظ كرامة و حقوق الإنسان فيه.

كأن الإصرار على إبقاء لبنان ساحة مباحة لسفاكي الدماء هو ذروة الوفاء لأفضال الوطن عليهم.

سألت مي أمها على وقع الصدمة: لماذا أنا؟

لكنها متى استعادت وعيها كاملاً تعرف أن استهدافها هو حلقة في سياق استدراج فاشل لبثّ مشاعر التفرقة،
و محاولة خائبة لزعزعة الإستقرار،
و تجربة عبثية لإحباط الحضانة الدولية،
و تحريض سافر على مناهضة و استعداء المجتمع الدولي،
و تهديد دائم لإرعاب المواطنين و إرهاب السياسيين و إبعاد أو حجر القياديين، كما هو دعوة لإستقدام و إستقطاب مزيد من الموتورين،
و هو قبل كل شيء ابتزاز دموي لتعديل نتائج التحقيق الدولي.

الثمن الباهظ الذي قدًه المجرمون من قدّك يا مي زاد "مهر" خلاص و تعافي الوطن قيمةً و جمع اللبنانيين، في بوتقة محبتك، بعروة الولاء له.

درب الإنقاذ و البناء شاقّ لكننا مشيناه مصممين على النجاح بمواكبة و مساعدة الأصدقاء. سنزيل الألغام خطوة بعد خطوة و لن نخاف.

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

ليست هناك تعليقات: