٢٢.١١.٠٥

الإستقلال: وثبة من الديجور إلى النور

حميد عواد*

أراد روّاد النهضة و التحضّر، من اللبنانيين الطامحين، أن يشيّدوا صرحا للثقافة الخلاّقة و مختبراً للديمقراطية في واحة خصبة، و منبراً للفكر المجلّي و معقلاً للحرية الرشيدة و محضناً لنضج و تكريم الإنسان، و موئلاً للوئام النموذجي و محراباً للعدالة النزيهة، فتأنّوا في بناء لبنان.

رسالة المحبة و التنور و الإنفتاح و التسامح هذه، بدل أن تلقى التجاوب الطيب من المحيط القاحل المتعطش للإرتواء، استهدفت بسهام طغاته و فاتحيه على مر العصور.

لقد برهن صفوة اللبنانيين و قدوتهم، عبر تاريخهم الحافل بمحطات التحدي الخطرة في مواجهة العدوان و مقاومة الإحتلال و رأب التصدعات، أنهم متشبثون باستقلال وطنهم و جديرون به.

فقد بذلوا تضحيات جسام بلا حساب، بشجاعة و تفانٍ و صبر وعزّة و إباء، و برعوا في حشد طاقات التصدي للإحتلال و تغلبوا على المكائد و الكبوات بتيقظ الضمير، مزودين بذخيرة التفاهم و التضامن، و مستنيرين بوهج العنفوان و الوفاء المتوقدين في وجدانهم الوطني.

كلما تضافرت الجهود و اتسع نطاق الوفاق، كلما تزخّمت القوة الضاغطة لأبناء الوطن.

المثال الحي على ذلك محطة الأمس الإستقلالية التي أدت إلى الإنعتاق من نير الإحتلال السوري إذ تمّ جلاء الجيش السوري عن أرض لبنان في 26 آذار المنصرم.

تمّ التمهيد لهذه الخطوة المجيدة بمسيرات نضالية شبه دائمة نظمها أبناء التيار السيادي على مدى 15 عاماً حتى أبرمتها الإرادة الدولية في قرار مجلس الأمن 1559.

و ما سرّع بلوغ الهدف هو اتساع المدّ السيادي في خضمّ الغضب الشعبي الذي فجّره وأجّجه إغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، فتدفق السيل البشري في 14 آذار هدّاراً.

لقد بلغنا مرحلة إعادة تثبيت ركائز الإستقلال، فلنحرص على تنقيتها من رواسب التبعية و الإنتهازية التي علقت ببعض النفوس، و لنطهرها من نوايا الرهان على خصب "الخمائر" البشرية النشطة بهدف "طمس" أقانيم التنوع اللبناني المميز الإبداع، و لنميط عنها عمى التقوقع في عزلة بعيداً عن التناغم مع الشركاء و التفاعل مع حركة التطور، و لنجنبها الإنزلاق في زندقة مريبة تنحطّ إلى مستوى خيانة الوطن.

الإستقلال الراسخ هو ضمان لحياة حرة و كريمة و هانئة و زاهرة. و هو يستمدّ قوته من صلابة إيمان المواطن بعظمة وطنه و من قدر الجهد المبذول و العطاء الموفور لتدعيم مناعته.

و لبنان مدعاة فخر و اعتزاز لكل لبناني أصيل و وفيّ. فهو متحف تاريخي و حضاري و جنّة طبيعية غنّاء و تراث فكري و ثقافي غنيّ و مهد لإنسان متوقد و متوثب ضاقت بطموحه الأرض فإنتشر في أقطار الكون حاملاً قيم الشهامة و شغفاً بالمعرفة و ولعاً بالإكتشاف و تعطشاً للعمل المنتج و الخيّر و المجدي. لبنان المتواضع عظيم بمنزلته في سجل التاريخ و بعلو المراتب التي تبوأها أبناؤه.

و الوطن الصغير بمساحته كبير بمقلبيه، قوي بجناحيه المقيم والمغترب. فتناسق حركة الجناحين مكّنه من التحليق مجدداً في أجواء الحرية و الإستقلال.

نحتفل اليوم بذكرى الإستقلال بفرح و حبور و فخر بعد انقطاع لسنوات انقلبت فيها معانيها من عرس إلى مأساة.
فَتَحية إجلال لشهداء الإستقلال الأبطال الذين ما استهابوا الموت كُرمى لإنبعاث الحياة.

و تحية تقدير لكل قائد كرّس نضاله لإستعادة الإستقلال فاضُطهد و ضحّى في سبيله.

والشكر الجزيل لمجموعات الضغط الإغترابية التي صبّت جهوداً حثيثة و مثمرة لنصرة لبنان في المحافل الدولية.

و بورك المناضلون الأباة من أبناء وطني، الذين تحدّوا القمع و التنكيل بجرأة و شجاعة مدهشتين في ساحات المواجهة داخل الوطن، ليحيوا الأمل بالحرية و يدعموا الحق بالإستقلال.

و بعد، إدراكاً منا لأهمية الإستقلال في منعة و استقرار الوطن، و تقديراً للتضحيات التي بُذلت من أجله، لِنقطعْ على انفسنا عهداً و ميثاق شرف بألاّ نفرّط أبداً بهذه الأمانة الغاليةّ!

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية

ليست هناك تعليقات: